الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خطوط شيطانية في لوحة الحداثة

خطوط شيطانية في لوحة الحداثة
13 يوليو 2016 22:49
حنا عبود ابتدأت معالم لوحة الحداثة تظهر منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وبعضهم يرى أنها بدأت منذ النهضة واتضحت مساراتها في عصر الأنوار، وتكاثرت المدارس والمذاهب والاتجاهات فيها، لكنها كلها تحافظ على سمة واحدة هي «الواقعية»، أو «المادية»، أو «القيم الأرضية». مهما ابتعدت الحداثة عن الوقائع المادية، ومهما أوغلت في الأدب والفلسفة، فإنها تبقى محافظة على الاتجاه المادي الذي يشكل جوهر الحداثة، ومن هذا الاتجاه تسللت الخطوط الشيطانية، ولننظر في أعلام الحداثة خلال القرن التاسع عشر، إنهم: ماركس، باكونين، شتيرنر، شوبنهور نيتشه، وفرويد... وسواهم من أصحاب الاتجاه المادي. لا نجد ذكراً لفيلسوف عظيم، مثل كانط أو هيغل... ولم تعتبر السريالية حداثة إلا لأنها ظهرت في عصر الحداثة، ولأنها جعلت الواقعة منطلقاً لها، وليست النظرية، فتداعي الأفكار واقعة مادية، ولو لم تتجسد مادياً، وتسجيل هذا التداعي يجعل غير المادي مادياً، وحتى التهويم يتحوّل، عندما يسجَّل، إلى واقعة، وبهذا يخلقون مدخلاً إلى المعنويات والروحانيات من باب الماديات، وخلاصة ما نريد قوله إن الحداثة تقوم على «المادية» الفلسفية، أو النظرة الواقعية. قد نسمع بالبنيوية وما بعد البنيوية، والنسوية وما بعد النسوية، والفوضوية وما بعد الفوضوية... وسوى ذلك من الاتجاهات... لكنها كلها تقوم على التحليل المادي، كلها تنطلق من السعي إلى الإمساك بالحيثيات «المادية» التي تشكل الظاهرة، بغرض إبعاد «الأيديولوجيا» عن العبث وتعكير سياق الترابط والتفاعل في صورهما المادية، وقد تجرأ ألتوسير وأعلن ما بعد الماركسية، للتخلص من الأيديولوجيا. جاءت لوحة الحداثة هذه مناقضة للوحة العصور الوسطى، التي هي لوحة بعيدة عن «الواقعية» و«المادية»، فهي ترسم هذه اللوحة من المفاهيم المجردة، من عالم لا يمكن إثباته، وبالتالي لا يمكن إنكاره، إنها ترسم بريشة الحاضر لوحة الغائب، وقد بسطت القوى الدينية سيطرتها على ضفتي المتوسط، بمفاهيم مجردة، لا علاقة لها بالمعنويات، إنها تعزو للغائب سلطة مطلقة، فهو يحكم الجميع، ولا يحدث شيء إلا بإذنه، ولا يحصل تغيّر أو تطوّر إلا بموافقته، أو رضاه... وبما أنه غائب، فلا بد أن يكون هناك من يمثله في الحضور العيني للبشر، ومرّت العصور الوسطى كلها وهي تحت سيطرة الحاضر الممثل للغائب. وأحكامه نفسها يضعها من يمثله في الحضور البشري، ولو قارنّاها بلوحة الحداثة لكنا أمام لوحتين متناقضتين كل التناقض، ولا مجال للمصالحة بينهما، فإما القبول بسلطة الغائب، كما يمثلها الوكيل البشري، وإما الدخول في الحداثة، أي اعتماد الأسس العينية الواقعية. على أن هذه اللوحة هي الوسطى بين لوحتين: لوحة الوثنية التي قبلها، ولوحة الحداثة التي بعدها، ويمكن القول إن الحداثة ليست أكثر من عودة إلى اللوحة السابقة على اللوحة الوسطى، ونظن أن الرأي القائل إن الحداثة ابتدأت بالنهضة الأوروبية، وهو رأي يؤيده الكثيرون، ليس رأياً بعيداً عن الواقع التاريخي، وما يؤيد هذا الرأي أن النهضة انطلقت من دعوة عامة هي العودة إلى «الإنسانيات»، أي العلوم الإنسانية التي كانت لها المرتبة الأولى عند الإغريق. ولكن ما الإنسانيات؟ إنها دراسة الإنسان كما هو، بواقعه وأحلامه، بنشأته وتطوره، بوعيه وجهالته... أي بكل أحواله، وكل القوى التي تظهر منه، من غير أي لجوء إلا إلى العالم الواقعي في تفسير أي ظاهرة إنسانية، فاللوحة السابقة للعصو رالوسطى هي ما تسميه المسيحية: «الوثنية»، وهي اللوحة التي حاولت النهضة الأوروبية أن تستعيدها بالكامل، حتى إن أحدهم -وهو رابليه- دعا إلى تبني برامج التعليم اليوناني، والمواد التي كان يعلمها ويتعلمها الإغريق، ووضع قائمة بهذه المواد وطريقة تعليمها. بين المسيحية والوثنية سحقت المسيحية الوثنية بسرعة كبيرة، فما إن حلّ القرن الرابع حتى كان البحر المتوسط بحيرة مسيحية، والعالم الذي جاءت به المسيحية، كان عالم عزاء غيبياً، فجعلت له مواد يجب على المرء أن يسير على هديها، وإلا اعتُبر كافراً، تنصب له محرقة في الساحة العامة، ولم يعرف العالم إرهاباً تكفيرياً كما عرفه في العصور الوسطى الأوروبية، وتجلى هذا الإرهاب التكفيري في عدة أمور باتت معروفة، وأهمها صكوك الغفران، ومحاكم التفتيش، وقوائم الحرمان، في هذه الحال، لا بد لأنصار الديانات القديمة من اللجوء إلى العمل السري، أو التحايل بأشياء وأشياء، حتى لا يصعدوا إلى المحارق، وإلى جانب النشاط السري، كانوا ينتمون شكلاً إلى الدين الجديد، ويقومون بطقوسه، سوى أنهم لم يدَعوا طقوسهم القديمة، وأطلقوا على هؤلاء اسم «السحرة». وبما أنهم يعتقدون أن الخطيئة الأصلية جاءت بها حواء، فلا بد أن يكون سحرها أخطر بكثير من سحر الرجل، فهي غاوية مغوية، تستحق بجدارة لقب «ساحرة»، ولذا أبادت محاكم التفتيش من «الساحرات» أضعاف ما أبادت من «السَّحَرة». ما العادات القديمة؟ إنها طقوس دين الماغنا ماتير Magna Mater أي الأم الكبرى، مهما كان اسمها ريا أو أوبس أو سيبيلي، حسب المنطقة، وهو دين يعتقد أن الحفاظ على الأم الكبرى، أي الطبيعة، هو أساس وجود الإنسان، وأن أي إخلال بالطبيعة سيؤدي إلى الإضرار بالإنسان، إلى درجة تهديد وجوده، فكانت معظم طقوسهم في الربيع والخريف، والقليل منها في الصيف والشتاء، فإذا ضبطت امرأة مثلاً تغتسل بماء النعناع، أو تستحم بينبوع منبثق من وسط الجبل، أو تفتح صدرها لضوء القمر، وتريه كيس نقودها، حتى تحل البركة -وهو طقس لا يزال يمارَس في بعض القرى العربية، وكذلك القرع على أواني الطبخ حتى يترك الحوت القمر المبلوع- اعتبرت ساحرة... وكان أي اجتماع لـ«السحرة» يعتبر عبادة للشيطان، ولهذا نجد في أحكام التفتيش من أُعدم بحكم انتمائه إلى كنيسة الشيطان، التي يؤكدون أنها أنشئت لتعليم السحر وتخريج السحرة والساحرات... وبالفعل كان «السحرة» يريدون الخلاص من المسيحية، وكانت المسيحية تريد الخلاص منهم، فشنت الحروب بلا هوادة، ولم يجرِ أي تصالح إلا في بلدان أمريكا اللاتينية، حيث رضيت المسيحية بطقوس الماغنا ماتير الأفريقية، وتقبل الأفارقة، أصحاب ديانة الفودو التي جاؤوا بها من بلادهم، طقوس المسيحية، فالليتورجيا مختلطة هناك، ويمكن للمصلي أن يحول ترنيمة الأم الكبرى إلى مريم العذراء المسيحية، أو مامي واطا أو أي أم كبرى أفريقية... هكذا. إنجيل السحرة وكنيسة الشيطان لم تظهر عبادة الشيطان، في العصور الحديثة، إلا في العقد السادس من القرن العشرين، ظهرت فلسفتها (وهناك ليتورجيا خاصة ظهرت في إيطاليا وتطوّرت في أوروبا وأمريكا) أولاً في الولايات المتحدة، وانتشرت في بريطانيا ثم في دول القارة، وانتقلت بحياء إلى بعض البلاد العربية، المتعاملة مع العالم الغربي. وتقوم نظرية هؤلاء على أن الشيطان فكرة تاريخية، لتنظيم ما أفسدته الديانة المسيحية، وإذا أراد القارئ معرفة هذه الفكرة، فليعكس أفكار الديانة المسيحية، فعالم المسيحية هو العالم الآخر، بينما عالم الشيطان هو هذه الأرض التي تهم الجميع، والعناية بها من أهم واجبات المخلوق، لأنه لن يجد شفاء إلا بالعودة إليها... وبينما تأمر المسيحية بمساعدة الفقراء والمحتاجين... ترى كنيسة الشيطان أن الواجب تنشيطهم في سياق عبادة الطبيعة، بمعنى أن تجعلهم يعملون بما يصون الطبيعة من التآكل والفساد، طبعاً بممارستهم الطقوس التي ينص عليها «إنجيل السحرة» كما أسموه. ونجد أن الثالوث في إنجيل السحرة، ليس الآب والابن والروح القدس، بل ديانا (الملقبة بالطبيبة العشبية) وشقيقها لوسيفر (واسمه يعني المنير بما يمتلك من علم كامل عن الحياة الدنيا) وابنتها أراديا التي ترسلها إلى البشر، لتعليم الناس كيف يعيشون أحراراً، فلا سيد ولا عبد، فالمجد والعظمة هنا للبنت وليس للابن. ولم يكن المنتسبون إلى هذه العبادة، أو الذين يمارسون السحر (وفي عرفهم أنه ليس سحراً بل «طب الطبيعة») من الناس العادين، فمعظمهم من خريجي الجامعات، وأصحاب شهادات عليا في الطب والعلوم والآداب والفلسفة، فأنطون لافي مثلاً (توفي في 1997) وهو الكاهن الأعلى لكنيسة الشيطان، ممثل وموسيقار، وكاتب وصاحب طقوس، كتبها لأتباعه من «الشيطانية اللافية» حتى يمارسوها برغبة ذاتيه، وكان مطلعاً على العلوم المتاحة في زمنه، وكان يعتمدها، ولا يدرس ظاهرة لا يمكن إجراء التجارب عليها، وعندما اخترعت أمريكا الترانستور في خمسينات القرن الماضي، اعتبر «الشيطانيون» ذلك نجاحاً كبيراً لكنيستهم، وعندما اخترعت الدوائر المتكاملة اعتبروا أن «الأكذوبة التاريخية»- المسيحية - سوف تزول. إن الأشكال السلوكية لرجال الدين التي سادت في العصور الوسطى، وهي أطول عصور التاريخ الميلادي، أدت إلى ظهور خطوط شيطانية في لوحة الحداثة، وهي تعود إلى عصر النهضة تقريباً، وكانت ردة فعل على تلك الأشكال، وتزداد الخطوط الشيطانية بمرور الزمن، لاعتقاد بات يترسخ أكثر فأكثر، بأن الدين سموّ روحي لا يجوز استخدامه في الإرهاب التكفيري... فكثير مما كان خيالاً وخرافة بات واقعاً كـ «بساط الريح» و»افتح يا سمسم» عن طريق الجهد العلمي الواقعي، وليس عن طريق المسلك الذي اتبعه كهنة العصور الوسطى. واستخدم الشيطان في الأدب استخدامات مختلفة ومتنوعة، وهناك أدب شيطاني معلن يمكن أن يطّلع القارئ عليه، من أمثال شيطان دستويفسكي في «الإخوة كرامازوف» وشيطان ليونيد أندرييف في «يوميات شيطان» أو مفهوم الشيطان في كتاب «إبليس» لعباس محمود العقاد، وفي كتاب «الشيطان» للويس سبيري شافير، ويمكن اعتبار نظرة ملتون في «الفردوس المفقود» أقرب إلى المفهوم الشائع في الكنائس الشيطانية، باستثناء بعض ما أسند إليه ملتون مما اعتُبر «ملوثات» في سيرة ملك العالم، أما ما جاء في «فاوست» لـ«غوته»، فموقف متردد فيه الكثير من ممالأة المسيحية، ولا يعرف توفيق الحكيم سوى الشيطان الذي كرس له كل حياته: شيطان الفن، كما في حوارية قصيرة في فاتحة كتاب «عهد الشيطان»، العهد الذي يعيد توفيق الحكيم صياغته بين الطرفين المشهورين: فاوست ومفيستوفيلس، لكن جميع أشكال الشياطين في لوحة الحداثة تعارض ولا شك روح العصور الوسطى الدينية. فهل من عجب أن يلصق خصوم الحداثة بها صفة الشيطانية؟ لولا نابليون في محاكم تفتيش إسبانيا وحدها أعدمت على المحرقة أو في ناووس البيلادونا في سنة واحدة أكثر من ثلاثين ألف «ساحرة»، ولا أحد يدري كم كانت هذه المحاكم ستستمر لولا نابليون الذي حرمها وعاقب القائمين عليها، وأي امرأة في العهد الوسيط تذهب إلى الحمام أو المسرح تتهم بممارسة الدعارة، وأي حرمة تتزين تعتبر ساحرة، وأي شكوى من زوج على زوجته يؤخذ بها، لأن المرأة تجسيد للخطيئة، للشيطان، للنجاسة، وأي عادة من عادات الديانات القديمة تعتبر ممارسة للسحر. سحرة وشياطين يعتبر الدكتور داهش في لبنان من جملة كبار السحرة في العالم الحديث، وقد كتب عنه الكثير من الأدباء، كتوفيق الحكيم وطه حسين، وله أتباع من الكتاب والمفكرين والشعراء أمثال حليم دموس وعبدالله العلايلي، وكنيسته منتشرة في الولايات المتحدة ولبنان، وله مراكز نشاط في بعض بلدان العالم. ويؤيد كثير من العلماء والأدباء حلّ القضايا والمشاكل الدنيوية بمعرفة دنيوية عميقة، وتنزيه قدسية الأديان عن الخوض في هذه القضايا والمشاكل، ولكنهم لا يعلنون ذلك، ويظلون تحت مظلة المسيحية، لأنهم حسب زعمهم لا يريدون التلهي بالقيل والقال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©