الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحرين... بصوتها المنزوي

البحرين... بصوتها المنزوي
20 يوليو 2016 21:02
آمنة باروت رأيتني أسير على الشارع الطويل، الممتد أمامي بلا انتهاء، معلقين فوق أحد الجسور الثلاثة، فتحت نافذة قلبي، ولاح فيها ذلك النوع من الأسى والحزن الشفيف والذي ندركه بعجب واندهاش. ففي لقائي الثاني مع البحرين فقدتُ حلماً وقصة حب غير مكتملة حتماً. في ذلك اليوم على وجه التحديد من نيسان فقدت نفسي وصوت الدكتور حسن مدن يردد على مسمعي «آمنة.. كيف هي البحرين؟». وحدهم الخائفون من القادم، المنعزلون عن العالم، الزائغون من كل ما يحصل، الساهبون الشاخصون، الصاخبون بكل فراغهم وفوضاها، العاجزون الثملون بالظلمة القاتمة، هم أكثر المنزوين القادرين على الاستلقاء فوق الكلمات حتى وإن اتخذوا من الفظاظة مدخلاً، حتى وإن اتخذوا من الحياة سلماً، ومن الموسيقا هرباً، ومن الحياة واقعاً عذبا لسعاً. في آخر ساعات ذلك المساء رغم انتشائي بالحفلة الموسيقية التي حضرناها مع الأصدقاء، ورغم انتباه جسمي لأغاني شوارعها بعد ذلك، وصوت جسورها المتعبة، ونحيب بحرها الذي آلم أذنيَّ حتى جرحَّهما، تمنيتُ لحظات لقائي الأول معها حين كنت طفلة، ووددتُ لو كنت أصغر، ولا أفهم هذه الغربة المستكينة الآن والمستسلمة للأصوات الغارقة فيّ. على سريري أتأمل سقف غرفة الفندق، وأعود إلى صوت تقلُّب صديقتي، أعود لأمنح البكاء لحظة صمت، وللرجفة لحظة وهن ولتمتمات حوافي لحظات لا تكل من الانتظار، خاصةَ في الأماكن المنسية بالنسبة لي... أعود لأستذكر تفاصيل هبوطي الأول فوق أراضيها، وقتها كانت طرقات البحرين أكثر رحابة وأريحية في قلبي، نهارها ناسبني وبدد مخاوف كثيرة داهمتني، وليلها الذي طبطب حينها على جبيني المرتجف وعيني الصاخبة بالطرق التقليدية. أظن أننا لا نحتاج إلى شيء بقدر احتياجنا لتلك التفاصيل المشابهة للحب الجديد، والسعادة المنتشية، والحديث الرقيق اللحظي، يجعلنا نرى الحلم جميلاً، وورديَّةُ الأطراف تتبدد لتغفى فوق شفاهنا وتدغدغ رموش أعيننا، يعاد السؤال بكامل صوره «آمنة.. كيف هي البحرين؟»، فأستحضر كل شيء، كل شيء.. نعم كل شيء. وجوه الأطفال، وحداد يقول «أولئك الأطفال الخضر، أولئك الأطفال الصغار جداً.. إني أراهم الآن كالأسماك الملونة»، وطرق «فرجانها» الضيقة، نظرات النساء وضحكاتهن المتطايرة، ونظرات آخرين تستحيل موسيقا أخيرة، ولذة سجائر في لحظات احتضارها الأخيرة، حمرة حلواها الرائقة، وطعم الشاي المغلي للحاج عبدالمحسن، ورائحة أصواتهم وهي تنادي «من يشتري...»، وأسواقهم العذبة، وتمازجهم الذي أتاح لنا فرصة أن نرى الناس ونسمعهم ببريق أشياءٍ ترِّن بلا انقطاع، وصولاً للحظة الخلود... وحتى بيوتهم الرائعة ببساطتها المبكية، وأرواحهم المحيطة «باستكانات الشاي بالنعناع»، والقهوة المستديرة في المقاهي الحيَّة صبحاً ومساء، غروباً وليلاً!. جئت هذا العام بخيالات واسعة، ومفردات مشعة تتكرر وتحتار، تخاف وتلجأ لي لتثير إزعاجي، لا لستُ منزعجة من شيء، ولا ناقمة... لكني جئت البحرين هامسة بروحي الهاربة، شاعرةَ بأنها قادرة على فتح باب السماء لضمِّ عيني ودمعها، قلبي وحيرته، يدي وعروقه، تعير انتباهاً لحبِّة شباب بادرت جبيني وقبَّلته لبعض الوقت. أكتب الآن لأن هذه الجزيرة لم تعد جزيرة كما نراها وكما يراها البعيد، أكتب لأنَّ هذه الجزيرة تحولت إلى أخرى لم أعرف ملامحها، أكتب لأنها تحولت إلى مدينة أسمنتية، تجاوزت بحرها وطمرته لتبني وتعمِّر، أكتب لأني التقيت بها في طفولتي ومراهقتها أو شبابها، وها أنا الآن ألمح بغصِّة تسارع هرمها وبروز شيخوختها!! قد لا تكون كذلك، وأكون أنا السيئة الغارقة ما بين حزن وحزن، وأنادي أسئلتي ولا أسمع جواباً سوى زلزلة الورق تحت حبري، فمنذ صغري وأنا أقول إنَّ الحب لا يكون إلا في الزيارات الأولى لكل دولة أو مدينة، ويتبدد هذا الحب مع كل زيارة، واليوم أجد أنَّ هذه النظرية الساذجة تزمجر عن نفسها وتنتصب لتؤكد فداحة أحقيّتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©