الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رشة عطر...

رشة عطر...
1 أكتوبر 2009 00:02
حدثتها نفسها ذلك الصباح، بأن تتسلل إليه كقطة شيرازية بيضاء، تنسل بلطف من تحت الفراش، أو كفراشة ناعمة، أرادت أن تحوم حول ضوءه، دون أن تحرق أجنحتها، ولكن ربما لتحرقه!. كانت إحدى صباحات ما بعد إجازة عيد الأضحى المبارك، كان الطقس يتأرجح ما بين الدفء والبرودة بعض الشيء، فكرّت في أن تفاجئه بحضورها دون أن تحضر!، دون أن تبرح كرسيها، أو تذهب إليه، كانت قادرة، بل واثقة من أنه سيأسره حضورها في غيابها، أكثر من حضورها الكليّ أمامه، دونما أن يشعر بها أحد!. هي تعلم كيف تثير اهتمامه، وفضوله، منذ البداية، هي أنثى غير عادية، معجونة بمزيج فريد، بهيبة رقتها، وصدق ووضوح حروفها، تلقائيتها التي يعجز هو عن مجاراتها، أو ذكاءها، الذي لا يعادله سوى دفئها الممزوج بفيض حنانها، وكبريائها وعنادها، صعوبتها، وبساطتها، غموضها، ووضوحها، هي المُهرة الذي استعصى على الكثيرين التقرب منها، إلا هو!. بتلك «التوليفة» تسللت إلى قلبه، وبتلك الأسلحة اقتحمت قلعته، وها هي اليوم عازمة على توثيق أول حضور لها بين يديه، في غيابها!. تُرى أهي الغواية، أو هو الاستدراج اللاإرادي نحو اهتمام أكثر بها، وشدّه لاكتشاف أشيائها الجميلة، التي تحتفظ بها، وتحافظ عليها بعيداًعن عيون الفضوليين؟!. لم تكن لتفكر بكل تلك الأسئلة، أو حتى بجدواها، أو منطقيتها، أو حتى التفكير في البحث عن إجابة لها، ولكن، كان يشغلها أمر واحد فقط، استحوذ على كل الأسئلة الممكنة، وغير الممكنة، هو كيف لها أن تفرّحه اليوم، كما طفل يتيم، لم يعد يفرحه شيء سوى رؤية والديه الغائبين، كما تظن. سألت، كيف يمكن له أن يستشعر وجودها، رغم المسافة التي تفصل بينهما، كيف لها أن تُقدم على خطوة الإغراء بالسعادة دونما أن تجرح، أو تمْس بمبادئها، وطهر أنوثتها، وتحافظ على تلك الصورة التي طالما عُرفت بها، وكرّستها في أخيلة، وعيون الآخرين؟ كيف لها أن تُبعد كل الأفكار الشريرة التي قد تزاحمها، لتنسف مشروع إهداء السعادة في ذلك الصباح، له وحده، وليس لأي أحد سواه؟!. أرادت أن تنأى بنفسها بعيدا عن كل تلك الأسئلة، وانفردت بذاتها، ما بين التفكير في إعفاء نفسها قليلاً من اللوم المؤلم، واستراحة بعيدة عن جلد الذات، قد تدفعها لاشعوريا إلى التراجع الفوري، أو التفكير مليا، وبجدية، وأكثر ابتكارا، وجذبا، وصدقا، أو أكثر غواية، لمفاجأة ذلك اليتيم! ولتجاوز جميع تلك التشظيات الأنثوية، التي ترفعها تارة، وتطرحها أخرى، بين الإقدام، أو التراجع، لتحسم الأمر بطريقة لم تبرح دائرة التحايل، أو العبث الطفولي البريء، قررت أن تستعجل في اختيار هدية العيد، ومهِرِها بلمساتها الأنثوية الأنيقة، الناعمة، التي راهنت عليها كثيرا، مما جعلها تستنبئ ردة فعله حالما يراها، أتُراه سيندهش، كما توقعت، هل ستراوده كل تلك الأحاسيس، حينما يتحسّس ذلك الصندوق الصغير.. كانت تلك أسئلتها في تلك اللحظة؟!. بدأت دقات قلبها في التسارع، مع كل خطوة تسير في اتجاه إنجاز خطة الصباح!، فبمجرد التفكير في أصل الفكرة، يُخيّل إليها، لاإراديا، بأنّ هناك كارثة ما ستقع في أية لحظة، لتدحر هذه الفكرة البائسة، التي تعترض أفراحها المؤجلة، وتطرحها صرعى على الأرض، أو تحت نعلها، لتقول في نفسها: «أغربي عني، ماذا تريدين مني اليوم، عليك اللعنة أيتها الماكرة السوداء»! ربما كان لأجواء العيد مسحته، التي بدت وكأنها تحرر خطواتها شيئا فشيئا دونما حرج، نحو التنفيذ، فتذكرت إهداءه لها، للمجموعة الروائية الكاملة للروائي الشهير ماركيز، كان قد وعدها بها في بداية تعارفهما، قُبيل سفره لزيارة معرض الكتاب في القاهرة، يومها لم تكترث لإبداعات ماركيز، بقدر اهتمامها لتلك الكلمات المنتقاة بعناية، الممهورة بتوقيعه المميز، باللون الأخضر، أسفل صفحة الإهداء، يومها لم تنم، وبقيت تمتع نظرها أياما وأياما، للطريقة الفنية التي تعمْدها في كتابة إهدائه لتلك المجموعة، وكأنها وجدت مبرراً جديداً أكثر إقناعا عن سابقه، لمفاجأته بهداياها المميزة، أو للتقرب منه أكثر. مضت تتقاذفها الأفكار، وكل فكرة تجرّها إلى أخرى، مغرية ً إياّها، بجدواها، وتميزها، إلا ّأن ّإحساس الأنثى الذي دائما ما يقودها لجس نبض، واستشراف إحساس الآخر بها، أنقذها، لتتساءل بصوت مرتفع وكأنها تحدّث نفسها: تُرى ما هو الشيء العادي، الذي ما أن تمنحه اسمك، أو شيئا منك، يصبح شيئا آخر، لا يمت للاعتيادية، أو إلى المألوف، أو إلى الرمزية بشيء؟! في تلك الساعة، وفي لحظة البحث عن التميز، أمام من تُحب، تجد كل الأفكار وكأنها متشابهة، غير مُقنعة، بل كلها بائسة، وسطحية، وغير مبهجة، أو فقيرة ومتواضعة حد الخجل، فكيف يمكنها أن تجعل، أو أن تُحوّل كل الابتكارات، أو الإيحاءات تلك، أو حتى لواحدة منها، كما بدت في نظرها، لتصبح، وبلمسة ذكية منها، أكثرها ثراءً، وغنىًّ، في عينيه، والأقرب إلى قلبه، أو أكثر توافقا مع ذائقته، أفكار تكاد لا تضاهيها أية أفكار أخرى، أكثر إبداعا وثراءً، قد يتبرع بها عباقرة الفن، والهندسة العِظام، لكنها ربما لا تقنعها، ولا تلقى في نفسها أي تقدير، لأنها بلا روح، وبلا رائحة!. كانت تُفكر في لمسة خاصة، أو طريقة تدل عليها، أو تشي بها! تُرى أيّ أنثى هي، التي قطعّت كل أوصال الخوف، والتأتأة، واللألأة، جملة وتفصيلاً، ومضت دون أن تنظر خلفها؟ أي أنثى هي بدت ذلك الصباح، وأيّ ريح تدفعها إليه، حتى تهديه عطرها؟!. كانت الفكرة عادية جدا، صندوق محتواه قطع من الشوكولاته فقط، التي توقعت أن تعجبه، بعد أن استشفت من خلال محادثته يوما، بأنه يعشق الشوكولاته بالحليب، ولا يطيق الشوكولاته السوداء، فكان اختيارها حتى هذه اللحظة موفقا، حتى وصلت إلى مرحلة تغليف الصندوق. استهدت إلى شريط أحمر قديم، كانت أمها تشدّ به ظفائرها السوداء الجميلة، عندما كانت صبية صغيرة، فقامت بغسله وكيّه على الفور، ومن ثم قامت باختيار عطرها المفضل، ونثرت بضع رذاذات منه على الشريط الأحمر، ذلك العطر الذي يميزها، حتى أنّ صويحباتها يعرفنها منه، أينما تكون، وإن كانت مُدبرة، كان عطرا باريسيا باردا، كنسمات ذلك الصباح غير العادي، والذي بدا غير اعتيادي أكثر، مع ذلك الصندوق الصغير، القابع أمامها، الذي ما أن انتهت من توضيبه، كأنه يخزرها بعينيه، دافعاً إياّها لإرساله على الفور!. ساورتها بعض الشكوك، من احتمال عدم استساغته للعطر المنتخب، رغم تأكدها من اختيار قطع الشوكولاته، ولكن سرعان ما تراجعت، وتبددت مخاوفها، من وقوع ذلك الاحتمال في نفسه، لأن العطر كان باردا خفيفا، وملائما لأن يغازل نسمات ذلك الصباح المشمس الرائع! وعلى وجه السرعة، وخوفا من أن تداهمها وساوس أخرى، من جديد، قد تثنيها عن إرسال الصندوق إليه، سارعت في طلب السائق، وأخبرته بضرورة تسليمه للشخص المقصود، كانت المسافة الفاصلة ما بين انطلاق السائق وبلوغه مشارف المكان، كافية لأن تُحييها، وتميتها ألف مرة، وأكثر، ذهابا وإيابا!، كانت على أحرّ من الجمر، لتعرف وقع شريطة الشَعر الممهورة برشة عطرها المُفضل، كانت تريد أن تعرف ردة فعله حالما تقع عيناه على الصندوق، أو أن تقبض عليها، أو تستشعرها من خلال نبرات صوته في الحال، هل ستستفز حاسة الشم عنده، وتحرّك فضوله الرجولي، حينما يستشعر وجودها في الغرفة ذاتها، كما حدّثها حدْسها؟!. جاءها الرد سريعاً فلم يمهلها مزيداً من الانتظار ومن الحيرى، وفريسة لاحتمالاتها المتأرجحة، ما بين المزيد من الثقة في اختياراتها، وما بين برودة الدهشة والخوف من تراجع تأثير ابتكاراتها الناعمة، وانحسار المفاجأة في صدرها!. هاتفها، شاكراً، تعلو نبرة صوته غيمات من الكسل، والمديح المتثاقل، فحاولت أن تبدد إحساسها منوهة بخجل، عن رشة العطر الباريسي البارد الذي توّج الصندوق، لافة انتباهه إليه، ليفاجئها بكلمات لم تكن كغيرها من الكلمات، وكأنه كان واثقاً من خريطة أنفه البيولوجية، فقال لها: «أعرف هذا العطر جيداً عزيزتي، إنه عطر زوجتي المفضل، فكيف لي أن لا أعرفه، أو أن أنساه»؟! Esmeralda 8844@ gmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©