لعلنا لا نضيف جديداً إذا قلنا إننا نعيش إشكالاً حضارياً منذ غروب شمس حضارتنا التي أشعت على العالم يوماً ما، وتركت فيه بصماتها، إذا ما استثنينا المرحلة الإصلاحية التي قام بها أعلام التنوير العربي في مطلع ما سمي بفكر النهضة ولم يكتب لها الحياة؛ أمثال: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي ورفاعة رافع الطهطاوي، ومن تلاهم من جيل طه حسين ولطفي السيد وسلامة موسى وشكيب أرسلان وقسطنطين زريق والطاهر بن عاشور.
منذ فشل محاولات الفكر الإصلاحي وحتى يومنا هذا لم ننجح في إحراز تقدم حقيقي على مستوى الفكر أو الخروج من الإشكالية الثنائية الزائفة، المتمثلة في استبدال لحظتنا الحضارية الراهنة؛ إما بالانتظام في المرجعية الحداثية الغربية، أو بالانتظام في نموذجنا التاريخي السابق، بوصفه معطى ناجزاً لا بديل عنه، ولحظة تاريخية قابلة للاستعادة الحرفية.
لا ريب في أن بين هذين الموقفين الرئيسين موقف ثالث انتقائي؛ ينطلق من رؤية تهفو إلى ما وصف بالموقف التوفيقي بين المرجعيتين: الغربية والعربية، عن طريق الاستفادة من إيجابيات الحداثة وتبنيها، وتجاوز ما يمكن أن يكون إفرازاً سلبياً منها، مع السعي إلى توظيف بعض المعطيات التراثية. لكن هذه الرؤية تكشف عن تصور تبسيطي لقانون التقدم الحضاري وشروط استنباته، فضلاً عن صعوبة التطبيق الواقعي لهذا التصور النظري التجزيئي الذي ما فتىء يلجأ إلى ضروب من الانتقاء والتهجين، لتقديم (توليفات سيليفونية) براقة، مفرغة من شروطها التاريخية ومسوغاتها العلمية.
![]() |
|
![]() |
وبدلاً من أن يشهد الفكر العربي في مرحلة الانسحاب الحضاري التي نعيشها، سعياً حثيثاً نحو الاقتراب من فكر الحداثة والتقدم لدى الآخر، بتنا نشهد منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم ازدياداً مطّرداً في وتائر التطرف نحو نفي الآخر ورفض جميع ما يصدر عنه، والتحول من مستوى الفكر والتعبير إلى مرحلة مجابهته بممارسات عنفيّة، تمثلت في صعود تيارات الإسلام السياسي التي أخذت أشكالاً من العنف والتطرف وصل إلى حد التصفيات والتكفير لدى التيارات المتطرفة، ورفع شعارات الدعوة إلى استعادة النموذج التاريخي الجاهز للعرب وليس استلهامه، مع تبلور ملامح موقف جديد يجهر بالدعوة إلى الصدام مع الغرب على كل المستويات، واستهجانه مشاريع الإصلاحيين الرواد، واتهامهم بالتغريب والعمالة حيناً، وبالكفر والخروج على التراث والعقيدة حيناً آخر.
![]() |
|
![]() |