الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«نُقد»...شهادة للتاريخ

29 مارس 2012
كان موكب تشييع محمد إبراهيم نُقد الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني مصدر حيرة واستغراب لكثير من الدبلوماسيين الأجانب وموظفي منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الطوعية العاملة في السودان. فقد شاهد كل قادة وزعماء المجتمع السياسي وسمعوا وقرأوا ما جاد به الجميع من كلمات وشهادات طيبة في حق الفقيد، ولمسوا مظاهر الحزن والأسى الصادق عليهم.. فقد كانت رئاسة الجمهورية أول من نعى "نُقد" للشعب السوداني في بيان رسمي صدر عنها. وكان رجال السلطة والحزب الحاكم في الصفوف الأولى إلى جانب قادة المعارضة الديمقراطية وزعماء الطرق الصوفية وأعضاء الحزب وأسرة الفقيد والعديد من أصدقائه من كل فئات وطبقات المجتمع السوداني ومن خلفهم هذ الخلق الكثير الذي صعب عدده.. ومصدر حيرة واستغراب "الأجانب" الذين عملوا في مهامهم الرسمية في السنوات الأخيرة في السودان أنهم كانوا يعرفون أن "نُقد" لم يكن زعيماً لحزب جماهيري كبير، ولم يكن شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية أو زعيماً من زعماء القبائل السودانية الكبيرة والعديدة. ولم يكن يوماً حاكماً سابقاً من حكام السودان، بحيث تزول حينئذ حيرتهم واستغرابهم من ضخامة موكب تشييع جثمانه. لكن لمن يعرف حقيقة السودانيين وصفاتهم ومُثلهم الأخلاقية الرفيعة، ولمن يعرف "نُقد" الإنسان والسياسي، ويعرف مكانته في قلوب السودانيين الطيبين بلا سذاجة، والواعين بدون ادعاء، فلا مكان للحيرة والاستغراب. فالصحفيون والكُتاب الذين كتبوا كثيراً قبل وبعد تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير، وأكثرهم كُتاب صحف وصحافة السلطة والمتحدثون في رثائه وفي مقدمتهم خصومه السياسيون قبل أصدقاء حزبه ورفاقه في المعارضة من كل أحزاب وجماعات المعارضة يعرفون أن الفقيد كم كان عزيزاً ومحبوباً عند عامة السودانيين، ولا أعرف من بين زعماء السياسة من حظي بمكانة "نُقد" بحب واحترام وإعجاب عند عامة السودانيين الذين لا تربطهم صلة سياسية بحزبه. حظي "نُقد" بهذه المكانة الفريدة، وذلك الإجماع القومي حوله بجده واجتهاده الصادق وتميزه بأسلوبه الفريد في مخاطبة الجماهير والاتصال والتواصل معهم، وبسلوكه في حياته الذي تميز بالتواضع والمودة والثقة اللامحدودة بالشعب وقدراته واحترامه وتهذبه في التعامل مع خصومه السياسيين والمختلفين معه في الرأي، وكل هذه الصفات يعرفها عنه العامة والخاصة. لقد حمل "نُقد" مسؤولية قيادة الحزب الشيوعي السوداني في مرحلة حرجة وصعبة بعد المذبحة التي قام بها نظام مايو بقيادة النميري، وكان من ضحاياه الأمين العام الأول الأستاذ عبدالخالق محجوب ونائبه الزعيم العمالي الشفيع أحمد الشيخ والقائد "الجنوبي" عضو المكتب السياسي جوزيف قرنق.. حمل نُقد مسؤولية الحزب الذي كان هدفاً للنميري وأركان نظامه (ومن بينهم أعضاء منقسمون على الحزب الشيوعي أن "يصفي" الحزب الشيوعي وأن لن تقوم له قائمة.. حمل "نُقد" المسؤولية ورفيقه الأستاذ "التيجاني الطيب" وقلة من بقية صفوف الحزب، وباشروا العمل بكل مخاطره متجاوزين أحزانهم الشخصية، وانضم الحزب إلى تجمع المعارضة الديمقراطية وللحق والتاريخ فقد كان الشيوعيون، وخاصة النقابيين منهم، أكثر قوى المعارضة نشاطاً وعملاً واستعداداً لمشروع الإضراب العام والعصيان المدني، تلك الفكرة التي طرحها الحزب الشيوعي على شركائه في المعارضة ووافقت عليه كل الأحزاب المعارضة وكانت هي الشرارة التي أشعلت انتفاضة أبريل وسقوط نظام مايو الأحادي المستبد. لم يكن "نُقد"، الشيوعي الماركسي، فقط منظماً وقائداً سياسياً للحزب الشيوعي، فقد كان مفكراً واسع المعرفة والاطلاع، ودارساً ومعلماً للفلسفة، وكان أكثر إسهاماً من بين قلة من المفكرين العرب إثراءً للمكتبة العربية بكتبه ومقالاته الفكرية والفلسفية، ومن بينها كتبه المنشورة وهي: حوار حول النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية... وعلاقات الأرض في السودان... والرق في السودان (وهما من أهم وأعمق ما كتب عن المسألة السودانية، وقد كان من أكثر اهتماماته الفكرية اهتمامه بتحليل كبريات القضايا الاجتماعية السودانية للوصول إلى حلول فكرية - سياسية وبناء موقف ماركسي- سوداني لمشاكل السودان وأزماته المستديمة)، ثم مؤخراً كتابه المهم: "حوار حول الدولة المدنية". ومن مآثره الفكرية التي سيذكرها له التاريخ أنه من أوائل من انتبهوا إلى أزمة الحزب الشيوعي السوفييتي (الحزب الرائد للشيوعية الدولية) وكان من أعلاهم صوتاً في نقد التجربة السوفييتية. هذه المقالة ليست رثاءً لصديق عزيز جمعت بيننا عقود من الصداقة والمودة والاحترام المتبادل رغم اختلاف الرأي بيننا.. لكنها شهادة حق للتاريخ في حق مواطن سوداني وقائد سياسي ومفكر سوداني يستحق أكثر مما حظي به في حياته وعند وفاته من حب واحترام السودانيين. عبدالله عبيد حسن كاتب سوداني مقيم في كندا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©