الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تساؤلات حول الشعر والإيديولوجيا

تساؤلات حول الشعر والإيديولوجيا
4 أغسطس 2008 23:48
كثيرة هي النشاطات الثقافية والفكرية والفنية التي تعقد في المدن التونسية طيلة أيام المواسم الثقافية، غير أن السجال الفكري على ما يبدو هو الذي يتسيد هذه النشاطات برغم عديد الأمسيات الشعرية التي تتضمنها هذه السجالات الفلسفية بوصفها فاكهة تقدم بين فاصلين· لكن يحصل أن يقف الشعر في المقدمة عندما تطرح الأسئلة، لأن الشعر- كما هو معروف- أفضل ما يقدم هذه الأسئلة وأكثر الأشكال الكتابية استجابة لتقديم إجابات مكثفة تخدم في نهاية المطاف الفلسفة التي تعيد صياغة هذه الأسئلة، كما يفهم من قول هيدجر: ''على الفلاسفة أن يتعلموا من الشعراء''· ففي محاضرة ''الشعر والإيديولوجيا'' التي أقيمت مؤخراً في منتدى الجاحظ في تونس، شارك في تقديمها الشاعران التونسيان يوسف رزوقة وبحري العرفاوي، نتعرف على طبيعة السجال القائم في الساحة الثقافية التونسية اليوم والتطور الحاصل في الخطاب الشعري، خصوصاً أن قصيدة النثر هناك ما زالت مُقصاة من المشهد الشعري إلى حد كبير· في بداية المحاضرة، تحدث الشاعر يوسف رزوقة قائلاً: ''نحن نعلم أن لكل شاعر إطاراً مرجعياً يتفرع بدوره إلى ذاكرة جماعية وإلى ذاكرة فردية يتمثلهما الشاعر، وبالتالي لا يملك إزاء واقعه وإزاء إطاره المرجعي إلا أن يرهص بالتحولات تطلعاً إلى واقع جديد ينمذجه وفق انتظار جمهور مستهدف تشبّع هو الآخر بثقافة جديدة يحكمها التنوع والثراء والتخيل- تماماً كالنظام العالمي الجديد- على خارطة تعامل جديدة، وعلى الشاعر اليوم أن يتعاطى معها بمعايير فنية جديدة تقطع مع السائد هذا الذي نراه في قصائد لا تنتمي إلى راهنها''· وعن الحديث عن النظام العالمي الجديد، فإن العولمة هي أول ما يتبادر إلى أذهاننا، هذه الكلمة التي شاعت في الأوساط جميعها غدت مِلحاً لكلّ حديث· وعلى شيوعها في عموم أنحاء العالم، فإن السؤال ما العولمة يظل مشروعاً قائماً· يقول رزوقة: ''لعلنا لا نجانب الصّواب إذا قلنا إن العولمة عولماتٌ، وقد فاجأت تداعياتها الكبرى سكان ''القرية الإلكترونية'' أينما كانوا وعلى تباين أجناسهم وأعراقهم وثقافاتهم··· وارتفعت في عموم أنحاء العالم صيحات فزع تتطير من صورة المستقبل التي تبدو مع هذا الزحف المعولم قاتمة، كما ارتفعت أصوات متفائلة ترى في العولمة خياراً استراتيجياً ولا تعدها بالتالي ''غراباً'' ينذر بشؤم المرحلة''· إزاء كل هذا تتناسل الأسئلة حول متغيرات الكتابة والواقع ودور المبدع العربي وإسهامه في الإلمام الواعي بما يحدث فعلا و تفاعلا مع العولمة وفائض منتوجها وتهديداتها القادمة للذات البشرية· ما العمل؟ سؤال الذات المبدعة مطروح على الواقع الساخن، واقعنا المنخرط اضطراراً في رعب بلا ضفاف وفي هستيريا صاخبة من التحولات الجذرية التي لا تعرف، وهي تتلاحق في سباق محموم مع الزمن إلا بالإنذار المبكر· ما العمل؟ يتساءل الشاعر يوسف رزوقة، سؤال يشرع في طرحه الآن، وهنا شاعر المرحلة أو لسان القبيلة حسب الطرح المتعارف عليه قديماً، وبيت القصيد في كل هذا أن الشعر فن العربية الأول منذور في مثل هذه الأحوال المنفجرة وفي مراوحة بين الثابت والمتحول على حد تعبير أدونيس لاستباق مشكلات الأمور والقيام من ثمَّ بمهمة التشخيص المتأني للمستجدات الناجمة، سواء عبر مماحكة المتاح من الزخم المعلوماتي المتنوع، تفكيكاً لشفرة ما حدث أو ما يحدث، واستحساناً أو استهجاناً لحصاد تكنولوجيا اليوم والغد الممكن أو عبر نقد ما يبدو ملابسات حافة بظواهر طارئة أو غير طارئة تقتضي من شاعر المرحلة، باعتباره من طلائع الانتلجنسيا، معالجة أو مقاربة مختلفة وهادفة تشي بالجرأة في وضع النقاط على الحروف والمبادرة بالمغامرة لمساءلة المنجز العلمي وتسويغ ما يبدو من قبيل ''الزاد المعرفي'' للقصيدة القادمة''· بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانحسار تهديده الشيوعي إزاء القطب الرأسمالي، أخذت دولة النظام العالمي الجديد تتحفز لدرء تهديدات أخرى ناجمة لعل أكثرها كارثية وخطورة تلك التي تنبع رأساً من المواطن مثل الإرهاب، المخدرات والتهريب، لينتفي بالتالي دور العميل والجاسوس الأجنبي، وليستعاض عنه بنظام رقابة فائق التطور والفاعلية يستهدف المواطن مباشرة··· من تمظهرات هذا النظام الرقابيّ المتطور مصادرة أسرار الفرد بالاحتكام إلى ما يسمى بـ''الأثر الإلكتروني'' الذي لا يمحى مع الأيام حيث يتسنى للرقيب الوقوف على حركات الشخص -موضوع التتبع- واقتفاء أثره والطريقة التي تعاطى عبرها مع بطاقته الممغنطة على امتداد السنوات الخمس الأخيرة، ثم الاطلاع على كشف مشترياته بالتفصيل· بإمكان هذا الرقيب أيضاً وبفك شفرة ''الهندسة الاجتماعية'' الوقوف على معلومة تخص هذا الشخص أو ذاك في مؤسسة ما، وبالتالي فإن مثل هذا النظام الرقابي الفائق التقنية، أفضى إلى واقع حضاري وتعاملي جديد بين مختلف الشرائح الاجتماعية التي أرست باستجابتها للأمر الواقع وانعكاساته الشرطية ''مجتمع الرقابة القصوى''· الشاعر البحري العرفاوي لديه وجهة نظر أخرى ويفرق فيها بين السياسي والمثقف، فالسياسي من وجهة نظره صاحب أقنعة كثيرة يستخدمها في الوقت والمكان المناسبين، في حين يقف الشاعر مجرداً من كل شيء· يقول العرفاوي في هذا الصدد: ''إذا كانت السياسة هي فن التعامل مع الممكن- كما يقولون- فإن الإبداع هو فن الدفع نحو المستحيل- كما أرى- فالسياسة مراسٌ واحتراسٌ والإيديولوجيا حصن من الإسمنت المسلح وإن مد جسوراً، أما الثقافة فهي ربوع في رحابتها وخصوبتها وتنوعها وتجددها وانفتاحها على الرياح والشموس والأمطار وحتى على الأعاصير''· ثم يعرج الشاعر العرباوي على العلاقة بين المثقف الاستعراضي والسلطة، ويصف هذا المثقف الذي ينظر إلى السلطة بوصفها بقرة حلوبة يستدرها في كل مناسبة، ويظن أنه يستغفلها، في حين أن السلطة تنظر إلى هذا المثقف بوصفه جرواً نباحاً يتسكع في الشوارع وعلى ظهره لافتات الدعاية: ''إن اصطفاف المثقفين الاستعراضيين وراء السياسيين المحترفين ظاهرة تاريخية لم يخل منها زمان أو مكان، وفي تاريخنا العربي والإسلامي أمثلة كثيرة''·
المصدر: تونس
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©