السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إيف بونفوا: الحقيقيون لا يحتمِلُهُم أحَدْ

إيف بونفوا: الحقيقيون لا يحتمِلُهُم أحَدْ
13 يوليو 2016 22:49
هاشم صالح الشخص الذي رحل عنا مؤخراً لم يكن شاعراً كبيراً فقط، وإنما ناقد ومنظِّر للشعر من أعلى طراز. لقد ولد ايف بونفوا في مدينة «تور» المستلقية على شواطئ نهر اللوار وسط فرنسا العام 1923. وهناك توجد أجمل قصور ملوك فرنسا، ما عدا قصر فرساي الشهير القريب من باريس. ثم رحل مؤخراً عن عمر طويل يتجاوز الثالثة والتسعين. بعدما احتل أرفع المناصب الجامعية في فرنسا والعالم كله. وأصبحت دراساته مشهورة عن الشعراء الآخرين، وبالأخص رامبو، وأتذكر أني عندما اشتريت كتابه الجميل المصور المصقول عن رامبو، رحت أتصفحه بكل شغف في شوارع باريس وحدائقها قبل عشرين سنة. لم أستطع انتظار الوصول إلى البيت لكي أفتحه وأتعرف على ما فيه، ولكن هذا ينبغي ألا ينسينا غرامه بشاعر آخر كبير هو بودلير. ويمكن القول إن «ايف بونفوا» من الشعراء القلائل الذين ينجحون في كتابة الشعر والتنظير له في آن معاً. وبالتالي فعندما يعطي رأيه في شاعر كبودلير أو كرامبو فينبغي أن نصغي إليه، لأنه ينفذ عادة إلى عمق الأشياء، والواقع أنه كرس لهما معظم حياته، فعلى مدار خمسين عاماً ما انفك يتحدث عن بودلير ورامبو، أو رامبو وبودلير. وعلى أي حال فهما أعظم شعراء الحداثة في فرنسا وربما في العالم. يقول في إحدى مقابلاته: إليكم الآن الديوان الأساسي لشعرنا كله: أزهار الشر. فحقيقة الكلام التي تمثل الصيغة العليا للحقيقة لم تتجل أبداً في كتاب آخر، كما تجلت في هذا الكتاب، إن حقيقة الكلام تتجاوز كل الصياغات الأخرى. إنها تمثل حياة الروح، وهي ليست حياة نظرية مجردة، أو لم تعد كذلك. وإنما في حالة الفعل. إنها الحقيقة الأصلية الصادرة عن أعماق النفس. إنها متمايزة عن معنى الكلمات، وأقوى من الكلمات. لا شيء أكثر من الحقيقة يدفعنا إلى التحدث عن شارل بودلير. ذلك أنه عانقها واستشهد من أجلها، من أجل سواد عيونها. حياته كانت رخيصة في سبيل ذلك. إن أكبر نقد في العالم يتراجع أمام ذلك، ويعترف بإطلاق الحدث الشعر: أي بصفته المطلقة. أما فيما يخص بودلير الذي تعذب وتألم أكثر من أي شخص آخر، فلنتركه يرتاح. رغبته كانت في التواصل مع ما هو كوني. وكان له الحق أن ينصهر أو يمحى فيه كقطعة موسيقية. كان له الحق أن يتلاشى في الغيوم.. ولكن قد يحصل أحياناً أن تتجسد الروح في شخص ما. وأقصد بذلك أنه قد يظهر شخص معين يكرس حياته كلها من أجل الحقيقة. وبالتالي، فإنه يعرض نفسه لمتاعب وضغوط هائلة. وعندئذ يحصل سوء التفاهم بينه وعصره، ثم ينفصل عن عصره بسبب التفاهات والسخافات. عندئذ لا يفهمه عصره...عندئذ يقلص إلى أفضل ما فيه، إلى الأكثر غموضاً في شخصه، ويتخذ ذلك شكل الروح. وهكذا يضطر لأن يمثل ما هو أساسي في عصره، لكي تفهمه الأجيال التالية وتعيش عليه. إنه يضحي بعصره من أجل العصور اللاحقة. هذا هو قدر بودلير. لقد أصبح الآن بعد موته بأكثر من قرن ملكاً مشاعاً للجميع. وحياته النموذجية أصبحت فيما بعد مثاراً للتساؤلات والدراسات دون توقف..كم عدد أطروحات الدكتوراه التي كتبت عنه؟ كم عدد المراجع التي تتحدث عن شخصه وشعره؟ ليس بالمئات وإنما بالآلاف وفي كل اللغات. ومع ذلك فلم يعش أكثر من 46 سنة، وانتهى شبه مجنون وغير قادر على النطق ولو بكلمة واحدة. أتوقف هنا لحظة لكي أتساءل مع ايف بونفوا: لماذا لم يلق بودلير أي اهتمام في عصره؟ لماذا «لم يعش الحياة التي يستحقها»، كما يقول جان بول سارتر في عبارة شهيرة: لماذا احترق وتعذب دون أن يسمع أحد صوته؟ لماذا لم يصادف إلا السخرية والتهكم من مجتمعه؟ ربما كان السبب يعود إلى أن بعض الكتاب الكبار يجيئون أحياناً قبل الأوان. وهنا تكمن مصيبتهم. فلا أحد يفهمهم أو يتفهمهم. وحدها الأجيال التالية ترفعهم إلى مصاف العظماء وتحتفل بهم. ولكن ما نفع ذلك بعد أن ماتوا؟ لماذا لم تعرف قيمتهم وهم أحياء؟ هنا تكمن المأساة الحقيقية فعلاً. وهذا الكلام ينطبق أيضاً على رامبو وجيرار دونيرفال وادغار آلان بو، وآخرين. فمن المعلوم أن بودلير كان قد تحدث عن هذه المسألة في مقدمته لترجمة أعمال ادغار آلان بو، حيث ربط بين النحس وامتهان حرفة الأدب، وسوف أضيف إلى ذلك قائلاً إن الناس الحقيقيين مزعجون، ولا يستطيع أحد أن يتحملهم. ذلك لأن المجتمع قائم على المجاملات الإجبارية. وهم لا يستطيعون أن يجاملوا أو ينافقوا، فيحصل الصدام بينهم وبين معاصريهم ويدفعون الثمن غالياً. فما علاقة الشعر بالمساومة؟ الشعر حدي أو جذري، راديكالي بطبيعته، الشعر انفجار للبراءات الأصلية، للحقائق المكبوتة، والمجتمع بشكل عام لا يحب الحقائق، وإنما التسويات والمساومات. لكن لنواصل مع ايف بونفوا حديثه عن بودلير من حيث انقطع. يقول ما معناه: أحياناً أتساءل: لماذا تجسدت حقيقة الكلام في «أزهار الشر»؟ إذا كنا نحدد هذه الحقيقة بشيء آخر غير الغرابة الكاملة، وبغير طبيعتها المتطرفة كلاهوت سلبي، فإني أقول بأنها قبول أو رضى. هناك صوت آخر غير صوته، ناء في أعماق صوته، صوت يتوافق مع الشخص الذي يتكلم. وبما أنه أكثر نقاءً منه ومن صوته فإنه يستنفد نفسه في الكلمات، وما هو موجود، وما ينبغي أن يوجد يتوقفان، ولو للحظة، عن كونهما عالمين متضادين. وهكذا تحصل مصالحة أو غفران من خلال الحمى الأبدية.. ماذا يقصد ايف بونفوا؟ إذا كنت قد فهمته جيداً، فإن ذلك يعني أنه تتصارع في بودلير شخصيتان أو صوتان: صوته وصوت آخر أعمق من صوته، والصراع بين الصوتين أو الشخصيتين هو الذي يولد الشرارة الشعرية، أو القصائد العبقرية. كل شاعر كبير – أو حتى كل كاتب كبير – منقسم على نفسه بشكل أو بآخر. إنه يعاني من هستيريا شخصية. وهذه الهستيريا لا تتوقف – ولو للحظة – إلا عن طريق الإبداع، عن طريق توليد القصيدة، وبالتالي فالإبداع هو علاج مؤقت لانفصام الشخصية. إنه مجرد تأجيل للانهيار والجنون. نقول ذلك ونحن نعلم حجم العنف الداخلي المكبوت الذي كان يسكن بودلير ويكاد يفجره من الداخل تفجيراً..كل الشهادات التي وردتنا عنه تدل على ذلك، بل إننا لسنا بحاجة إلى الشهادات الشخصية. يكفي أن نلقي نظرة على قصائده، إنها مبنية على حقل من الأنقاض: أنقاض الصراع الهائج الذي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ثم يتساءل ايف بونفوا: ما الذي اخترعه بودلير فنياً، ويميزه عن فيكتور هيغو؟ بمعنى آخر: لماذا نقرأ بودلير حتى اليوم ولا أحد يقرأ فيكتور هيغو؟ فهما يستخدمان الأداة الشعرية نفسها، ولكن الوعي الموظف والأهداف المبتغاة بعيدان عن بعضهما بعضاً بعد السماء عن الأرض. أنا شخصياً أجيب عن هذا السؤال فوراً، وأقول: لأن فيكتور هيغو كان متصالحاً مع نفسه وعصره، بل وكان معجباً جداً بشخصه وناجحاً على الصعد والمستويات كافة، سواء من حيث الشهرة أو الغنى أو المجد، في حين أن بودلير كان فاشلاً على الصعد والمستويات كافة. لقد خسر بودلير كل شيء، أو قل ضحى بكل شيء من أجل قضية واحدة، هي قضية الحقيقة الشخصية، الحقيقة الذاتية العميقة، ويعترف ايف بونفوا بأن الحقيقة قبل أن تكون هدوءاً أو راحة كانت معركة طويلة مع الذات. وبالتالي، فإن التهدئة التي نلمحها في قصائد بودلير التي تريحنا نفسياً كانت ناتجة عن عنف قاتل وعذاب مرير. ومن هنا أهميتها أو طابعها العلاجي بالنسبة لنا. كان بودلير أكبر طبيب لأنه كان أكبر مريض. وهنا أتجاوز كلام ايف بونفوا وأتحدث باسمي الشخصي، والواقع أني أستشهد به بكل حرية وتصرف، فالهدف هو التفكير معه أو الانطلاق منه لقول شيء آخر ليس مضاداً له وإنما مكملاً له. أنا أقوم برحلة مع ايف بونفوا على هامش بودلير، وربما على أنقاضه! قرن بودلير أم تحت راية بودلير؟ قبيل موته بسنتين أو ثلاثة نشر ايف بونفوا كتابين ضخمين عن بودلير. وهما محصلة نصف قرن من معاشرته لشاعر فرنسا الأكبر. عفواً فيكتور هيغو! الأول بعنوان: قرن بودلير، والثاني: تحت راية بودلير. في الكتاب الأول يقول ايف بونفوا هذا الكلام المهم: لقد شهد القرن التاسع عشر حصول أحد أكبر الأحداث التاريخية بالنسبة للفكر البشري، ألا وهو: انحسار الدين المسيحي والعقائد اللاهوتية عن وجه البشرية الأوروبية. هذا الانحسار كان واسعاً لدى النخبة المثقفة من شعراء وأدباء وفلاسفة. ولكنه كان محدوداً لدى عامة الشعب الذي بقي متعلقاً بدين آبائه وأجداده، ولم يخرج من الطقوس والتدين التقليدي إلا على مراحل. وينبغي العلم بأن الأكثر حدة وكثافة وعمقاً من كبار شخصيات تلك الفترة - أي بودلير - كان قد طرح مسألة التدين من جوانبها كافة. واضطر في نهاية المطاف إلى الإذعان والاعتراف، كما لو غصباً عنه بأنه فقد الإيمان التقليدي الموروث الذي تربى عليه في طفولته، ولم يعد قادراً على التعلق به كما في السابق. وفي مثل هذا الجو انبثقت مسألة دقيقة ومحددة جداً، مسألة تخلع على الشعر أهمية خاصة ووظيفة جديدة. ألا ينبغي أن نتوقف عن طرح مسألة التعالي بمعايير ومفاهيم خارقة للطبيعة؟ كيف طرأ التغير على علاقة الإنسان الأوروبي بالتعالي في عصر الحداثة والعلم والتكنولوجيا؟ ثم هل حل الشاعر محل الكاهن المسيحي في قيادة الشعوب وإعطائها الأمل بالخلاص؟ نلاحظ في هذا الكتاب أن ايف بونفوا يركز على التناقضات التي راح يتخبط فيها صاحب أزهار الشر. على أي حال، ومن وجهة النظر هذه، فإن القرن التاسع عشر ليس فقط قرن ميشليه وماركس ونيتشه وفرويد، وإنما هو أيضاً قرن بودلير.لماذا بودلير؟ لأنه إذا كان التدين المسيحي القديم قد مات، فإن الشعر هو وحده القادر على أن يلبي بفعالية الحاجة الملحة التي يشعر بها الناس: ألا وهي المحافظة على عاطفة الإحساس بالتعالي. ثم يردف ايف بونفوا قائلاً: ولم يتوضح لنا جوهر الشعر على حقيقته إلا بعد أن أصبح التدين التقليدي مهتزاً أو على وشك الانهيار.إن عظمة بودلير تكمن هنا بالذات. فقد كان الكاتب الأول الذي اكتشف وظيفة الشعر الجديدة: تدشين تعال جديد يحل محل التعالي الموروث السابق الذي هيمن على البشرية الأوروبية طيلة قرون وقرون. يضاف إلى ذلك أن بودلير مارس الشعر كحفر أركيولوجي في أعماق الليل السيكولوجي للإنسان. لقد راح يدشن الشعر كبحث عن الذات، كحفر في أعماق الذات، كنزول إلى الطبقات السفلية والجحيمية للذات. هنا تكمن عبقرية شارل بودلير. الساعة الحاضرة السعادة لم تبتسم لي يوماً على هذه الأرض. إلى أين سأذهب؟ أبحث في هذه الجبال عن الصمت، وسلام القلب.هذا هو وطني، لن أشرد بعد اليوم بعيداً عنه. القمم في كل مكان تصبح زرقاء مجدداً، هل سأقول لك الوداع الأخير؟ أبداً، لا، لتسقسق المياه أبدياً إذن، ولتخضوضر الأعشاب! إيف بونفوا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©