الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حينما يحضر الموت في فجر لا ضوء فيه

حينما يحضر الموت في فجر لا ضوء فيه
12 أكتوبر 2009 23:04
من الغرابة فعلاً أن تلتقي جميع الفنون في رؤية نقدية واحدة عند النقاد الذين صنفوا البنى الدلالية للنصوص سواء أكانت نصوصاً كتابية أم بصرية، وأن أقرب النصوص لبعضها هي الرواية والفيلم. الرواية هي بحث متدهور عن قيم أصيلة يؤدي إلى أن لا يصل إلى الحقيقة المطلقة بحسب السوسيولوجين أو حتى لنقرب الفكرة بحسب القائلين بالواقعية الانتقادية. الفيلم صورة حيّة عن الرواية بأدوات وأساليب مختلفة أهمها البنى والعلاقات التي تربط اللقطات والمشاهد مع بعضها.. ولكن في جميع الأحوال تبقى الرواية والفيلم يطمحان إلى أعلى درجات الشعرية (الشعرية هي مجموعة القوانين الإبداعية التي تجعل العمل الإبداعي يمتلك أدبيته الخاصة) والدليل القوي على مجمل هذه الأفكار إزاء تشابه الفنون في رؤيتها للعالم أنها قد، وفي أي، لحظة تتعانق مع بعضها بشكل رائع مشكلة نصوصاً تجمع الشعر والسرد والصورة والتشكيل والمسرح. ذلك ما لاحظناه فعلاً في فيلم «الليل الطويل» لمخرجه السوري حاتم علي وهو من تمثيل أهم رموز الإبداع السوري خالد تاجا، ونجاح سفكوني، ورفيق سبيعي وأمل عرفة، وباسل خياط، وحاتم علي «ممثلاً»، وسليم صبري، وأنيسة داوود. لقد امتزج المسرح في السينما بشكل عفوي لا يدعو لفصلهما عن بعض وكأنهما فنان مختلفان. إذ كلاهما يكمل الآخر في إنتاج نص مغاير ينمو باتجاه البحث عن «الشعرية». عالم جاد، عالم مظلم في الداخل والخارج وكلاهما يتساويان في التأزم والحيرة والتساؤلات. فيلم يحكي قصة سجناء أربعة يقبعون معاً منذ زمن بعيد في السجن، أحدهم فنان مسرحي والثلاثة الآخرون سياسيون تقرر إطلاق سراحهم بعد 15 سنة من السجن والعذاب والإهانة وهم صامدون لم يوقعوا يوماً على التنازل عن أفكارهم، وهم خالد تاجا بدور (كريم - أبونضال) ونجاح سفكوني بدور (حسن المسرحي) وسليم صبري (الجسد) وحسن عويس (السجين الثالث) الذي خرج معهم والذي ذهب مباشرة لرؤية فيلم سينمائي. قدم حاتم علي بحثاً تراجيدياً، وبنية متدهورة لقيم أصيلة في عالم متدهور في بنية تشاؤمية إلا قليلاً من التفاؤل عندما انتهى الفيلم بلقطة السجين الثاني وهو يمسك بيد حفيدته الصغيرة وهما يتجهان صوب المروج الخضراء. قصة ليلة «الليل الطويل» قصة ليلة واحدة، أعني ليلة خروج السجناء الثلاثة إلى عالم المدينة وافتراقهم للذهاب إلى أجواء حرية وفرتها لهم سلطة «تؤمن بالديمقراطية وبالعهد الجديد والانفتاح» وليس ثمة عهد جديد أو انفتاح في عالمنا العربي. ومن الغرابة أن حاتم علي يستخدم مذياع «راديو» سيارة الأجرة الذي يعلن في أخبار دولية بأن الفرنسي جاك شيراك يثمن التغيرات السياسية الأخيرة التي انتهجتها دمشق لتغيير الكثير من الرؤى في الأوضاع السياسية الداخلية. أراد حاتم علي أن يقدم نصاً يشير إلى دواعي خروج هؤلاء السجناء الثلاثة أو لنقل بشكل آخر أراد أن يتصالح مع نفسه والآخر ونصه أيضاً بأن ما يجري في هذا الفيلم هو جزء من انفتاحكم الذي أعلنه «شيراك». يوم ممطر في البدء هناك مسرح في يوم ممطر ومن هذه اللقطة كأنني أرى في سفكوني وقد أصبح راوياً ضمنياً ممسرحاً لحكاية 4 سجناء قررت الدولة إطلاق سراح 3 منهم بينما ظل الراوي «المسرحي» في انتظار نتائج هذه الرحلة التي أمدها ليلة واحدة والتي كثرت فيها الشخوص والأحداث حتى أن عدد الأحداث لا يوازي زمن الليلة الذي هو 12 ساعة تقريباً إلى انبلاج الفجر المميت. لنقل أن زمن الأحداث لا يتطابق مع زمن الفيلم لذا ظهر البطء في الفيلم بشكل واضح، شعر به الجميع بسبب طول الفيلم الذي يصل إلى 94 دقيقة، احتوت في أماكن كثيرة على فراغات ربما أراد حاتم علي أن يجعلها بنية توازي بنية الخطاب نفسه، أي أن هذا البطء كي يحرك جميع الأحداث فيه وصولاً إلى الصباح عندما وصل أبونضال كريم «الممثل خالد تاجا» إلى البيت القديم والشجرة القديمة فيموت عند جذعها. كل شيء تقليدي في السجن، خطابات مثقفة من 4 سجناء لا يهتمون بعد كل هذا العذاب الطويل من السنين إلا بالمسرح والتشكيل ولا يزالون يستشهدون في أقوالهم بالأعمال القصصية والشعرية المهمة لزكريا تامر في «النمور في اليوم العاشر». يخرج 3 سجناء بأمر الدولة «المتسامحة» بعد 20 عاماً تتجه سيارتان من السجن في بداية تلك الليلة إلى المخفر لإخلاء سبيلهم، تقف السيارة يهبط شرطي أمن ليتبول «ما ضرورة ذلك، وما دلالته» هل ثمة دلالة تشير إلى أن هذا الفعل هو استنكاري ضد عالم ظل خلف ظهورهم، ولماذا يأتي من شرطي الأمن. لقطة لا مبرر لها لأنها لا تمتلك دلالتها. حيرة المواجهة تمتلك الأبناء في الخارج حيرة المواجهة والقلق المفاجئ في استقبال هؤلاء الثلاثة، بعد أن اختلفت الرغبات والمصائر في الخارج والداخل لا يزال على حاله لم يتبدل هو بذات القيم التي كان يعيشها قبل 20 عاماً، حتى لحظة الخروج يسأل هؤلاء الثلاثة بأن لا قيد على خروجهم ولا تنازل ولا توقيع. وهنا نسأل من المهزوم؟ السلطة التي تخلت عن التوقيع المرغم أم السجين الذي لا يزال يحتفظ بآرائه وبكرامته. من المهزوم؟ الحياة التي تغيرت أم السجين الذي يفاجأ بالموت؟ من المهزوم؟ الأبناء الذين عرفوا طرقهم المتعددة بين الذاتية المفرطة التي يتمتع بها المحامي أو الانفرادية بالغربة التي يتمتع بها الابن المتوسط أم الثورية التي يتمتع بها الابن الأصغر الذي يشبه أباه، أم الفتاة التي تزوجت من فادي ابن «أبو فادي» الرجل الذي تواطأ مع مدير الأمن والمخابرات على الإيقاع بأبي نضال وهو أقرب الأصدقاء له بل وصاحبه الحميم - باعترافه - أم أن السجين أبونضال هو المهزوم في بقائه على أفكاره ذاتها ولم يتنازل لمغريات الحياة؟؟ لا يزال عالمنا الشرقي أكثر شرقية في أذهان وعقول متفتحة على السياسة العشائرية التي ترى أن لا تنازل في قضية المبدأ. عين الكاميرا يختار السجناء الثلاثة التمشي ليلاً في شوارع المدينة يخرج أبونضال ليبصر ما حرم منه.. والسجين الثاني يركض على أسفلت الطريق ليتحسس قدميه، والسجين الثالث يذهب إلى «الأوتيل» حيث غربته التي لا تضاهى. ويشك أبونضال لأكثر من مرة بالطريق الذي يسلكه بعد أن استأجر سيارة تقله إلى مكان ما، بينما كان الأبناء منشغلين بالإعداد لهذا الاستقبال ولترتيب أوضاعهم التي اتخذت منحى مختلفاً بغياب الأب، حتى غرفته التي كان ينام فيها قد احتلت وتغيرت ملامحها بعد موت زوجته «أمهم». يستغل حاتم علي «عيني» أبونضال فيقرب الكاميرا باتجاههما وهما يريان تشوه العالم فالأشياء لا ترى بل الظلال السريعة والكون المتزاحم والحجاب الأنثوي على رؤوس الفتيات الجميلات الذي لم يبصره أبونضال من قبل بهذه الكثافة، كما يرى أبونضال ما يشتهيه والذي قطع عنه لسنوات طوال. حاتم علي الابن المتوسط يعيش غربته في فرنسا مع زوجته وابنته، يعيش لذته ويصقع بخبر خروج أبيه من السجن، وحسن في زنزانته مستوحداً يلجأ إلى خلق شخصيات أخرى تمثيلية تشاركه أحزانه ووحدته ويتحرك الماضي الذي خرج من السجن اليوم بكل الاتجاهات مع شخوصه الثلاثة. خطوط بيضاء الطريق خطوط بيضاء منقطعة لا متناهية، وهي سمة عالمية لا جديد فيها. لم تنشأ أي علاقة بين سائق سيارة الأجرة والسجين أبونضال، سوى موسيقى هادئة، تأملية تنبعث مع صمت السيارة المنطلقة باتجاه بيت الأسرة القديم. يحاول الأبناء إرجاع كل الأشياء التي أخذت من غرفة الأب، حتى الجرامافون والاسطوانات القديمة بدأت ترجع تباعاً كل ذلك يجري في ليلة واحدة، والأحفاد يسمعون الزمن الماضي في أغان قديمة على اسطوانات الجد، وصورة الأم الميتة تعلق. الأبناء منقسمون على أنفسهم، على أفعالهم، على اختياراتهم، على قناعتهم بأفكار الأب التي سجن من أجلها 15 عاماً، والابن الأصغر «طاهر» كان الأقرب إلى أفكار الأب، حتى أن حاتم علي المخرج اختاره الوحيد منهم لمعرفة الطريق الذاهب إليه الأب، افتراضاً، بفعل التقاء أفكارهما معا فيذهب إليه ويجده مسجي «عند الفجر المميت» متكئاً على جذع شجرة البيت القديم الهرمة. الشخصية المركزية كثير من الأحيان ينشغل الفيلم بالأبناء وصراعاتهم وينسى السجناء الثلاثة وخوفهم وهم في أقصى نهاية العمر وفي كثير من الأحيان ينشغل الفيلم بأبونضال وينسى السجينين الآخرين اللذين لم يعطيا مساحة أوفر توازي مساحة أبونضال وقضيته. من هو الشخصية المركزية في الفيلم؟ قلت لحاتم علي مخرج الفيلم: أجد أن لا شخصية مركزية هناك قال: أعتقد هذا صحيح وربما يكون أبونضال هو الشخصية الأكثر محورية من الآخرين والذي تستجمع الحكاية بمجملها حوله. قلت: انشغل الفيلم بالأبناء والماضي وترك السجناء الثلاثة وحاضرهم وصدمتهم وحيرتهم في سيناريو أقل ما يقال عنه أنه يحتاج إلى احتراف أكثر. يعود المخرج إلى الخطوط البيضاء على الشارع المؤدي إلى البيت القديم ويبصر أبونضال تغير العوالم. وهناك عند البيت القديم والشجرة الهرمة والرجل الجالس تحتها متكئاً على جذعها يأتي الفجر، الذي يحتوي الموت، وكأن حاتم علي يقول لا فجر يأتي مهما بدت علامات التسامح والغفران هذا هو الواقع وهذه حكاية عالمنا العربي «شرق المتوسط». الاغتسال بالمطر ولا يزال الجيل الأول من المناضلين والقتلة والغادرين يصرون على مواقفهم، المناضلون أبونضال وزميلاه السجينان لا يتنازلون عن أفكارهم والغادر أبوفادي - صاحب أبونضال - يرى أنه لو رجع الزمن لفعل ما فعله بالماضي حينما غدر بأبي نضال «كان عدوي يستاهل الذي صار فيه». تعود الكاميرا لترصد الخطوط البيضاء على الشارع المؤدي إلى البيت القديم ويصل السجين إلى بيته. استخدام جذع الشجرة القديم تقليدي، والانتهاء بالموت نهاية مأساوية أكثر تقليدية لكنها كانت لقطة توخى منها حاتم علي إثارة التعاطف «الكاثرسيز» (التطهير الأرسطي) مع المصير المتدهور في قيم أصيلة حسب البنى السوسيولوجية للوسيان كولدمان الذي استشهدت بآرائه أول المقالة. حين تتعطل السيارة، يبقى أبونضال مستمتعاً، إنه تحت المطر في اغتسال روحي عن أدران الحياة باتجاه الموت، طقس إسلامي مارسه حاتم علي باللاشعور وليس كما قيل بأن الدمشقيين يحبون المطر، إذ المطر في الفكر الأسطوري الشرقي القديم كما هو عند الشاميين والعراقيين، في حضاراتهم القديمة حالة من التطهير والنماء. ومع موت أبونضال يرتجف حسن في سجنه مستقبلاً الموت هو أيضاً. كان الفيلم من سيناريو وإنتاج هيثم حقي وتصوير محمد مغراوي ومونتاج رؤوف ظاظا وموسيقى كنان أبوعفش. حاتم علي مواليد عام 1962، وعمل مدرساً للمسرح وكتب العديد من المسرحيات والقصص القصيرة وأخرج مسلسلات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©