الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في انتظار كافكا عربي

في انتظار كافكا عربي
6 ابريل 2011 21:32
قضّيت ليلة نهاية رأس عام 1982 في باريس مع أصدقاء فرنسيين. وقد تواصلت السهرة حتى مطلع الفجر. وبعد أن غفوت قليلاً، رافقني أصدقائي إلى مطار “أورلي” حيث ركبت الطائرة متجها إلى تونس. تأخرت الطائرة، فلم أستطع الوصول إلا في الساعة الخامسة ظهراً. كانت السماء واطئة ومغيمة. وثمة رذاذ ورياح. أما المطار فكان كئيباً مثل ثكنة عسكرية. وبعد أن دقق رجل الأمن ملياً في جوازي، طلب مني أن أنتظر. انتظرت حتى انتهى طابور المسافرين. وبالرغم من أنني كنت متيقناً من أني لم أرتكب أي ذنب لا في الداخل ولا في الخارج، فإن المخاوف بدأت تتسرب إلى نفسي. وراح قلبي يدق بعنف، أما فمي فقد جف فجأة وأصبح لساني حجراً... دام انتظاري حوالي نصف ساعة. بعدها قادني رجل أمن إلى سيارة الشرطة، ومعي حقائبي بطبيعة الحال، وانطلق بي إلى العاصمة. وحين حاولت أن أستوضحه عن سبب إيقافي، قاطعني بصوت بارد جاف “سوف تعرف كل شيء في إدارة أمن الدولة. أما أنا فمهمتي تنحصر في حملك إلى هناك. فقط لا غير!”. كان اليوم يوم سبت. وحين وصلنا إلى مقر إدارة أمن الدولة كان الليل قد نزل موحشاً وثقيلاً، دخلت مرتجفاً أجر حقائبي الثقيلة. استقبلني ضابط شرطة ورحب بي، بل وابتسم في وجهي بوداعة شجعتني على أن أسأله عن سبب إيقافي. وعندئذ انطفأت الابتسامة. وجاءني الجواب بارداً وقاسياً: “أنت موقوف، وعليك أن تنتظر حتى يوم الاثنين لكي تعرف مصيرك!”. بعدها قادني إلى زنزانة لم أر أبشع منها في حياتي. جدران سوداء حفر فيها بعض من مروا من هناك بعض خواطرهم. مرحاض نتن. أغطية تقطر وسخاً. رائحة عفونة تصدّع الرأس! وبالرغم من أني كنت في أقصى درجات الإرهاق، فإني لم أتمكن من أن أغفو ولو للحظة واحدة. وطوال تلك الليلة الرهيبة، الليلة الأولى من العام 1983، ظللت أقاوم الفئران الضخمة والروائح الكريهة، والوساوس المرعبة، والمخاوف التي كانت تهز نفسي مثل عواصف هوجاء. ولا أخفي أني وأنا بين تلك الحيطان السوداء، بدأت أشعر شيئاً فشيئاً أني أتحلل وأتعفن. ثم لم يلبث أن اعتراني إحساس مقزز بأني لم أعد آدميا، بل صرت حشرة بشعة شبيهة بتلك الحشرات التي تولد وتنمو في سراديب البنايات الإسمنتية الباردة. وفي خضم تلك الآلام التي سلبت مني كل إنسانيتي، فكرت في روايتي “المسخ” و”المحاكمة” لفرانز كافكا، وبدا لي أنني أدرك معانيهما لأول مرة برغم أني قرأتهما مرات عديدة، وفي ترجمات مختلفة... يوم الاثنين، اقتدتّ إلى ضابط أنيق. وحين دخلت مكتبه، أشار علي بالجلوس دون أن يرفع رأسه، واستمر يقلب في أوراق وملفات كانت أمامه. بعد عشر دقائق من الصمت الكامل، لم أكن أسمع خلاله غير خشخشة الأوراق، ودقات قلبي، رفع الضابط رأسه وقال لي”هل تعلم لماذا أوقفت؟”. - “لا.. أبدا!” قلت. حدجني بنظرة قاسية ثم قال “أنتم ترتكبون الجرائم ثم تحاولون أن توحوا للناس بأنكم أبرياء. أنا أنصحك بأن تعترف!”. - “أعترف بماذا؟” قلت بلهجة استنكار واضحة. - “اعترف بما اقترف قلمك!” - “لم أفهم ما تقول” قلت. - “حسنا!” قال الضابط الأنيق ثم أخرج نسخة من مجلة كنت أعمل مراسلاً لها. وبعد أن فتحها سألني بشيء من الحدة: - “من كتب هذا المقال؟” كان المقال المعني بالأمر بدون إمضاء. وكان موضوعه يدور حول جماعة ماركسية متطرفة كانت تعتزم القيام ببعض أعمال العنف في العاصمة. وأذكر أني قرأت المقال المذكور في المغرب حيث كنت أحضر ندوة فكرية غير أني لم أعر محتواه والمعلومات الواردة فيه اهتماما يذكر! وبعد لأي تمكنت من أن أقنع الضابط الأنيق بأني أكتب في الثقافة ولا أسمح لنفسي بالاقتراب من السياسة وأهلها. عندئذ أخلوا سبيلي. حال خروجي من هناك، بدا لي أن المدينة التي أمشي فيها ليست مدينتي، وأن الناس الذين يسعون من حولي ليسوا أهلي. إعادة قراءة كان أول قرار اتخذته عقب تلك الحادثة الأليمة هو إعادة قراءة جل أعمال كافكا خصوصا “المحاكمة” و”المسخ” و”القصر” و”يوميات”. وحال انتهائي من ذلك، اكتشفت أن قراءاتي السابقة لم تكن كافية لسبر أغوار عالمه المرعب، وإدراك معاني تلك الكوابيس التي شكلت الثمة الرئيسية في مجمل أعماله. وفي الآن نفسه، أحسست بمتعة لم أتذوق حلاوتها من قبل أبدا. ولعل من جملة أسباب تلك المتعة، شعوري الحاد بأنني أصبحت معنيا أكثر من أي وقت مضى بعالم كافكا، وبجميع ما يختزنه هذا العالم من رعب وهواجس وبشاعة. بل وبدا لي أحيانا أني أتقمص دور أبطاله، ومثلهم أواجه التهم والمظالم. وهكذا لم يعد جوزيف كـ. بطل جل روايات كافكا مجرد شخصية روائية تستهويني مثلما تستهويني جل شخصيات الروايات المعاصرة، بل تحول إلى أنيس يعاشرني طول الوقت، ويقاسمني القميص والقهوة، ومثلي يواجه كوابيس النظم العربية. حضور وغياب العربي بطل كافكاوي بامتياز. يكفي أن نمعن النظر في الوقائع اليومية للحياة العربية لكي ندرك في زمن وجيز أن كوابيس كافكا لا تكاد تختلف في شيء عن كوابيس العرب. ومع ذلك يبدو لي أن هذا الكاتب العظيم غائب عن أدبنا غيابا يكاد يكون كليا. صحيح أننا ترجمنا جل آثاره، وكتبنا عنه بعض الدراسات القيمة، واهتممنا به أحيانا اهتماما يليق بمقامه غير أن تأثيره المباشر على أدبنا ظل نادراً إن لم يكن منعدماً انعداماً تاماً. ما السبب يا ترى؟ الجواب لا يحتاج إلى عناء كبير بالنسبة للبعض. وهؤلاء “البعض” يمكن أن يتخذوا من “يهودية” كافكا حجة لتبرير غياب تأثيره على أدبنا الروائي والقصصي. غير أن هذه الحجة مردودة من أساسها ذلك أن كافكا تجاوز “يهوديته” لكي يعبر بشكل رائع ومتميز عن مأساة الإنسان المعاصر بقطع النظر عن وطنه وجنسيته ولغته. ثم أن العرب لم يألفوا معاداة الكتاب بسبب جنسيتهم لا في الزمن القديم ولا في الزمن الحديث. ومنذ أن تأسست دولة إسرائيل، قام المثقفون الفلسطينيون بالخصوص بنقل العديد من الآثار العبرية في مجالي الشعر والرواية إلى اللغة العربية. حتى جوزيف عجنون الحائز على جائزة نوبل عام 1965 بالتناصف مع الشاعرة الألمانية اليهودية نيللي ساخس، والذي لم يكن يتردد في نعت العرب بـ”أسفل أمة على وجه البسيطة” لم يحرم من الترجمة والتعريف. لذا أعتقد أن البحث في أسباب غياب تأثير كافكا على أدبنا الروائي والقصصي يعود إلى عوامل أخرى سوف أحاول هنا الإشارة إلى البعض منها: أولا، هناك مسافة زمنية طويلة تفصل بين نشأة الرواية الغربية ونشأة الرواية العربية. ولعل هذه المسافة الزمنية هي من أهم الأسباب التي تفسر لنا تأخر الرواية العربية عن الرواية الغربية. كما يمكننا اعتمادا عليها أن نعثر على مبررات مقنعة لعدم إلمام جل الروائيين المعاصرين بالتقنيات الروائية الحديثة، وبالمعاني الخفية للأعمال الروائية الكبرى التي تعكس روح الحضارة المعاصرة ومنها أعمال فرانز كافكا. ثانيا، عندما كان كبار المجددين الغربيين من أمثال جيمس جويس وفرانز كافكا ومارسيل بروست منهمكين في كتابة تلك الأعمال التي سوف تؤدي حال صدورها إلى انقلاب هائل في مجال الفن الروائي، كان العرب قد اكتشفوا الرواية للتو. وكان هدفهم الأساسي هو التمرس بهذا الفن الجديد. وبسبب هذا الأمر، لم يهتموا إلا قليلا بالتطورات الفنية والأسلوبية والسردية التي كانت قد عرفتها الرواية الغربية حتى ذلك الوقت، بل اعتنوا بالجانب “القصصي” أي بابتكار الأحداث والشخصيات. ومن الطبيعي وهم في هذا الطور أن يتمسكوا بالطريقة الأكثر سهولة أي الواقعية. وهذا التمسك بالواقعية هو الذي حال بينهم وبين إدراك المعاني الخفية لأعمال روائية عديدة، بل وخلق نوع من النفور بينهم وبينها. ويمكن إدراج روايات كافكا ضمن هذه الأعمال. ثالثا، اكتشف الروائيون العرب كافكا عن طريق الفلاسفة والكتاب الوجوديين الفرنسيين مثل سارتر وكامو. غير أن هذا الاكتشاف لم يأت بنتيجة تذكر ذلك أن هيام المثقفين العرب بالتيار الوجودي، وبفكرة “العبث” تحديدا حجب عنهم القيمة الحقيقية لأعمال كافكا، وجعلهم يولون اهتماما للفروع أكثر من الأصل. نحن لا نزال في انتظار كافكا عربي يكون قادراًً على أن يبدع من خلال كوابيسنا أعمالاً تأخذنا بعيداً في عالم الخيال، وتكشف لنا فظاعة الكوارث التي تعيشها الشعوب العربية راهنا...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©