الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علي عبدالعزيز الشّرهان.. سحرية الواقع وتناقضاته

علي عبدالعزيز الشّرهان.. سحرية الواقع وتناقضاته
6 ابريل 2011 21:31
لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموماً، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح متكئاً لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون.. هنا إطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس. أكدت العديد من الدراسات التي تناولت المشهد الثقافي في الإمارات في مرحلة السبعينيات، وبخاصة الدراسات التي كتبها كل من: عبدالحميد أحمد “توصيفات عامة حول القصة والرواية في الإمارات”، والدكتور رشيد بوشعير “مدخل إلى القصة القصيرة الإماراتية”، والدكتور ضياء الصديقي “البيئة المحلية في القصة القصيرة في الإمارات”، أن أولى الأعمال القصصية التي تمتعت بقدر كبير من المواصفات الفنية والتعبيرية، ارتبطت بالكاتب عبدالله صقر الذي أصدرها في دبي وحملت عنوان “الخشبة” عام 1974، وأدرجها النقاد في ذلك الوقت ضمن مرحلة البدايات. وكان صقر قد نشر قبل ذلك قصة بعنوان “قلوب لا ترحم”، في نشرة نادي النصر الرياضي في نهاية الستينيات، حيث لعبت الأندية الرياضية والثقافية دورا مهما في احتضان الكتاب الشباب لنشر محاولاتهم في النشرات التي كانت تصدرها، وكان من بين من نشروا كتاباتهم فيها الكاتبة مريم جمعة فرج، وعدد من الكتّاب الشباب، فيما ترجع بعض الدراسات مسألة الريادة في هذا المجال للكاتبة شيخة النّاخي التي أصدرت قصة بعنوان “الرحيل” عام 1970. هذا الخلاف حول مفهوم “الريادة”، فتح المجال لمزيد من الأنوار الكاشفة على مرحلة السبعينيات من القرن الماضي، التي تشكّل مشهدها الثقافي بفضل جملة من الأقلام الجّادة التي مهدت الطريق لظهور جيل جديد من الكتّاب، اعتلوا صهوة المرحلة الثانية الممتدة حتى عام 1975، وظهرت فيها أسماء كتّاب من أمثال: علي عبيد الذي كتب قصتين مهمتين هما “ضحية الطمع” و”الجزاء”، ومظفر الحاج (الجحيم، هذا هو الحب)، ومحمد علي المرّي (يوم في حياة موظف صغير، عابر سبيل). بمقابل زخم الإنتاج القصصي في هذه الفترة، تبرز ظاهرة خطيرة، وهي توقف معظم تلك الأقلام عن مواصلة الكتابة، لأسباب كثيرة، إلا إن ذلك لم يمنع من ظهور أقلام جديدة تصدرت المرحلة الثالثة من الحياة الأدبية في دولة الإمارات (1975 ـ 1979)، من بينها الكاتب علي عبد العزيز الشّرهان الذي اصدر مجموعته القصصية “الشّقاء” عام 1977، فور عودته من الخارج بعد أن أتمّ دراسته الجامعية، ويركز موضوع المجموعة بشكل خاص على هموم ومتاعب إنسان المنطقة أيام رواج مهنة الغوص على اللؤلؤ، وأعمال صيد السمك، ومحاولة التّكيّف مع البيئة القاسية في ذلك الوقت. وقد اعتبر بعض النّقاد الشرهان بهذه المجموعة واحدا من جيل الريادة، بسبب المضمون الذي طرحته سواء على مستوى ثقافة وعادات وتقاليد تلك المرحلة، أو على مستوى الغوص في مفردات المكان الذي يعكس سمة البيئة والمجتمع المحّلي. وقد تزامن مع ظهور الشرهان في تلك الفترة، بروز أسماء أخرى نشرت أعمالها في نشرات “أخبار دبي” و”الأهلي” من أمثال: إسماعيل شعبان، عبدالقادر أحمد، محمد ماجد السويدي، وآخرون. مذاق خاص من الضروري الإشارة هنا إلى أن الحديث عن هذه المرحلة له مذاق وطعم خاص، فهي تلك الفترة التي كتب في ظلالها نخبة من الوزراء ورجال السلك الدبلوماسي، وأساتذة الجامعات، وبعضهم امتلك خبرة ثقافية واسعة من خلال الدراسة في الخارج، وقد حرص الكتاب على توعية الناس وحمل رسالتهم التوعوية بواقعية تقوم على عرض الأحداث وطرح المضامين في إطار فهم حقيقي لمسألة (الصراع القيمي)، فكان اهتمام القصة الجديدة في المشهد الثقافي التأكيد على المضمون الاجتماعي الإنساني كحرية الإنسان ومبدأ العدالة والمساواة وكشف الزيف والفساد والخلل الكامن في بنية مجتمع الرفاهية الجديد بعد اكتشاف النفط، بحيث يمكن القول معه أن كتّاب السبعينات، كانوا أصحاب الإرهاصة الأولى، وعلى صلة وثيقة مع تشكّل حياة اجتماعية وثقافية لا تخلو من الوعي الاجتماعي المضاد للثقافة السائدة، بحيث وجدنا أن أعمال الشرهان تعلّقت مضامينها بالماضي والحنين إلى الأرض والحياة البسيطة. ضمن مجموعة “الشقاء”، ثمة قصة تحمل عنوانا لافتا هو “دموع على الرصيف”، طرق فيها الكاتب موضوع العمالة الوافدة، وفي قصته “أحلام زائفة”، تناول قضايا ومشاكل مجتمع التحوّل، وكيف أن الانتقال من حياة البساطة والدّعة والهدوء النفسي، إلى حياة اللهاث وراء الماديات والتقليد، قد أوصل الناس إلى القلق وفقدان التوازن والأمان الدّاخلي، وكأنهم بذلك دفعوا ثمن التمدن الذي رغبوا فيه. وبهذا المضمون الذي طرحه الشرهان مع جملة ما طرحه كتّاب آخرون وبخاصة الكاتب عبد الحميد أحمد، يكون قد وضع نفسه في محور التغيرات الاجتماعية الكبيرة التي شهدها مجتمع الإمارات في ذلك الوقت. ولهذا يمكن القول عن القصة القصيرة في تلك الفترة أنها في تعبيرها ومضامينها ابنة شرعية ارتبطت بالمجتمع والمكان والزمان ارتباطا وثيقا. فخط الحنين إلى القديم لم ينقطع في أعمال الشرهان التي ظهرت في جنباتها العديد من رموز الماضي، وبخاصة (البحر) الذي اعتبر رمزا أصيلا لجيل الآباء والأجداد، وربما رمزا ضمنيا لرفض كل ما هو حديث، على نحو ما وجدناه في قصة “حفرة دون قاع”، والذي يعكس من خلالها مدى ارتباط الإنسان الإماراتي بالمكان (البحر)، حيث واجهة كاملة من العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية المتشابكة بين أبناء المجتمع البحري من نواخذة وبحارة وطواويش (تجار اللؤلؤ). في دراسة له بعنوان “القصة الإماراتية القصيرة الواقعية السحرية أنموذجا” للدكتور ضياء الصديقي، يشير فيها أن لجوء كتاب القصة القصيرة الإماراتيين للواقعية السحرية، يؤكد تطور مفهومهم لطبيعة الأدب الذي يتنافى مع النزعة التسجيلية في التعامل مع الواقع، كما عند الواقعيين الطبيعيين، ويتنافى مع النزعة التعليمية كما عند الواقعيين الاشتراكيين إضافة إلى اطّلاع الكتاب الإماراتيين على النماذج الناجحة في القصة العربية والعالمية بشكل واسع خاصة اثر قيام دولة الاتحاد. كما أشار إلى رغبتهم في التجريب، بمعنى التجديد والابتكار، أو تثبيت وترويج قيم فنية جديدة، والذين جربوا الواقعية السحرية من كتّاب القصة القصيرة في الإمارات عدد كبير منهم: مريم جمعة فرج، وسعاد العريمي، وعبدالحميد أحمد، وعلي عبد العزيز الشرهان، وبخاصة في جانب واقعية المضمون، حيث الواقع المحلّي المحدد المعالم، سواء في تصوير ورسم الشخصيات، أو في نقل واقع الشخصيات بهمومها وأحلامها، كذلك تصوير أثر المكان في سلوك وتصرفات الشخصيات. في حين وجدنا أن قيمتي البحر والنفط، كانتا عنوانا لافتا في قصص الشرهان، بل إنهما من أكثر القضايا إلحاحا داخل تلك الأعمال التي انفرد بها الكاتب لكي يعبر من خلالها عن منظور الحياة الاقتصادية الجديدة، وبذلك يكون قد وضع يديه على فعل (المقابل والنقيض) في تناول الفكرة والمضمون، ولعلها سمة بارزة في التناول حينما يرتبط باستثمار أمثل للمفردات ذات الصلة بالتراث والقيم والعادات والتقاليد، بحيث أصبحت مفردة مثل البحر معادلا موضوعيا للإنتاج والحرية والأمن الاجتماعي. شخصيات البحر في كتابه “المكان في القصة القصيرة في الإمارات” (منشورات المجمع الثقافي بأبوظبي عام 1997) يتناول بدر عبد الملك تحت عنوان: “القصة ومبدأ الانتقال والحركة في المكان” علاقة قصتي (عاشق الجدار، وداعا يا أحبائي ) بحركة المكان والشخصيات، فيقول: “في قصة “عاشق الجدار” للشرهان، نعرف أن الشخصية خارج البيت فتعود إليه محترقا، أما في قصة “وداعا يا أحبائي”، فالحركة والتّنقل تمّا بسرعة للغاية، وثمة نص من نوع دلالي مثل: “يأتي من السفن ويغادر البيت بدون أن يلتقط أنفاسه”، ونقرأ أيضا: “غبت عن المنزل”، ومفردة أخرى “ومع ذكريات العودة رحلنا”، كما نلمح تأثيرات علاقة الشخصية بالمكان في قصة “أفراح ما بعد الموت” ونقرأ: “وبطريقة مستعجلة وفي ليلة زفافها تغادر البيت إلى البحر”. أما في قصته “حفرة بدون قاع” فنجد البحار أو صياد السمك يعود إلينا، وقد صور الشرهان حركة انتقاله في المكان (البحر)، حينما يعود إلى المشهد القصصي بدون رجل” (الكتاب ص 31). يعيب بدر عبد الملك على الشرهان في توصيفه لحركة انتقال الشخصيات في المكان وبخاصة في قصة “حفرة بدون قاع” بقوله: “يختم الشرهان قصته ببكائية وتبسيط تدلل على غياب الكاتب عن تجربته القصصية، وإدراك فن القصة حين تتطلب النهاية مشهدية درامية حزينة أو ختامية مفجعة أو سعيدة، نغلقها بترك تساؤلات أو نجعلها مفتوحة بتساؤلات، بحيث يعيش القارئ مع النص وفي النص كجزء من الفعل والتفاعل وتنشيط الذاكرة والمخيلة عند القارئ بدلا من مستوى دوني لأبجدية الحياة التي يحياها ويراها كل يوم بكل صراعاتها وعنفوانها”. ونقول بحسب توصيفات القصة التي تتكون من مجموعة من العناصر الرئيسية من بينها المكان والشخصيات والحدث ومبرراته والنهاية، ربما يكون ما طرحه الكاتب بدر عبد الملك محقا في توصيفه أو رصده لمفهوم مبدأ الانتقال والحركة في المكان في قصص الشرهان التي عرض لها، ولكن من الواجب أن نضيف أن حركة الشخصية تتحدد إمكانياتها في حالات أخرى من خلال مواجهة الذات للمواقف واتخاذها قرارا حاسما في موقف محدد، على نحو ما ورد في قصة الشرهان “أفراح ما بعد الموت”، فحركة الشخصية في تقديري كانت حركة طبيعية والانتقال أيضا كان طبيعيا، من حيث تفاعل الذات مع الظروف المحيطة بها، وان كان قد تمّ الانتقال سريعا في المكان، فلأن ذلك عائد إلى اختزال الشخصية للمتتاليات، وقد وجدنا مثل هذا الاستخدام واضحا في أعمال عالمية كثيرة مثل “موللوي” لبيكيت، و”الصوت الغاضب” لوليام فوكلر، وقد يبدو (كافكا) أيضا كما لو كان استطاع أن يتغلب على تحلل العالم الموضوعي من خلال انتقائه تفصيلات الواقع، إلا أنه في حقيقة الأمر لا يصور الواقع كما هو، بل كما يعيش في خيال الذات القلقة، ولعل هذا ما فعله الكاتب الشرهان في قصته التي أشار إليها بدر عبدالملك. إن العرف عند الكاتب مصدر مباشر من مصادر القص حيث يعطيه قوة الإلزام، والعرف المحلي هو ممارسات راسخة لا يتطرق إليها الشك كونها ملزمة اجتماعياً، رغم أنها تفتقر للقاعدة التكتيكية، إنها ميل إلى أن يصبح الإنسان أكثر قوة، دون أن يبالي بالوسائل التي يستخدمها إنها إرادة القوة، وينشأ لديه حنين غالبا ما يكون من ترك الإنسان لبيئته ووطنه ويؤدي إلى الكرب والنفور: “نهضت لأفتح الباب إنها المفاجأة رسمت في ذهني علامة استفهام، انه صاحب سفينة البتيل، دعوته للدخول بادرني قائلا: عليك الالتحاق بالبتيل، إلى الهند. ـ ولكن منذ أيام جئت من أفريقيا! ـ قلت لك يجب أن تتجه إلى الهند، “البتيل” جاهزة، الجميع ينتظرونك، الرحيل الليلة” (وداعا يا أحبائي ص 13 و14). أو على نحو هذا القول الذي يصدر عن أحد البحارة المتجه إلى رحلة الغوص، حيث المصير المجهول: “ودعتهم بقبلات حارة خرجت من المنزل بخطوات ثقيلة وقفت بالباب قليلاً سادني تفكير بالعدول عن الذهاب لكن لقمة العيش.. قررت الرحيل غبت عن المنزل” (المصدر السابق ص 15). الزمن النفسي لدى نقاد الغرب مفهوم آخر للزمن في القصة، وبخاصة بعد أن تمّ اكتشاف السينما، والحقيقة أن عالم السينما لا يختلف كثيرا عن الواقع، وفي القصة أيضا فالحدث ليس هو الحياة نفسها، وإنما هو قطعة صغيرة من الحياة الكبيرة الواسعة. ويقرّ الناقد دو لوز بوجود صورتين للزمن الأولى قوامها الماضي، والثانية أساسها الحاضر، وفي القصة يكون الكاتب هو الصورة الحقيقية، بينما يكون الراوي أو السارد هو الصورة الكامنة. وفي تقديري أن الشرهان في قصته “سهرة في أحضان اللحظة” قد تتبع خطى البعد التاريخي (الزمني) وهو الزمن الكائن في المكان، لأن الأخير يمثل خطا أفقيا يتحرك عليه الزمن، وهو كمية الحركة في المكان. تماما كما حدث مع الشخصية الرئيسية في القصة، ذهب من بيته إلى ديوانية أبي مشهور للقاء أصدقائه كالمعتاد، ثم عاد إلى المكان الأول ليجد زوجته ميتة، لتتبدل حالة الشخصية والمكان، إلى قسم الشرطة، وهو مكان جديد، ولكن في إطار زمني واحد متتالي ومترابط ومتسق ومنتظم، حيث الفضاء الجغرافي واضح تماما، كما أن أماكن الانتقال واضحة وتحمل خصوصيتها الكاملة، فمن الأماكن الاختيارية (البيت)، إلى إطار الأماكن القسرية (السجن) رسم الشرهان حركة شخصيته، ومن التقاء تلك الفضاءات، صنع فضاء جديد تمثل في الفضاء الموضوعي للكاتب. لقد استخدم الشرهان وسيلة مهمة لرصد حركة شخصيته، وهي (الزمن النفسي) وهو الزمن الأكثر أهمية في التعبير، وكان متواترا متصاعدا ويتجه بحالة الشخصية نحو الذروة ومن ثم النهاية في إطار منطقي واضح. لقد سلط الشرهان عدسته الدقيقة باتجاه أمكنة تحمل الكثير من الرموز والدلالات، فديوانية أبي مشهور، هي المجالس التي كانت تحظى باهتمام مجتمع الإمارات قديما، حيث كانت ترصد فيها حياة البحر وسوالف الغوص على اللؤلؤ وحياة المجتمع البحري القديم، كما كانت تثار في تلك المجالس بعض المشاكل الاجتماعية الطارئة، كما أنها كانت تعكس حياة التكافل الاجتماعي، أما تسليطه الضوء على قسم الشرطة، حيث التوقيف، وما يرتبط بذهن الناس عن السجون وما يحدث فيها، وقد سلط عديد من كتاب الإمارات على مثل هذا التناول أمثال الكاتب عبدالله صقر في قصته “السقوط”، كذلك جمعة الفيروز في قصته “الاختيار المفاجئ”، ومحمد المر في قصته “خروج”، بما يشي في النهاية إن الشرهان قدم لنا دلالية واضحة من خلال ربطه المكان بالزمان، بطريقة موحية، دون الإخلال بعلاقة الإنسان الكاملة ببيئته الاجتماعية. اللون المحلي تحت باب “الحركات الميكروسكوبية” في ذات الكتاب لبدر عبد الملك، يشير أن الشرهان يصف حركة ميكروسكوبية لجلسة القمار في قصته “سهرة في أحضان اللحظة”، وقال عبد الملك: “وقد اخترنا تعبير “الميكروسكوبية” لان الصور بالكلمة تحتاج للمخيلة، مثلما تحتاج العين المجردة لرؤية الأشياء الجزئية بالمنظار “المجهري” للتعرف على الصورة والمادة المتحركة. من هنا ندرك القيمة الفنية التي يوظفها أحيانا بعض كتّاب القصة القصيرة في سرديته ونسيجه للتفاصيل التي تخدم غاياته بدون أن يقع في “مصيدة” الرتابة والملل في بنية حكائية عابرة تعتمد على اللحظة والتكثيف”. في الواقع ورغم التباين في تنظير بدر عبدالملك لقصة الشرهان، إلا أن تحليله هذا في اعتماد الكاتب الدّقة في الوصف أو رسم الصورة، يبعث على التفاؤل في أن كاتبنا كان على دراية جيدة في التحليل الواعي الدقيق، أو التحليل الجمالي للشكل، بما يوصل إلى خلفيات الواقع الاجتماعي، وبروز ظواهر سلبية، تعكس ظروف وسلوك ودوافع الشخصيات في القصة، وهو ربط ماهر بين المقدمة والنهاية، فهو يعمد إلى الكشف التدريجي عن حالة الشخصية وتاريخها من خلال الصورة المشهدية الدقيقة التفاصيل والحركة والإيقاع، بحيث حدد لنا نقطة الانطلاق، ونقطة الوصول دون أن يغلق حدود فن التشويق. لقد نجح الشرهان في تقديري في تقديم الشخصية الإنسانية الديناميكية في مختلف جوانبها: داخلها وخارجها، ماضيها وحاضرها، أحلامها وهواجسها، كما أنه رسمها أيضا على أنها شخصية مغامرة متمردة من خلال ممارسة (لعب القمار)، وهكذا تتحول القصة عنده إلى عالم مضطرب ومتشابك يزخر بالتداعيات ويفيض بالمشاعر المبهمة. كما يمكن أن نضيف هنا أن الكاتب الشرهان برغم الهنات في بعض وسائط السرد المستخدمة في قصته “سهرة في أحضان اللحظة”، إلا أنه أكد حضوره المميز في جانب تصوير (اللون المحلي)، وهو يذكرنا بذلك بكتابات الواقعيين الطبيعيين، حتى أن أكبر نقادهم في القرن التاسع عشر، وهو الفرنسي جوستاف بلانش Gostaf Blanche، كان يقصد صراحةً بالواقعيّة Realism اللون المحليّ، أي: التفاصيل المستمدّة من البيئة المحليّة، ثمّ نجد إنجلز Angles يستعمل مصطلح البيئة في إحدى رسائله، وبعد زمن سيشيع هذا المصطلح ومرادفاته المتعدّدة في كتاباتهم، وسيغدو واضح المعالم والحدود. وفي هذا السياق، تكون قصة الشرهان ذات نكهة وإيقاع محلي خالص سواء من خلال الشخصيات والأماكن، أو من خلال التصوير الدقيق للبيئة الاجتماعية. وإذا أردنا المزيد في مجال اكتشاف المخبوء في تجربة الشرهان، ولم يتطرق إليه النقاد بشكل ملموس، ما يتمثل في بروز ملامح (الاتجاه الرومانسي) لديه من خلال الأجواء التي رسمها في قصصه، وهي أجواء الحميمية في ارتباط شخصيات قصصه بالماضي بكل مفرداته ومزاجه الإنساني، بل وثقافته التي يغلب عليها طابع الأصالة والقيم والسلوك الأخلاقي الحميد، زد على ذلك ارتباط الشخصية ببيئتها بصورة عكست ملامح تلك الشخصيات وواقعها. من النقاد الذين خصصوا موضوعا كاملا لمجموعة الشقاء للشرهان، الناقد علي الصيرفي الذي كتب تحت عنوان “الشقاء: صراع المتناقضات دخول في عالم الحداثة”، ويرى الصيرفي في لغة الشرهان بأنها “هي ذاتها سر غامض لا يستطيع أن يتحدث عنها إلا إذا استخدم لغة تحمل معها الأولوية للحرية لذلك نرى إصرار الكاتب على البعد الشخصي للغة، على أنها باستمرار وسيلة اتصال بين الناس، فاللغة لا تدل على أشياء (...) لقد أصر الشرهان على تشكيل البنية العميقة للقص وتصاعد التوتر الوجداني عند أشخاصه، حيث يبلغ ذروة مأساوية، فتصبح اللحظة بوابة يمتد منها مجرى مستقيم إلى الأمام وآخر إلى الخلف حيث نعود ونسير في ذلك المجرى المرعب، وإن هذه الفكرة توحي بشيء تراجعي يشبه التكرار حيث يعبر الكاتب عن أن فهم التاريخ يعني التخلص من كل الأوهام وأن نعرف ما حدث وما يحدث وما سيحدث”. إن الإنسان عند الشرهان، صاحب موقف بالدرجة الأولى، سواء في مواجهته للمجتمع أو في مواجهته للعالم بقيمه الجديدة، فيحكي لنا الشرهان في قصته “الوداع يا أحبائي” قصة المواجهة بين الإنسان وحياته الضاغطة، وما يحيط به من مشكلات وهموم من خلال السرد الذاتي: “الصمت المميت، الترقب، القلوب في خفقان مستمر، سلسلة الأحلام التي في ذهن كل منا اضمحلت، واختفت درجة الأمل، وركزت تفكيري، وبدأت اشعر أنني سأصادف الكثير من المتاعب” (القصة ص 11). كما يبدو لنا من الجمل القصيرة المتواترة في النص السابق، فان الكاتب يلجأ بمهارة عالية إلى أسلوب القصة داخل قصة، أو على نحو ما عرفناه في المسرح عند الإيطالي لويجو برانللوا من أسلوب المسرح داخل مسرح، والشرهان أيضا يختزل الكلمات، ليقدم لنا قصة هي أشبه بالقصة التلغرافية التي ظهرت قبل سنوات في أوروبا، المفردة المكثفة التي تصنع صورة كبيرة تتيح الفرصة للقارئ كي يعمل خياله. ثمة تعددية واضحة في العناصر التي أقام عليها الشرهان قصص مجموعته “الشقاء”، فمن جانب الشخصية، قدم لنا نمطا فريدا من الشخصيات التي تعيش من أجل الغير، وذلك في إطار تعزيز مفهوم (التضحية) يوم أن كان (الفريج) يجمع الناس على الترابط والمحبة والخير والمصير المشترك، وذلك في رصد جميل للعلاقات الإنسانية: “كلمات جعلتني اقتنع بأنها تجد في الإنسان المطلوب لها، وخاصة أنها فقدت زوجها، وهناك ما يدهشني حقا، أليس ارتباطها بي هو بدافع حاجتها المستمرة للسّمك الذي يتوافر لها دون مقابل، لا،لا، إنها تحبني” (المجموعة ص 19). قضايا العصر إن موقع الدكتور علي الشرهان سواء في المجال الكتابي أو المجال الأكاديمي والدبلوماسي، ربما يميزه عن أقرانه من حيث سعة التجربة والثقافة وعلوم المعرفة، وبخاصة اجتهاده في مجال إصلاح العملية التعليمية بحكم عمله وزيرا للتربية والتعليم والشباب في فترة مهمة من حياة الإمارات، ولقد كانت إحدى هواجسه ومقاصده الحقيقية حتى في كتابته القصصية على وجه الخصوص، تتمثل في ترسيخ مفهوم وقيمة التراث في بناء الإنسان وربطه بمفهوم المعادلة الصعبة التي تجمع الأصالة والمعاصرة، وربط ما يمكن ربطه منها بحياتنا بشروط الإحياء الحديثة والمعاصرة وبإستراتيجية التنوير الأصلية، ولهذا كانت فكرة إبداع التراث في نظره فكرة مركزية، إذ إنها لم تعن ربط الماضي بالحاضر فقط، وإنما ربط الحاضر بالمستقبل أيضا، هذا المستقبل الذي يلوح في الأفق وينذرنا بمخاطر عظيمة إن نحن لم نهيئ أنفسنا له على نحو متكافئ وبخاصة في مواجهة تحديات العولمة الجديدة في الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد. أو على نحو آخر إن المشكلة لم تكن عنده مشكلة معرفة ومنهج وأيديولوجية بقدر ما كانت مشكلة (فعل) سديد يكافئ الظروف الموضوعية، ولا يقفز فوق الواقع ومتطلبته النقدية العملية. لم يكن الكاتب الوزير إلا إنسانا واعيا لرسالته الوطنية، ضمن منظومة فكرية تقوم على احترام عقلية الآخرين وبخاصة القارئ، الذي كان يصر على الدوام أن يكون هو مفتاح البحث عن الحرية والعدالة الاجتماعية، وأيا كان الأمر فإن إنجازات الرجل في حقل الكتابة في مرحلة مفصلية من تاريخ الإمارات (السبعينيات) ودوره الفاعل في حقل التربية والتعليم، تمكننا من القول انه نجح في ترسيخ مفهوم أدب الالتزام وإلى ارتباط الأديب بقضايا عصره، ارتباط نوعي، لا شكلي كما يدّعي بعض الكتاب الذين يحلو لهم ركوب الموجة. الكاتب الوزير ولد الدكتور علي عبدالعزيز الشرهان في إمارة رأس الخيمة عام 1950، حاصل على دكتوراه الفلسفة في علم اللغة الاجتماعي من جامعة أسيكس بالمملكة المتحدة، تقلّد منصب وزير التربية والتعليم والشباب في الدولة خلال الفترة ما بين 1997 ـ 2004، وقبل ذلك تنقل بين العديد من الوظائف والمناصب المهمّة منها: وكيل وزارة مساعد بوزارة الأشغال والإسكان 1978، معيد بجامعة الإمارات العربية المتحدة 1980 ـ 1988، ومن ثم أستاذا مساعدا، فنائبا لمدير الجامعة لشؤون التخطيط 1994 ـ 1997، مدير مركز بحوث التاريخ والتراث في ذات الجامعة 1989 ـ 1990. عضو اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات. صدرت مجموعته القصصية “الشقاء” عن منشورات المطبعة العصرية بدبي عام 1977، أما الطبعة الثانية من الرواية فقد صدرت عن منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات عام 1992، كما صدر له كتاب بعنوان “تحولات اللغة العربية الدارجة” عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات بالشارقة عام 1989. ومما ترجمه قصّة بعنوان “السمكة الصغيرة” للكاتب الإيراني صمد بهرنجي 1986. من القرارات التي اتخذها خلال توليه منصب وزير التربية والتعليم والشباب، قراره الشهير عام 2001، بسحب كتاب (WORLD SINCE 1914)، والذي كان يدرسه طلبة الصف التاسع بمدرسة “كمبردج” الدولية في أبو ظبي والعين والدوحة، ويتضمن مغالطات صارخة حول تاريخ العرب والإسلام والمسلمين والقضية الفلسطينية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©