السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حديث العين.. لُغاتُها

حديث العين.. لُغاتُها
20 يوليو 2016 20:28
سعيد بنگراد تُبصر العين وستظل تفعل ذلك إلى أن تنطفئ جذوة الحياة في الجسد الذي يحملها، فتلك وظيفتها الأصلية وذاك مآلها، لذلك لن ترى سوى ما يأتيها من الإبصار ذاته. إنها لا تقوم سوى بأداء دور بيولوجي مشترك بين كل الكائنات الحية، ولكنها حين «تنظر» فإنها تنزاح عن هذا الدور لكي تُنتج شحنة دلالية تحتاج إلى «معرفة» جديدة لا علاقة لها بفعل البصر، فهي من المضاف الثقافي وحده، فنحن جميعنا نبصر ما حولنا ونتبين طريقنا وموقعنا داخله، ولكن القليل منا يُجيد فن «النظرة»، تماماً كما نمارس الرقص والغناء وفن الإلقاء خارج النفعي في أجسادنا، فهذا وذاك لاحقان للحركة وطاقة النطق فيها، وضمن هذا المضاف أيضاً تعلمنا كيف نبتسم، ولا أحد هدانا إلى الضحك فهو انفعال راسخ فينا. لا يمكن فهم حركات الجسد البسيطة واستيعاب دلالاتها إلا من خلال استحضار السياقات الثقافية التي تجعل تحريكاً خاصاً للعين أو تلويناً في الصوت أو إيقاعاً في الجسد دالاً على معنى أو معان بعينها، فنحن عادة ما نحتمي بالنظرة حين تتقلص مساحات اللفظي في حياتنا أو تختفي، تماماً كما لم يكن الجسد الراقص عند الزنجي ترفاً، ولم يكن الغناء عنده مجرد تنويع صوتي على أصل صامت في الكتابة وفي كل أشكال التعبير الغْرافي، لقد كان الإيقاع المضاف فيهما بديلاً عن لسان استعصى عليه الكلام في مهاجر القيْد، ففي هذا وذاك عودة بالجسد إلى أصله الناطق في «المتعة» وحدها، فهي التي تقوده إلى الخروج عن ضوابط الاجتماعي وإكراهاته، وقد تكون تلك هويته الأصلية التي نسيها أو دفعوه إلى تناسيها. والحاصل أننا، في جميع هذه الحالات، نلج عوالم الرمزي حيث يتحرر الجسد داخلها من الوظائف النفعية لكي يُفجر طاقاته التعبيرية في كل الاتجاهات. ففيها وحدها يمكن أن يقول ما حرّمته التقاليد أو استهجنته الأعراف الاجتماعية أو استكرهته تعاليم الدين. ذلك أن المتعة والشهوة في الجسد أقوى من يافطات السكون فيه، فهو الحقيقة التي حاولت كل «المؤسسات تجاهلها قديماً دون جدوى، وتحاول اليوم تمجيدها لغايات الربح وحده»(1). وربما تكون العين من أكثر المناطق في هذا الجسد قدرة على تنويع حضورها في شكلها وفي دلالات منظوراتها، فهي باب شارع على عوالم فيها الأحاسيس والانفعالات والمواقف ومقومات الهوية أيضاً. إنها عين كل شيء، العقل والقلب والصواب والميزان. لذلك، لا تكتفي بالرؤية بل تُقَطِّع المدرك وفق هواها، وهي لا تبصر فحسب، بل تسمع وتحب وتهدد وتبتسم وتتقزز أيضاً. «إن النظرة فيها تبحث دائماً عن شيء أو كائن، إنها علامة قلقة، فكما تود الأيدي أن ترى، تود العيون أن تداعب»(2). إننا نبحث بعيوننا ونختار بها، وفي النظرة نُودع رغبة أو حسرة أو أسى، ذلك أن في «النظر الرجاء» (لسان العرب). أصل الحياة.. نظرة استناداً إلى ذلك يمكن القول إن الأصل في الحياة نظرة، فقبلها لم يكن الوجود سوى كتلة مادية تتحرك أمام العين دون أن تكون قادرة على تبين إيقاع الحياة فيها. والسيكولوجيا البصرية صريحة في ذلك، فالرضيع لا يرى في أيامه الأولى سوى ضوء أو أشعة لا يستطيع تثبيتها في نظره، وهو ما يحاول القيام به بعد ذلك دون جدوى، حين يرغب في أسبوعه الثاني الإمساك بشيء تراه العين، ولكنه يظل موجوداً خارج نظرتها، ولن تستقيم النظرة في عينيه إلا في الأسبوع السادس، ففيه وحده يتشكل الوجود ويستقيم أمامه في أشكال تُمسك بها العين وتميزها عن غيرها، حينها فقط تبدأ الحياة(3). وإلى ذلك استندت التنظيرات الخاصة بالتواصل البصري وامتداداته في محيطه اللفظي واللمسي، أي ما يشكل مجمل أشكال التواصل عند الكائنات العاقلة في هذا الوجود، فالنظرة تُخبر، أو هي مصدر محتمل للأخبار، إنها تبحث عما تود الوصول إليه أو تبليغه، وهي رابط بين الناس، فهؤلاء يبحثون عن صدق الكلمات وحرارتها في العين قبل الصوت، وهي بالإضافة إلى هذا وذاك ممتدة إلى ما تحدق فيه، إنها تلمس وتتحسس وتداعب ما تراه العين، وتلك هي الوظائف الأصلية في كل الروابط بين الناس: ما يعود إلى الإبصار وما يمكن ترجمته في اللفظ وما يتجسد في الحس اليدوي(4)، فمن العين اشتُقت المعاينة، أي ما يؤكد الإشهاد والإثبات والتسليم بوجود حقائق موضوعية لا يمكن أن تنكرها العين نظرة وإبصاراً، ذلك أن النظر هو«تأمل الشيء ومعاينته»(5). وضمن هذا المضاف وسَّعت هذه العين من دائرة الأداء فيها، لقد أصبحت قادرة على التحكم في حركاتها وأشكال وجودها فتحولت إلى أداة حاملة لنظرة فيها «القلق» و«الاستغاثة» و«الوعد» و«الوعيد» و«الهزيمة» و«الاستسلام» و«الحقد» و«الكراهية» و«الحيلة» و«الخبث» و«التواطؤ» و«التصميم» و«القسوة» و«الحنان» و«التهديد» و«الإغراء» وشحنات أخرى من انفعالات تحتاج إلى كثير من المفاهيم لكي يتضح مضمونها، ومن خلال ذلك كله «تستغيث» و«تستنجد» و«تتوسل» و«تتوعد» و«تومئ» و«تقتل» و«تعذب» وتشعل النار في الأفئدة، بل «تُسقط الزَّرْزور من فوق السوٍر». نحن هنا أمام مجمل ما يستثير كل الأحاسيس الممكنة التي تشكل هوية الإنسان وتختصر وجوده الانفعالي والعاطفي. كوّة على الداخل وفوق هذا قد يكون شكلها ذاته كوة نطل من خلاله على ما في النفس من النوايا، أو من صفات كالدهشة والبلادة والانبهار، فهي مفتوحة إلى أقصاها، أو مسبلة أو شبه مغلقة، وإلى ذلك يُضاف الأسود والكحلي فيها، مثلما أن الأزرق والبني والعسلي، منها، صفات لانتماءات جغرافية أو أصل «عرقي»، فليس هناك عضو في الجسد قادر على أن يكثف داخله كل ممكنات النفس وطاقاتها، كما تفعل العين ذلك، بل إن الهوية ذاتها لا يمكن أن تستقيم إلا في العينين وحدهما، فقد يكون الوجه هو آخر نقطة تستثير الرائي، فهو ما نتذكره عندما ننسى كل شيء من أناس أحببناهم أو كرهناهم، ولكن العين وحدها ستظل سدرة المنتهى في الجسد، والنقطة التي تنتهي عندها خصائص الهوية وفيها تستقر. استناداً إلى هذه القدرة أيضا تعلمت العين كيف تُجزئ المدرك البصري وفق تصنيفات دلالية مسبقة انطلاقاً منها يتحدد «الموقف» من موضوع نظرتها، فهي تودع طاقات الإبصار وممكناته في نظرات تتفاوت في الدلالة والعمق والامتداد. إنها، في كل حالة من هذه الحالات، لا ترى بالحياد فيها، بل تنحاز إلى معنى بعينه، قد يكون الإبصار أصله، ولكنه ينزاح عنه ليضيف إليه تنويعاً دلالياً جديداً. فهي تختلس النظر حين تلمح، وتتوعد وتهدد حين تحدج، وتتهيب وتنظر شزراً مخافة أو نفاقاً أو عداوة حين ترنو، وهي تفتح نفسها لاستيعاب ممكنات منظورها حين تحملق، وهي تلمع وتتلألأ حين تبص، وتكشف عن الشيء وتُجلي جوهره حين تشوف(6)، لذلك كان للعين رابط مع الوضوح والشفافية. إنها في كل هذه الحالات لا تبصر، بل تصوغ مواقف أو تعيد تشكيل موضوع الرؤية استناداً إلى فعل النظر لا الإبصار فيها. استناداً إلى هذا كان الناظر للشيء غير الناظر فيه، كما جاء في لسان العرب، فالنظرة عند الأول تتم بالعين، فيكون ذلك معاينة ومشاهدة، أما عند الثاني فتتم بالقلب فيكون الأمر تأملاً وتدبراً. وهكذا «إذا قلت نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكراً فيه وتدبراً بالقلب». تماماً كما هو الفاصل بين من شاهد الواقعة إذا رآها تقع بين ناظريه، وبين من شَهِدها، إذا شارك فيها وكان جزءاً منها، ومن ذلك أن النظر يحيل على التفكير والتمحيص وتقدير الأشياء بالعقل، وقد يكون النظر رأياً أو قولاً أو جهة ما، استناداً إليها نقدر حجم الأمور وعمقها أو ضحالتها، ومنها اشتُق الانتظار بما هو توقف وتريث وتمهل، وهي جميعها دالة، في العموم والخصوص، على انزياح عن ممتد زمني تود الذات تأمله بالعين والبصيرة من خارجه. دلالات النظر ليس غريباً أن يميز الباحثون في كل الميادين بين النظرية إذا كان التأمل مجرداً يبحث في القوانين والقواعد العامة، وبين التطبيق إذا عاد الباحث إلى موضوعه يسائله ويبحث في مستوياته وطبقاته، ففي الحالة الأولى، عليه أن ينفصل عن موضوع التأمل ليستخرج قوانين عامة هي النموذج الذي يمكن أن يعمم على كل الموضوعات المشابهة، وفي الثانية يبحث في هذه القوانين عن شكل تحققها في الوقائع المفردة والمعزولة. وربما يكون ذلك هو الأساس الذي بُني عليه التمييز بين الناظر الذي لا يقوم سوى بالنظر، وبين «النظور الذي لا يغفل النظر إلى ما أهمه» (لسان العرب) أي يصبح جزءاً من الناظر إليه، الأول معني بالنظر إلى ما يمثل أمامه، أما الثاني فمعني بجوهر ما ينظر إليه ويتأمله، والناظور هو الحارس لكي شيء. ومن هذه الزاوية اتخذ «النظر» دلالات اصطلاحية عادت به، في الغالب من الحالات، إلى روح صوفية تمنح القلب قدرة على النظر. لذلك قيل إن النظر هو: «طلب المعنى بالقلب من جهة الذكر، كما يطلب إدراك المحسوس بالعين، وأول موقع العين على الصورة نظر، ومعرفة خبرتها الحسية بصر، ونفوذه إلى حقيقتها رؤية، فالبصر متوسط بين النظر والرؤية، وقال غيره: تقليب البصر أو البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص»(7). وفي هذا السياق كان النظر العقلي: «مَلَكة الانتقالِ من الأدلة إلى المدلولات، وهو معنى النظر العقلي الذي يُكسب العلوم المجهولة فيُكسب بذلك مَلَكةً من التعقُّل تكون زيادةَ عقلٍ، ويحصل به قوة فطنةٍ وكَيس في الأمور»(8). فقد ترى العين بالإبصار محسوسات الوجود وكائناته، ولكنها لن تدرك كنهها إلا بالنظر، أي بالقلب الذي يحس بما لا تراه العين إبصاراً. نحن في نهاية الأمر أمام عمليات تكثف في العين كل ما يمكن أن يصدر عن القلب والعقل، كما يكثف فيها ما تبقى من المنافذ الحسية، فقد ندرك عالمنا من زوايا اللمس والشم والذوق والسمع، ولكننا نستطيع أن نلمس ونشم ونتذوق ونسمع بالعين وحدها، إن العين شاملة لكل المنافذ. وليس غريباً أن تُسند إليها في الأمثال والحكم ما لم يُسند إلى غيرها، فهي مع العقل صواب، ومع القلب حكمة ووجد، وهي مع الطمع رادع وهي ميزان كل شيء، ففيها الروح وفيها النفس والنفيس والغالي وما يعزه القلب. واللحظ في العين يجرح «والعاشقون هم بنو نظرى» (لسان العرب)، والناظر من يتوقع الخير من الله أو من جيرانه. تلكم هي العين وذاك سلطانها. ..................................... 1- J Baudrillard: La société de12334 consommation، éd Folio، 1970، p200 2-R Barthes: L’obvie et l’obtus، éd Seuil، 1982، p 280 3- نفسه ص 280 4- نفسه ص 279 5- مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة: «نظر». 6- يمكن الاطلاع على هذه التنويعات مجتمعة في: لسان العرب مادة نظر. 7- التوقيف على مهمات التعاريف محمد عبد الرؤوف المناوي تحقيق: د. محمد رضوان الداية دار الفكر المعاصر، دار الفكر - بيروت، دمشق الطبعة الأولى، 1410هـ(ص: 701-702 (عن موقع مركز أبي الحسن الأشعري). 8- مقدمة ابن خلدون، تحقيق عبد السلام الشدادي، بيت الفنون والعلوم والآداب، الدار البيضاء، ط1 2005م، (ج:2، ص: 338) (عن موقع مركز أبي الحسن الأشعري). الناظر والنّظور ليس غريباً أن يميز الباحثون في كل الميادين بين النظرية إذا كان التأمل مجرداً يبحث في القوانين والقواعد العامة، وبين التطبيق إذا عاد الباحث إلى موضوعه يسائله ويبحث في مستوياته وطبقاته. ففي الحالة الأولى، عليه أن ينفصل عن موضوع التأمل ليستخرج قوانين عامة هي النموذج الذي يمكن أن يعمم على كل الموضوعات المشابهة، وفي الثانية يبحث في هذه القوانين عن شكل تحققها في الوقائع المفردة والمعزولة. وربما يكون ذلك هو الأساس الذي بُني عليه التمييز بين الناظر الذي لا يقوم سوى بالنظر، وبين «النظور الذي لا يغفل النظر إلى ما أهمّه» (لسان العرب) أي يصبح جزءاً من الناظر إليه، الأول معني بالنظر إلى ما يمثل أمامه، أما الثاني فمعني بجوهر ما ينظر إليه ويتأمله. والناظور هو الحارس لكي شيء. عين البصيرة ربما ترى العين بالإبصار محسوسات الوجود وكائناته، ولكنها لن تدرك كنهها إلا بالنظر، أي بالقلب الذي يحس بما لا تراه العين إبصاراً... وربما ندرك عالمنا من زوايا اللمس والشم والذوق والسمع، ولكننا نستطيع أن نلمس ونشم ونتذوق ونسمع بالعين وحدها، إن العين شاملة لكل المنافذ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©