الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفزاعة

الفزاعة
19 يناير 2008 23:38
هل يعقل أن تكون هذه الفزّاعة المخيفة هي نفس المرأة التي أحببتها وهمت بعشقها لحد الجنون؟ هل يعقل هذا؟ أين كان عقلي؟ كيف حدث كل ذلك؟ كيف هانت عليّ نفسي بهذا الشكل؟ كيف هان عليّ أهلي؟ وسمعتي·· ألم أفكر بها؟ ودراستي! وأحلام المستقبل؟ كيف أضعت كل شيء بغمضة عين وبلا أدنى تفكير؟ هل كنت مخدرا أم منوما تنويماً مغناطيسياً؟ هل كنت مسحورا؟ والله لا أدري!· الحكاية وما فيها أنني عشت ما يسمونه الحب الأعمى·· فأعماني عن النظر إلى وجه المخلوقة التي أحببتها، إلى سلوكها، إلى عائلتها، ماذا أقول؟ إنها حكاية غريبة فعلاً· تربيت في أسرة محترمة، تقدر التقاليد وتعتز بالأخلاق والدين اعتزازا كبيرا، فوالدي رجل صالح عرف بالتقوى والاستقامة، تاجر معروف له اسم كبير وسمعة طيبة· والدتي ابنة إحدى العائلات الكبيرة، امرأة صالحة مؤمنة ربتنا أنا وإخوتي على المبادئ الحميدة والخوف من الله· أنا أكبر إخوتي الخمسة، متفوق في دراستي ولم أعرف العبث الذي يميز الشباب عادة· أكملت دراستي الثانوية ودخلت الجامعة بنفس الحماس والرغبة في التفوق، ولم يكن بيني وبين التخرج إلا عام واحد· أحلامي كانت كبيرة وطموحاتي كانت واسعة· أردت أن أكون إنسانا مميزا، معروفا، يشار إليه بالبنان· بداية التعارف كنت أتمشى بسيارتي في أحد الشوارع، فجأة اصطدمت بي سيارة من الخلف، نزلت من سيارتي فوجدت أمامي فتاة مرعوبة ترتجف وتتوسل إلي بألا أبلغ الشرطة لأنها لا تحمل رخصة قيادة· لم أفكر وقتها بشيء سوى تخفيف الأمر عليها، فوعدتها بأنني لن أبلغ الشرطة لتهدأ قليلا، فشكرتني وطلبت مني إيصالها إلى بيتها لأن وضعها لا يساعدها على القيادة، فأخذتها إلى البيت وأحضرت أخاها معي ليعيد سيارتها فدعاني إلى بيتهم لمناقشة موضوع إصلاح سيارتي· كانت العائلة كلها بانتظارنا وقد أعدوا العشاء ودعوني لتناول الطعام معهم· كنت محرجا لكنهم أذابوا توتري بأحاديثهم وكأنهم يعرفونني منذ زمن· في اليوم التالي زرتهم للاطمئنان على الفتاة التي لم تكن معنا على العشاء بعد الحادث· فوجئت بفتاة أخرى غير التي شاهدتها بالأمس، أو هكذا خيل إلي، فهي تبدو وكأنها ممثلة أو عارضة أزياء، وكل شيء فيها ملون وجذاب· لم أكن أنوي الإطالة ولكنهم استبقوني وأشعروني أنني واحد منهم· فقد أخذتني الفتاة لغرفتها بسبب مجيء ضيوف آخرين· استغربت الأمر ولكنني كنت مأخوذا بكل شيء، فالأمور كلها جديدة عليّ، وأنا لم أتعود على الاختلاط في حياتي، بصراحة كانت هذه أول مرة أتحدث فيها إلى فتاة غريبة وأجلس معها وحدنا· ارتبطنا بعلاقة قوية، وصارت تتحدث معي مطوّلاً عبر الهاتف، وتدعوني لزيارتها في منزلهم، وكان أهلها يستقبلونني بحرارة ويتركونا وحدنا وينشغلوا مع ضيوفهم الكثر· كنت أستغرب كيف يرضيهم بقائي مع ابنتهم، ولم ترشدني خبرتي البسيطة في الحياة إلى الجواب الصحيح· تطورت الأمور بيننا وصارت جزءا هاما في جدولي اليومي وشعرت بأنني لا أطيق فراقها أبدا· فجأة وبغير مقدمات قاطعتني، لا تتصل بي ولا ترد على اتصالاتي، وكلما ذهبت لمنزلهم اعتذر أهلها بأنها غير موجودة أو نائمة أو غيرها من الأعذار الواهية· ولما ألححت في السؤال أخبرني أخوها بأنهم منعوها مني خوفا على سمعتها، فماذا يقول الناس عنها الناس عندما أزورهم في بيتهم؟ كنت غبيا ساذجا فانطلت عليّ التمثيلية، وأخبرته بأنني أريد أن أتزوجها، فقال لي: وهل سألت عائلتك؟ قلت له: سأخبرهم، أنا رجل ولا أحد يمكنه التحكم بي· ابتسم وقال: سنرى ما يمكنك أن تفعل· فاتحت والدي بالأمر فطلب مني اسم الفتاة واسم عائلتها للتحقق عنهم· أكدت له بأنها عائلة طيبة وأنا مقتنع بالبنت ثم حكيت له ما حدث بالتفصيل· امتقع لونه وشعرت أنه سيسقط أرضا، فسألته: ماذا حدث؟ هل جاءتك نوبة السكر أم الضغط؟ أجابني: كلاهما!! ساعدته على الاسترخاء وتناول الدواء، فارتاح قليلا ثم أخذ يحدثني كصديق: يا بنيّ، أنت في سنتك الجامعية الأخيرة، ركز في مستقبلك ودراستك ثم فكر في الزواج· فقلت له: سأخطبها وأنتظر حتى أكمل دراستي فأتزوجها· مرة أخرى تغير وضعه فهاج غاضبا وصاح بوجهي: ألا تفهم؟ إنها عائلة سيئة·· أي غبي يمكن أن يعرف ذلك، ماذا تحتاج لتفهم بأن مثل هذه الفتاة لا تصلح أن تكون زوجة؟ إنهم حثالة من حثالات المجتمع· قلت له: أنت تخاف الله، فكيف تحكم عليهم مثل هذا الحكم؟ ألأنني أخبرتك بأنهم فقراء غضبت بهذا الشكل؟ هل الفقر عيب؟ قال: الفقر ليس عيبا، ولكنك أخبرتني بأن أهلها يتعمدون تركها معك لوحدكما، فهل هذا فعل لائق؟ هل تقبل أنت أن نترك واحدة من أخواتك مع رجل غريب؟ ثم إنك ألمحت إلى أنهم يستقبلون زوارا عديدين، فما معنى ذلك؟ قلت له: لا معنى له سوى أن علاقاتهم مع الناس طيبة· قال بحدة: وهل تستقبل العائلات المحترمة ضيوفها من الرجال بحضرة النساء المتبرجات؟ استغربت من قوله وسألته: كيف عرفت بأن نساءهم متبرجات؟ هل عرفتهم من قبل؟ فقال: يا بني إنها خبرتي بالحياة والناس، إن هذه العائلة لا تصلح للمصاهرة، فانس أمرها والتفت لمستقبلك الدراسي· قلت له: لماذا لا تسأل عنهم قبل أن تحكم عليهم؟ قال: الكتاب يعرف من عنوانه، وكل ما ذكرته عنهم يثبت أنهم أناس سيئون، فهل ترضى لنفسك أو لعائلتك مثل هذا النسب؟ أسكتني حديثه، فكرت بالأمر·· ماذا يقصد والدي؟ لماذا يعتبرهم أناس سيئون؟ ربما كانوا متحررين بعض الشيء· عموما قررت التريث قليلا قبل الخطوة التالية· القرار المصيري بعد يوم واحد عادت الفتاة للاتصال بي، أخبرتني بأنها تعلقت بي وأن أهلها منعوها من لقائي، وطلبت مني عدم مكاشفة أهلي برغبتي في الزواج منها، فأفراد عائلتي سيرفضون الزواج لأنهم ذوو عقلية متحجرة قديمة لا يعترفون بالمشاعر ولا يقدرونها· ولما أخبرتها بأنني فاتحت والدي بالفعل وأطلعتها على ما دار بيننا، قالت: ألم أقل لك أنا أعرف كيف يفكرون، فإذا كنت تحبني فأنا مستعدة للوقوف بوجه كل شيء وسأتزوجك لأنني لن أعيش يوما واحدا بعيدا عنك· كنت متعلقا بها، أصدقها في كل ما تقول· جمعت ملابسي وأشيائي وتركت بيت أهلي دون علمهم· تركت لوالدي رسالة أخبرته فيها بأنني رجل وأستطيع الاعتماد على نفسي وأنني سأتزوج من اختارها قلبي، فإن كان راضيا فليتصل بي وإن لم يكن فليتركني وشأني· ذهبت إلى تلك العائلة وحدثتهم بما فعلته فهنئوني على موقفي الرجولي وزوجوني ابنتهم بلا مهر ولا عرس ولا تكاليف· في الأشهر الأولى شعرت بسعادة لا توصف، وكأنني طائر في السماء· عملت بائعا في معرض للسيارات، واستأجرت شقة صغيرة جدا وفرشتها بأثاث بسيط بعد أن بعت سيارتي ثم اشتريت سيارة مستعملة رخيصة· كنت فرحا لأنني ولأول مرة في حياتي اعتمد على نفسي في كل شيء· نسيت طموحاتي ودراستي وأصبح همي الوحيد هو التمتع بحياتي الجديدة والغريبة عليّ· صرت واحدا من تلك العائلة، يسعدني ما يسعدهم ويزعجني ما يزعجهم· نقضي الأوقات كلها في البحث عن المتع، المراقص، المسابح، الحدائق، الحفلات·· حياة كنت أراها مبهجة لكنها تحتاج للمال فكنت أقترض من معارفي وأصدقائي لأسعد زوجتي وأهلها· كنت أقترض منهم ما أحتاج إليه من مال حتى بدأوا بالتهرب مني ثم قاطعوني مقاطعة كاملة خاصة وأنني لم أستمع لنصائحهم وظننت أنهم يحسدونني· بعد مرور سنة على زواجي بدأت الأمور تتغير· طلبت مني زوجتي الذهاب لأهلي والاعتذار منهم طمعا في المال، ولما رفضت صارت تعاملني باحتقار وقلة أدب· لأول مرة أراها على حقيقتها، مخلوقة بشعة شكلا ومضموناً، فهي تقضي الساعات أمام المرآة تعد نفسها لتظهر جميلة ومبهرة· كل الحكاية مجموعة من الأصباغ والألوان والعدسات اللاصقة والرموش الصناعية والشعر المستعار· استغربت كيف أنني لم أنتبه لقبحها؟ كأنني كنت نائما طوال الوقت· صحوت على هذه الحقائق وكأنني كنت في حلم لا أعلم كيف جرت أحداثه· فكرت في تخليص نفسي من هذا الوضع فلم أعرف· كان والدي على حق، فهذه العائلة كلها سيئة· في أقرب مشادة بيني وبينها صفعتها، فطلبت الطلاق فطلقتها وتخلصت منها· لم أمتلك الجرأة للعودة إلى أسرتي بعد فشلي الذريع· مرت سنة كاملة وأنا مكتئب وتعيس وقد ضاقت بي الدنيا، عندها فكرت بالعودة إلى ربي وطلب المغفرة منه، عدت للصلاة والاستغفار والتوبة فشعرت باطمئنان وبراحة نفسية كبيرة· بحكم عملي تعرفت على أرملة شابة يبدو عليها يسر الحال، وشعرت بأنها معجبة بي فقررت أن أبادر كي لا تضيع مني هذه الفرصة التي أرسلها لي ربي لتكون حبل نجاتي· فاتحتها برغبتي بالارتباط بها وشرحت لها وضعي فتقبلت الأمر برحابة ووافقت على الزواج فتزوجتها· ألحت عليّ في العودة للدراسة، وساعدتني على تحقيق حلمي ماديا ومعنويا حتى تخرجت وحصلت على الشهادة، فساعدتني أيضا في الحصول على عمل مناسب· وعندما استعدت نفسي وأصبح وضعي كما كان سابقا وأفضل، طلبت مني أن أستسمح أهلي وأعتذر لهم عن كل تصرفاتي السيئة، ففعلت، وفرح أهلي فرحا عظيما بعودتي لهم· فعلا·· الفرق كبير بين امرأة حطت من قدري ومستواي وامرأة رفعتني من جديد إلى الأعلى وجعلتني أشعر بأنني إنسان ناجح أستحق الاحترام· رزقت بطفلين رائعين وترقيت في وظيفتي حتى أصبحت أشغل مركزا جيداً خلال فترة قياسية· وأنا على عرش سعادتي وهنائي في أسرتي وعملي، يطل عليّ وجه بشع فينغص عليّ تلك السعادة، إنها طليقتي التي عرفت بأنني أصبحت أملك المال فصارت تلاحقني في كل مكان كالفزاعة المرعبة فتملأ نفسي بالقرف وأتساءل: هل إن هذه المخلوقة المرعبة، هي نفسها التي كنت اعتقد بأنني سأموت لو لم أتزوجها؟ إنه والله أمر غريب!!!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©