الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نجا المهداوي: حررتُ الحرف في «غَمرة»!

نجا المهداوي: حررتُ الحرف في «غَمرة»!
13 يوليو 2016 22:49
نوف الموسى أن ترتفع فوق المعنى، ليس هو أن تسأل عن المعنى، بل أن تجعله يمر عبرك، خلالك، بينك، دونك، وفيك، ولك، دون أن تفقد أنت معناك، نشوتك، فيضك، كينونتك، سحرك، بذرتك، وشجرتك، وازدهارك وحضورك.. أن ترتفع فوق المعنى، ليس هو أن تسأل عن المعنى، ولكن أن تموت في الحياة ألف مرة، وبعدها تكفيك ولادة واحدة! أن ترتفع فوق المعنى، ليس هو أن تسأل عن المعنى، إلا إذا امتلأت فراغاً، ووقتها لا تسأل أيضاً عن معنى الفراغ، ستفقد حتماً مبتغاك في الوصول إلى شيء يشبه الـ «غَمرة». أدندنُ وأدندنُ وأدندنُ، تلك الكلمات، أحاول وأحاول أن أجردها من المعنى، أوصاني بها الفنان التونسي نجا المهداوي، ولا أعلم، هل سأضع صفة «تشكيلي» قبل اسمه، وهو الذي يعتبر مفهوم (التشكيل) صنعة مخادعة، تفصل بين الإنسان والإبداع اللحظي للحياة، قالها بصوت هادئ: «أخط يدي على اللوحة، وأهتم باقتصاد السوق، وسياسة أن اشتمَّ وردة، وأُقدر الرفقة، وأنسجم مع حركة الإنسان العادي». ومع كل محاولاتي في كشف أغوار الحروف العربية الفاتنة التي رسمها نجا المهداوي على جلد الطبول، كالمناجاة، والعبور للجلوس بين الحضرة والحضرة كما أسماها نجا، وجدتُ نفسي أنصت لإيقاعاته في الدائرة الروحية، الذائبة في ما يراه تحريراً كاملاً للحرف من الكلمة والخطاب ولعبة المعنى، وصولاً إلى أن يتحدث الحرف بنفسه. «غَمرة».. باختيارها عنواناً لمزاوجة فنية ساحرة بين الموسيقى ورقصة الحرف العربي، شكلت خيطاً رفيعاً نحو التجربة الصوفية، وقد قلتها لنجا المهداوي، كالتي تقطف استعارةً مكنية أو مجازية، ناحية التودد لشجرة الحياة ومعجزة الإنسان والكون، ليسألني: ماذا تعلمين عن الصوفية، الدخول فيها صعب جداً، وغَمرة هنا، تستكين إلى تلك ال «التخميرة» و«النشوة» بأبعاد الفكر والجسد والروح. والجمال في ما أتقنه نجا المهداوي، هو إتيان الرحلة الروحية، بين أهداب الأعين المتطلعه للتجربة، وتبسيط فعل الإبداع الكوني، بين غَمرة الشدة، وغَمرة الفرح، وغَمرة الظلال، وغَمرة الاقتحام، وغَمرة البحر، وغَمرة الحقد، وغَمرة الظلم، وغَمرة الاتساع، وغَمرة الضيق، وغَمرة الجنون، وغَمرة القبح، وغَمرة الخير، وغَمرة العشق، وغَمرة الرضى، وغَمرة الغفلة، وغَمرة العلم، وغَمرة الهيام، وغمرة الفرج، وغمرة الاتزان... واستخدام كلمة «غَمرة»، في هذا النسق، تبعث في النفس الذهول، فهي كالداعي للمعنى بلا معنى، يكفيك فقط أن تضع حركة «الضمّة» على حرفها الأول «غُمرة»، ليصبح معناها «زعفران»، تلك النبته المائيّة من فصيلة عرائس الماء.. إلا أن زينة حركة ال «الفتحة» في أول حرف، وضع لها خاصية الانعدام للمعنى والكثافة في مخزونها النابض بالحياة، ولا شيء سوى الحياة! الحرف.. سلطان! رسوم الحرف على جلود الطبول، لدى نجا المهداوي، لم تصنع شكلاً رمزياً بديعاً، وكفى، وإنما تجاوزتنا للصمت، وأحيت الطبول، كما يحيي النفخ قصب الناي، إنه الاتساع في الاتساع، تمرر روحك بين الأشياء، لتمارس حس إدراك ذاتك، قالها نجا بنفسه وبعبارة صريحة: «أخذت مفهوم الوعي من الداخل، بأنه الانفجار الذي لا محالة منه، ولا مناص أيضاً. والاجتهاد العميق، يتيح دائماً فرصة تقديم شيء ما للمجتمع، وهذا ما جرى في معرض «غَمرة». ومدى الإدراك بحدس (السلطنة) التي يقدمها الحرف، كآلة العود، فيها ومنها، يكمن في ما أسميه التحرر. قرون ونحن نعيش التقليد، وأسطورة الأجداد. لستُ في موضع يخالف جانباً تاريخياً، وإنما أفتش عن منافذ تفتح مسارات التقوقع والعقم الفكري، إذ يجب أن نخلق أرضيات جديدة، ونغير المرجعيات، بإيمان يجسد أننا جميعاً نتشارك في إرث واحد، ونكف أيدينا عن غلق الأبواب. وسيبدأ تشكُّل سيرتنا كأفراد، عندما نعي بكامل قوانا الحسية والروحية، أننا خارج مخططات الآخرين، ونبني بذلك فرديتنا». لم يتوقف صوت الطبول طوال حديث المهداوي، كأنه المكون للحوار في المكان، وتخيل شكل ذبذبات الصوت، يأتي، كاحتمال دائريتها، وهو من ينسج أيقونة الدائرة في أغلب اللوحات الفنية، والتي وازت الحضرة الموسيقية بطريقتها المرئية، فالراقص على أنغامها، يحتاج إلى أن يذوب في المرئي واللامرئي، كما تغنى بها نجا تماماً، كالدائرة الأولى في الدائرة الثانية، وتصبح الدائرة في الدائرة، لتختلط وتذوب معها تماماً، فلا نعود للبحث عن قِبلة ما. وسؤال كيف يمكن أن تضيف للعالم، كفنان، يستدرج الفنان نجا دائماً إلى مسألة اليقظة، بأسئلتها الوجودية: ماذا نرسم ولماذا نرسم وهل مجتمعاتنا بحاجة لما يمكن اعتباره غذاءً ثقافياً، بالنسبة له فإن «البحث» يبقى المعيار العلمي، لإعادة اكتشاف الذهول لأشكال التكوين الفكري والروحي، فالوصول إلى مصادر الموسيقى وطبيعة الألوان وتأثيرها على الإنسان، لا تزال تحمل مخزوناً من العلاقات غير المكتشفة، فالموسيقى على سبيل المثال، تستمر في إلهام البشر، ويجتمعون على أنغامها المتنوعة، ورغم اختلافها من ثقافة إلى أخرى، إلا أنها قادرة على دهشتنا، حتى ولو لم نعرف لغة مؤلفيها! أصعب سؤال بعد انتهاء الحوار الدافئ عن المراسي الصوفية، تأملت مع الفنان نجا المهداوي، سر وضع الطبول بشكلها المعلق بسقف المعرض في غاليري «المرسى» بمدينة دبي، وهو الموقع الثاني لمقره الرئيس في تونس. ماذا سيفيد (المُتخيل) لعنصر الطبل المرصع بالخط، والذي يشكل هالات ترغم المشاهد على رفع رأسه، للنظر إلى أعلى، وهل يمكن مع استمرار حركة المشاهدة الطوعية أن يتم خوض غمار (الحضرة)، عبر المشاهدة، من خلال استمرارية المشي الدائري، كرقصة الدراويش، ما ينتج بطبيعته شعراً وجودياً، يكشف الوقوف بين أيدي التدفق المنساب للروح وتجلياتها في التجسيد المادي للأشياء، ويتوقف لحظتها المشارك/‏ المشاهد، عن «التفكير»، كمظهر من مظاهر التشتت، وينغمر في الاصطفاف المذهل للانصهار الجمعي، ويتهيأ للمرور بين الصوت وجلد الطبل، متوسداً بين تلك الحروف، ويكون هو الحرف، ولن يتساءل بعدها العابرون من هنا.. «ماذا يقول الحرف؟»، لأن أصعب سؤال يمكن طرحه على الإنسان، هو أن تطلب منه، أن يخبرك عنه نفسه! أجمل ما يمكن استشفافه، في تلك البقعة المسكونة، باكتشاف الذات والكون، والتي أثارها الفنان نجا المهداوي، بين لغة سر الوعي، وفن استشعار الحياة، هو الوصول إلى داهية الشعر، في قدرته على التفسير، وبالأخص ما رواه الحلاج في إحدى قصائده التي قال فيها: «مُزِجت روحك في روحي كما.. تمزج الخمرة بالماء الزلال.. فإذا مسَّك شيء مسّني.. فإذا أنت أنا في كلّ حال»، وذهب محيي الدين بن عربي، إلى وجود لا يسميه، وقال: «إني رأيتُ وجوداً لا أسميهِ.. فكلُّ شيء تراه فهو يحويهِ.. له الإحاطة بالأشياء أجمعها.. فكلُّ عين تراها أنها فيهِ». إلى الاطمئنان في بحور الحركة الجمالية للفنان التونسي نجا المهداوي، كتب عز الدين المدني عن الرحلة الإبداعية للفنان، موضحاً أن نجا المهداوي ولد سنة 1937، بحي تونسي إسلامي شعبي، بمدينة تونس، حيث يعتبر من أهم أحياء المدينة العربية. حفظ لغة القرآن الكريم، وأجاد خطّها، ودرس اللغة الفرنسية وآدابها ومعارفها، واللغة الإيطالية وعلومها الجمالية وفنونها، وبدأ عمره الفني بين كوكبة من التشكيليين والكتاب والشعراء والموسيقيين والمسرحيين الذين برزوا خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين في تونس. من معارضه الأولى تقديمه لمحبي الفنون والزائرين جميعاً، لوحات رسم عليها إنساناً يخرج من المألوف، يحيرنا ويسألنا بفضل تقنية متطورة، فنسعى للإجابة والاطمئنان، عبر مزجه بين العلاقة الحرفية العربية، بمحمولاتها المادية، فهو يرسم على البردي والرّقّ، والخشب والذهب والنحاس والضوء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©