الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأشرار الصغار

الأشرار الصغار
3 يناير 2008 00:40
نظرت أدبيات القرن التاسع عشر إلى الطفل نظرة إعلاء، فعده الرومانسيون كائناً متطوراً، شديد الحساسية، ذا قدرة استثنائية على التخيل، وهو ليس صفحة بيضاء أو مادة خام، وربما كان أكثر حكمة واستبصاراً من الكبير، وكان في تصورهم عنه ردُّ على من عدّه فاقداً للأهلية ومستودعاً للشهوة كأرسطو، أو أنه كان محملاً بإرث الخطيئة الأولى ''قبل التعميد'' مسيحياً، ومسكناً للإثم والخطيئة كما كان يزعم القديس أوغسطين· لكننا لن ننتظر طويلاً، بعد شيوع النظرة الرومانسية، حتى نرى الطفل مجرماً، ومنحرفاً صغيراً، ومتمركزاً حول غريزته لدى فرويد· إن مرحلة الطفولة مهمة جداً في تشكل الفرد الناضج عند معتنقي منهج التحليل النفسي، فمعظم عقد البالغين النفسية تنعقد في الطفولة، والمنحرفون الكبار هم - في الأساس - أطفال مشوهو الشخصية· إنهم موضوع ظلم الأب واستغلاله عبر التاريخ· وعلى الرغم من عجزهم عن إلحاق الهزيمة بالنظام السلطوي الأبوي عندما يكونون في سن باكرة، فإنهم قادرون، لاحقاً، على إلحاق الأذى بأطفالهم، ثأراً مما أصابهم في طفولتهم· وهكذا تنغلق تلك الحلقة المتوحشة، لتنتج لنا أشراراً صغاراً على الدوام· إن كلا التوجهين في النظر إلى الأطفال، استثمر أدبياً، وبدت (موتيفة) ''الطفل الشرير'' لدى بعض كتاب القرن العشرين، انقلابة على خيرية الطفل الرومانسية وما قيل حول ملكاته المبدعة· رعب كافكا يكتب ''فرانز كافكا'' (1883 - 1924) في الحادي عشر من حزيران سنة 1914 قصة يضمنها يومياته تحت عنوان ''إغراء في القرية''، تتحدث بضمير المتكلم عن سارد ''مديني''، لا نعرف اسمه، يصل إلى إحدى القرى التي لم يسبق له زيارتها· وتصف القصة مشاعر سعادته بالطبيعة والحرية، ويمني السارد نفسه بنوم هادئ فيها، غير أنه يجابه بغرابة أطوار من يلتقيهم من سكانها، ويفاجأ بأن النزل الوحيد فيها قذر وغير مأهول، ويتوجب أن يبحث عن مكان آخر صالح للنوم، وعند ذلك يستوقفه شاب من أهل القرية ليدلّه على مزرعة فيها بيت ريفي يمكنه قضاء الليل فيه· وبالفعل، فإنه يقصد ذلك البيت ويطلب من أصحابه غير الودودين الإذن بالمبيت، فينام مع أطفال ثلاثة في غرفة علوية على القش، وبكامل ملابسه· لكن كلباً كثّاً صغيراً أقرب إلى كلاب المدينة ''ربما قاده سوء طالعه، مثله، إلى تلك القرية'' يوقظه، فيقوم ويحاول إبعاده، ويتعثر بأحد الأطفال النائمين، فيستيقظون جميعاً، ويشعر السارد بتهديدهم حين يسألونه عمّا يحمله، ويشرعون بتفتيشه· ونلحظ لدى كافكا عناية هائلة بوصف حالة السارد الداخلية، وفزعه من ردود أفعال الأطفال، وحذره الشديد من تتبعهم لسيره، ورغبته في مغادرة تلك القرية التي ظنها ملجأ فلم تحمل له إلا الإحساس المضاعف بغربته· يوصف السارد في القصة، بالغريب غير مرّة، ويتناقض توقعه الأول لما قد يصادفه فيها من أفق رحب وسكينة بمصير معاكس يبدو فيه أولئك الأطفال الوادعون، للوهلة الأولى، مصدر خطر على شاب راشد يحمل مسدّساً في جيب بنطاله، لكنه لا يبرأ من خوفه· إن السارد ''المديني'' يغدو بدوره كالطفل المُضيَّع في الغابة أكثر من كونه هارباً إليها، وعندما يعثر عليه الآخرون فإنهم لا يحسنون فهم ألمه، ولا يستطيع هو مجابهتهم· ومن الواضح أن كافكا يحمل في قصته أفكاراً معادية للرومانسية، ولاسيما أن ثيمة الهروب من المدينة والالتجاء إلى القرية، حيث الطبيعة تعد أثيرة لدى الرومانسيين عامة· ولا يمكننا إغفال نزعته الوجودية المبكرّة التي ترى الشقاء متأصلاً في الإنسان من حيث هو إنسان· أحقاد الصغار أما ميلان كونديرا الروائي التشيكي، ومواطن كافكا، فإنه يصور في روايته ''كتاب الضحك والنسيان'' (1979)، مصير امرأة تشيكية مهاجرة إلى الغرب بسبب الأوضاع السياسية التي تلت ربيع براغ الشهير، تدعى تامينا، وهي تحاول جاهدة أن تصل حاضرها الكئيب بشظايا الماضي، عبر محاولة يائسة لتذكر الأحداث والتواريخ تارة، ورغبة جامحة في استرجاع دفاتر مذكراتها تارة أخرى، لكنها لا تفلح في الأمرين· وحين يموت زوجها تتفاقم أزمتها، وتصبح عاجزة عن التواصل مع من حولها· ويأتي الحل على يد شاب مدهش يدعى رفائيل، بتطابق مع اسم الملاك الحامي في التوارة غير الرسمية ''الأبوكريفا''، الذي يدعوها إلى نسيان نسيانها أو عدم قدرتها على تذكر تفاصيل حياتها في وطنها الأم، ويمضي بها عبر رحلة أليغورية متخيّلة إلى جزيرة ليس فيها سوى الأطفال· إنها تنزلق، بداية، إلى شاطئ يشبه شاطئاً اعتادت زيارته في الوطن، وتعبر إلى جزيرة لن تشعر فيها بضغوط الحياة أو الندم، وستفقد القدرة على التذكر· ويقودها بعد رفائيل مراهق غريب الأطوار، بواسطة مركب، وعندما تصل إلى الجزيرة تفاجأ بعصابات من الأطفال تتسمى بأسماء حيوانات، ويبدأ خطرهم بالظهور عندما يجتمعون حولها ويعاملونها كموضوع لرغباتهم الجنسية، مستكشفين جسدها كأنها ذبابة دون جناحين، بتعبير كونديرا، أو كساعة دون زجاج· وتأخذ وتيرة انزعاجها بالتصاعد عندما ينقسم الأطفال إلى فريقين: فريق يشعر أنه مقرب منها، وآخر يصد عنها، مما يشعل فتيل الأحقاد· ويندفع أحد الأطفال الكارهين لها فيؤذيها جسديّاً، ويتهمها آخر بأنها خائنة ويدفعها ثالث بوحشية· وتدور رحى معركة بين تامينا وبينهم، فيطاردونها على امتداد الجزيرة، ويرشقونها بقطع الخشب والحجارة· وحين تقرر مغادرة الجزيرة، تبحث دون جدوى عن القارب، ثم ما تلبث أن تلقي بنفسها في الماء، وتمضي سابحة، لكنها تكاد لا تغادر مكانها· وتأخذ في التفكير بالموت، ويلتحق بها خمسة أطفال بقارب، لا لإنقاذها وإنما لمراقبتها وهي تغرق· إن كابوسية تلك الجزيرة ليست، في حقيقة الأمر، سوى تجسيد لإحساس تامينا بالنفي، فما ظنته خلاصاً، وتعزية، ودعودة إلى الماضي الجميل، كان سبيلها نحو مغادرة الحياة· وما جزيرة الأطفال تلك إلا وطنها الأم الذي أخفقت في التواصل مع أفراده· وغدا مصيرها محتّماً حينما جاهرها الأطفال بالعداء وبدأت تفكر في الرحيل· وعندما أقدمت على الهروب من الجزيرة محاولة العودة إلى بلد المنفى تقطعت بها السبل، ولم تصل إلى شاطئ النجاة· الخيانة تصدر هنا عن طفولة غادرة، وغير قابلة للاستعادة، وحين يحاول المرء استعادتها فإنها تكشر عن أكثر جوانبها وحشية وحلكة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©