الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضابط الميزان

ضابط الميزان
6 يونيو 2017 11:36
لماذا تحتاج القيم الإنسانية إلى ضابط الدين؟ ألا يكفي لضبط الإنسانية أن نتحدث عن معايير الأخلاق العالمية أو الأعراف أو المبادئ العامة التي أقرتها الأمم المتدينة؟ ألا ترى أن الدول العلمانية التي أبعدت الدين عن مجالها العام قد كرست منظومة قيم وأخلاقيات حفظت آدميتها وعلى نحو لا نجده في أكثر الدول إيماناً بالدين وتشدداً في الالتزام بأوامره؟ ألا تشاهد ما يجري في بلاد ترفع شعار الدين من مذابح جماعية مروعة تصدم الضمير العالمي، وحروب لا تنتهي يدفع ثمنها الضعفاء من الولدان والنساء؟ دعونا نعترف بأن هناك انتهاكات جسيمة واعتداءات صارخة على كل ما يمثل القيم والأخلاقيات وإنسانية الإنسان وإفساد الأرض جرت كلها باسم الدين وتحت رايته، لكن هل الرؤية المتحررة أو على الأقل غير الملتزمة بالدين قد أوصلت البشرية إلى الرقي والإنسانية المطلوبة؟ كم عدد الذين قتلوا في معارك وحروب بين دول علمانية أو لغير سبب ديني؟ ولنكتفي بمثال الحربين العالميتين، لقد بلغ قتلى الحرب الأولى نحو 8.528.831، بل سجلت بريطانيا خسائر في أول يوليو 1916 وفي معركة واحدة نحو 57.470 ألفاً، على حين تجاوزت أعداد قتلى الحرب الثانية عتبة 66 مليون قتيل منهم 18 مليوناً في الاتحاد السوفييتي وما يزيد على 6 ملايين في بولندا و4 ملايين في ألمانيا. فهل كل الذين قتلوا في الحربين خسروا حياتهم باسم الدين؟ أم أنها كانت صراعاً بين دول ربيبة حضارات شهدت ثورات تنويرية وعاشت استقرار الرؤية الليبرالية العلمانية وتنحية الدين عن صناعة قرار الحرب والسلم؟ لماذا لم تستطع المبادئ والأعراف الإنسانية كبح جماح التسلط والانتقام والتجبر وتدمير مقدرات الأرض؟ لقد كانت تلك الحروب وغيرها نتاج فلسفات مادية أعلنت موت الإله وآمنت بالقوة قيمة عليا في التعامل الإنساني، وطوعت كل القيم لمصلحتها ابتداء من فلسفة نيتشه ونظرية التطور الداروينية من الإقرار بحق البقاء للأقوى، وأن صاحب القوة هو صاحب الحق Might is Right، وتوظيف علوم العمران التجريبية لتأكيد التفوق العسكري ولو بالإبادة الكاملة للآخرين. لست أدافع هنا عن التطرف الديني بكل أشكاله ونسخه، ولا ألتمس له المبررات بحال، لكني أريد أن أفهم ما الذي يجعل اليمين المتطرف في حالة صعود في الغرب كذلك؟ كيف يتنازل الناس عن ثوابت الأخلاق والقيم الإنسانية بدعوى وجود تطرف ديني؟ إذا كان هناك استغلال للدين باسم الإنسانية في كثير من المجتمعات الليبرالية الآن، فكيف يمكن للإنسانية بقيمها المهتزة تلك أن ترتقي إلى عمارة الأرض، من دون ارتباط بقيم وأصول سماوية تضبط هذا الجانب من حركة الإنسان؟ إذاً نحن بحاجة إلى بديل. نحن بحاجة إلى ميزان أعلى من الإنسان: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ». هناك مسلمات وثوابت -قبل أن تنتكس الفطرة -كاستحسان الصدق والأمانة والعدل واستهجان نقيضها من الكذب والخيانة والظلم، تتصل بالكليات الخمس التي تمثل مقاصد الشريعة، إلا أن ما يرتقي بالإنسانية هو معنى من مجاهدة النفس بناء على القيم الثابتة ومن الأذواق الروحية القلبية التي بها يكون الإنسان إنساناً. ذلك المعنى الذي أدخل امرأة ظاهر انحرافها الجنة لأنها سقت كلباً، وأدخل مؤمنة النار في هرة حبستها، فهنا الارتباط المقصود لظاهر الأحكام بالمعاني القلبية في لحظة تيقظ أو غفلة الرحمة الإنسانية. كيف يمكن أن تُطبق هذه المعاني في عالم الأرض؟ نحن بحاجة إلى نموذج إنساني نرى فيه هذا الكمال، لهذا أرسل الله الرسل الكرام لنرى فيهم أنموذج الكمال الإنساني الذي يجمع بين القيم الأخلاقية والاتصال بالروح الأقدس العالي، ورغبات الإنسان وعمارة الكون، ثم جاء الحبيب -صلى الله عليه وآله وسلم- مَجْمَعاً لمظاهر كمال الإنسانية. جاء يعلمنا أن الإنسانية قبل التدين عندما أقر صفات راقية في بشر لم يكونوا على دين الإسلام، فأكرم ابنة حاتم الطائي لأن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. وقال: لو كان المطعم بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء (أسارى بدر) لتركتهم له، قبولا لشفاعته لسابق موقفه في نقض الصحيفة والإجارة، بل وسمح لشاعره برثاء الرجل الذي مات على الكفر بقصيدة مطلعها: أَيَا عَيْنُ فَابْكِي سَيّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِي... بِدَمْعٍ وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدّمَا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©