الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أعترف الآن.. خسرت رهانين ويتبقى رهان!

31 مارس 2015 22:00
لا بأس من أن يعترف المرء على الملأ بأنه أخطأ وجانبه الصواب، فتلك فضيلة أرجو أن نتمتع بها جميعاً، والثري فكرياً مثل الثري مالياً تماماً ولا يضر الأول أن تسقط منه فكرة أو اثنتان أو حتى مئة فكرة خاطئة. لا ينقص ذلك من رصيده شيئاً. المفلس فكرياً أو مالياً هو الذي يصاب بالهلع والتوتر إذا فقد فكرة أو فقد درهماً. وهب أن امرأ كل ما في جيبه عشرة دراهم، وفوجئ بك تثبت له بالأدلة والبراهين أن ثروته هذه مزيفة. بالتأكيد ستكون ضربتك في مقتل وستلقى مقاومة عنيفة وشرسة وسيحاورك ويناورك وربما يسبك ويلعنك وربما يموت كمداً من الحزن والغضب. هذا يشبه تماماً امرأ آخر كل ما في رأسه فكرة أو فكرتان، أو عشر فإذا حاصرته بأدلة تؤكد أن ثروته الفكرية هذه خاطئة وفاسدة فسوف يقاومك بعنف حتى يقاتلك أو حتى يقتلك.. وسيكون حوارك معه عبثياً، لأن المفلس أو الفقير فكرياً لا يمكن أن يتنازل عن بضاعته الفاسدة التي لا يمتلك غيرها.. وهذه مشكلتنا مع «الإخوان» وأتباعهم الإرهابيين ومع أدعياء الدين. فهؤلاء مفلسون فكرياً لذلك يكون رد فعلهم في مواجهة أفكارهم الفاسدة شرساً وعنيفاً وعدوانياً واتهامياً. بمعنى اتهام من يحاصرهم ويحاورهم بالكفر والزندقة وإشهار سيف الحرام والحلال في وجهه. المفلس في كل أحواله متوتر وانفعالي وإرهابي يأتي بصلاة وصيام وزكاة وحج يوم القيامة وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا فيأخذ الجميع من حسناته حتى تفنى ويطرح عليه من سيئاتهم فيطرح في النار. هذا معنى حديث شريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني المفلس شتام وسباب وعنيف وانفعالي وشرس ولص مال ولص أفكار. مفلس المال يسرق ويأكل أموال الآخرين حتى إذا كانت مزيفة. ولص الأفكار يسرق ويغش أفكار الآخرين حتى إذا كانت فاسدة، يفكر عن طريق غيره، وينفق أموال غيره، والمفلس فكرياً ومالياً رجل طاووسي يُقال عنه في المثل العامي المصري (ريش على ما فيش)، أو يقال: (منفوخ على الفاضي)، تتوهم من خلال مظهره أو كلامه أنه ملياردير عصره أو مفكر زمانه، لكن الأثرياء فكرياً ومالياً في غاية البساطة وفي قمة التواضع والهدوء والسكينة.. وشعار الأثرياء فكرياً قول الإمام الشافعي: ما حاورني أحد إلا دعوت الله أن يجري الحق على لسانه أو لساني، وقوله الأشهر: رأيُنا خطأ يحتمل الصواب ورأي غيرنا صواب يحتمل الخطأ.. وقبل ذلك كله قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أصابت المرأة وأخطأ عمر. أقول قولي هذا لأنني أخطأت مرتين وتراجعت عن الخطأ مرة وأتراجع الآن مرة أخرى، ولأنني خسرت رهانين ولكنني أراها أجمل خسارة في حياتي.. خسارة تمنيتها كثيراً. الأولى عندما سرق «الإخوان» السلطة في مصر، فقد راهنت على أن حكمهم سيستمر خمسة قرون لأن الشعب مات أو دخل في غيبوبة طويلة، ولأن «الإخوان» يؤمنون بالديمقراطية مرة واحدة فقط وهي الديمقراطية التي تأتي بهم إلى الحكم. وبعد ذلك (انسوا). ولكن الشعب المصري ضرب فكرتي في مقتل وألقى بها في القمامة وخسرت الرهان عندما اندفع طوفانه في الثلاثين من يونيو واقتلع «الإخوان» بعد عام واحد من سرقتهم للسلطة وما يسمى ثورة الخامس والعشرين من يناير – وتذكرت أن المقدمات في مصر بالذات لا تقود غالباً إلى النتائج المترتبة عليها منطقياً. فعندما قضى المصريون على التتار قضاء مبرماً حين اجتاحت جحافلهم الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها ولم تبق ولم تذر. كانت المقدمات كلها تؤكد أن مصر ماتت تماماً شعبياً ورسمياً، كانت بلا حاكم أو سلطان أو جيش وكانت تعج بالمؤامرات والفتن والقتل والدمار وكان الشعب كله غارقاً في الخرافات والدجل والاكتئاب العام والمجاعات والفقر والجهل والمرض. وفجأة وبلا أي مقدمات تشير إلى النتائج المذهلة التي حدثت تحطمت أسطورة التتار في عين جالوت. كل ذلك فاتني وأنا أبني على مقدمات خادعة تشبه المقدمات التي سبقت عين جالوت. وفاجأتني عين جالوت الثلاثين من يونيو التي دحرت مغول العصر الحديث، وهم الإرهابيون على كل لون وعلى كل شكل. وأما الرهان الآخر الذي خسرته وأسعدتني خسارته، فهو أن المقدمات كلها كانت تقود إلى نتيجة واحدة هي أن النظام العربي مات ولم يشبع موتاً، ولم يبق سوى استخراج شهادة وفاته ودفنه. قلت ذلك أكثر من مرّة. لكن المقدمات التي بنيت عليها لم تؤد إلى نفس النتيجة وفاجأتني عاصفة الحزم والتحالف العربي العملاق لإنقاذ اليمن وشعبه وشرعيته، وفاجأني النجاح المذهل حتى الآن لهذا التحالف، وفاجأني العمل الدبلوماسي الرائع والمنسق بدقة مع العمل العسكري. ولكن بقي رهان ثالث تمنيت لو أخسره ولكنني لم أخسره حتى الآن وهو رهان الاستمرار.. فقد اعتدنا منذ قيام ما يعرف بالنظام العربي على طفرات هائلة، لكنها مثل البرق والشهب تلمع وتومض بقوة هائلة وسرعان ما تخبو وتنطفئ وكأن شيئاً لم يحدث.. والاختبار الحقيقي لأي إنجاز أو عمل خلاق ليس تحقيقه ولكن استمراره والشيطان دوماً يسكن التفاصيل العربية. العناوين والموجز دائماً قوية ومدوية، لكن التفاصيل ضعيفة وهشَّة والأسئلة أضعاف أضعاف الأجوبة.. هل يستمر التحالف العربي بعد إنهاء أزمة اليمن؟ هل سيتم تشكيل قوة عربية مشتركة؟ هل ننتقل إلى الفعل ونتخلى عن سياسة رد الفعل التي أهلكتنا (وذبحتنا)؟ هل يحتاج التوحد العربي إلى أزمة أو كارثة أو جماعات إرهابية ليتم ويتحقق؟ العالم كله وخصوصاً العالم المتقدم تخلى عن شعار «الحاجة أم الاختراع» واستبدل به شعاراً آخر هو «الاختراع يخلق الحاجة». ولو فعل العرب نفس الشيء لانتهت تماماً سياسة الصدى ورد الفعل.. ولحققنا الدوام والاستمرار لإنجازات تنطلق قوية ولكنها تخبو مع الوقت.. هذا الرهان لم أخسره بعد، رهان الاستمرار والدوام، وهكذا أعترف الآن بأنني خسرت رهانين ويتبقى رهان! محمد أبو كريشة* *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©