السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خطاب الارتيابات الأيديولوجية

خطاب الارتيابات الأيديولوجية
9 ابريل 2014 20:53
يطرح كتاب «الرحالة المتأخرون: الاستشراق في عصر التفكك الاستعماري» لعلي بهداد، والصادر عن مشروع كلمة بأبوظبي أكثر من سؤال حول واقع الاستشراق الغربي، وما يمكن أن يكون قد شهده من تحولات في عصر ما يسميه المؤلف بالتفكك الاستعماري، بعد أن كان الاستشراق في مرحلة السيطرة الاستعمارية وما قبلها مسكوناً بجملة من الصور النمطية، التي لا ترى فيه سوى المختلف والبدائي المسكون بالغرابة والأساطير. وعلى الرغم من التحديد الزمني لمجال الدراسة في العنوان الفرعي، فإن الباحث ينطلق في تحليله للخطاب الاستشراقي الغربي منذ القرن التاسع عشر، معتمداً في ذلك على معطيات النقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية، إلى جانب العديد من الأجهزة المفاهيمية والتحليلية التي تتوزع بين النظرية الأدبية والفلسفة والأنثروبولوجيا والتاريخ والتحليل النفسي، ما يدل على الجهد الكبير الذي بذله أستاذ الأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا في هذا المجال. في المنهج يرصد مترجم الكتاب ناصر مصطفى أبو الهيجا في تقديمه للكتاب الفاعلية التأويلية التي تستند إلى خلفية تفكيكية عند الكاتب، لا سيما عند تحليله لموضوع المعرفة والسلطة، نظراً لما بينهما من علاقة داخلية، لكن تلك النظرية لم تظهر كجزء من مصادر الكتاب. ويضيف المترجم أن عناية الدارس بأدواته النقدية، قد غلبت اهتمامه بالموضوع المدروس، كما يظهر فيما أشرنا إليه سابقاً، حول التحديد الزمني للاستشراق في العنوان الفرعي الرئيس المتعلق بالقرن التاسع عشر، إذ إن ذلك يعمل على جر التأريخ الزمني إلى منطق المصطلح النقدي، المتمثل في عصر التفكك الاستعماري. غير أنه يعود لتبرير هذا المسلك من قبل المؤلف انطلاقاً من كونه يقف ضد النزعة التعميمية عند إدوارد سعيد. ومما يأخذه المترجم على هذا البحث أن المؤلف يضمر فيه نزوعاً نحو نوع من النصية عندما يكثر من استخدام مصطلح النص على حساب مصطلح الخطاب، إضافة إلى أن النصوص الأدبية تشكل حقل دراسته الأثير. أما ما يتعلق بالترجمة، فقد كشف المترجم ابتعاده عن شرح المصطلحات الخاصة بالنقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية، نظراً لأنها أصبحت معروفة. كذلك يبيِّن محاولته تجاوز المعنى وحقليه الدلالي والمعرفي إلى تقديم جهد تأويلي، في محاولة للقبض على منطلقات الكاتب ومظانه النقدية، وصولاً إلى تحقيق ترجمة مقبولة، مع الاعتراف ببعض عسر الترجمة الذي يرده إلى عسر النص الأصلي. التمثيل الغربي للشرقيين في بداية حديثه عن الاستشراق، يؤكد بهداد أن هذا الاستشراق بوصفه خطاباً غربياً حول الآخر، ما زال يعمل بقوة يتطلب ممارسات تمثيلية مضادة، كما تتجلى في هذا النوع من الكتاب، من أجل وضع حدّ للمنظومات القهرية والمتسيّدة للمعرفة كما يقول إدوارد سعيد. ويحدد بهداد أهداف بحثه في السعي لتأسيس معرفة تاريخية عن تعقد الاستشراق، وذلك من خلال تعيين هيمنته الثقافية، وشارحة أكبر عدد من التكتيكات الفاعلة لمعارضة هذه السلطة القهرية، مبيناً في الآن ذاته قدرة الاستشراق على أن يبقى قوة إنتاجية في علاقات السلطة الكولونيالية الجديدة، استناداً إلى دمجه لعناصر أيديولوجية متخالفة ومتغايرة، بحيث يقود إلى إنتاج سلسلة كاملة من الممارسات الخطابية المهيمنة في أكثر من حقل معرفي. لهذا يشترط على الخطابات المضادة له، لكي تكون مؤثرة، أن تأخذ شكلاً تكتيكياً ومناقضاً للشمولية ومخالفاً لما هو سائد. ويحدد الكاتب مجال ممارسته النقدية في هذا الكتاب انطلاقاً من وعي لا مركزي، ينتقد ما يسمى بالاتساق الخطابي والمنهجي، الأمر الذي يقوده إلى دراسة نصوص تنتمي إلى غير حقل تمثيلي من الحقول، التي ظهرت في فرنسا وبريطانيا إبان القرن التاسع عشر بهدف إبراز تعقيدات الخطاب الاستشراقي، إلى جانب استعارة نصوص نظرية من حقل غير معرفي كالنظرية الأدبية والأنثروبولوجيا والفلسفة كجزء من متطلبات العمل، التي يتوجب استخدامها عندما تبرز الحاجة إليها، وتكون قادرة على تقديم إضافة إلى منهجه في البحث. في ضوء هذا يعلن الباحث أن كتابه هو خطاب عن الرحلة الغربية وليس رواية عن الرحلة، خطاب يترحل بين مختلف أنماط الترحل في النصوص الأدبية، والحقول النظرية والتصويرات والصور والعلامات والرسائل والآثار، باعتباره ممارسة ما بعد كولونيالية تحاول تشخيص مسار رحلة تتموقع في شبكة معقدة من حالات الشتات والتواريخ المتصارعة، والهويات الهجينة وحالات الاقتلاع، إضافة إلى البحث عن شيء كان يدرك أنه غائب ألا وهو المعارضة والأيديولوجيات المضادة في ثنايا خطاب الرحلة. وعندما يكتشف وجود أشكال منها، فإن هذه المعارضة لا تقع خارج ما هو مسيطر، بل تمثل عنصراً مشكلا يتوسط عملية إنتاج السلطة والمعرفة الاستشراقيين. الانطلاقة النقدية يشير الباحث هنا إلى الدور الذي لعبته كتابات إدوارد سعيد عن الاستشراق باعتبارها نقدا سياسيا للاقتصاد الثقافي الخاص بالإمبريالية الأوربية، على صعيد النقد ما بعد الكولونيالي، إذ عمل نقد سعيد على زج المسألة الكولونيالية في قلب المؤسسة الثقافية، من خلال كشفها عن الركائز الأيديولوجية للتمثيلات العلمية والفنية للآخرية في التاريخ الأوربي الحديث. لقد رأى سعيد أن التمثيلات الاستشراقية ليست مجرد تصويرات طبيعية للشرق، بل هي تؤسس لعلاقة القوة والسيطرة ودرجات متباينة من الهيمنة بين الغرب والشرق. وإذا كانت الثنائيات هي التي تحكم الواقع الإنساني عند سعيد، فإن الهدف الاستراتيجي لهذه التمييزات الجوهرية، تكمن في خلق أنموذج ناجع لتسويغ استعمار الآخر، وتقسيم العالم إلى ثنائيات ضدية، بحيث يتحقق توزيع غير متساو للسلطة بين الغرب والشرق. وفي نقده لخطاب سعيد يرى أنه خطاب سلطة اختزالي خالص، ومنحاز، لا يترك للاختلافات مكاناً ضمن الأشكال المختلفة للتمثيل الاستشراقي ولعلاقات السلطة عنده. لذلك وعلى خلاف أطروحات سعيد يذهب بهداد إلى محاولة الإلمام بالفاعلية الإنتاجية للسلطة والمعرفة الكولونيالية، حيث يجد التغاير الخطابي للاستشراق متمظهراً في كتابات الرحالة المتأخرين في أواسط القرن التاسع عشر ونهايته، إذ كان ارتحال هؤلاء الرحالة إلى الشرق في زمن حولت فيه الكولونيالية الغربية والسياحة الشرق الغرائبي إلى علامة مألوفة تؤشر على الهيمنة الغربية. يتميز خطاب الرحالة المتأخرين بالازدواجية والارتيابات الأيديولوجية، فهناك الرغبة في الشرق باعتبارها نقدا رقيقا للتفوق الغربي، ونمطاً من المشاركة الثقافية التي تعترف بذاتية الآخر، إلى جانب الرغبة في السلطة. لذلك يجد بهداد أن الاستشراق المتأخر عند «نرفال» و«فلوبير» و«لوتي» يتأرجح بين السعي النهم لعيش تجربة مغايرة في الشرق، والاكتشاف البائس لاستحالتها، ما يدل على أنهم رحالة متحولون خطابياً ومنشطرون أيديولوجيا. هنا يسأل: كيف يمكن لنا تحديد الفضاء الوظيفي لهذه القوة المراوغة، وما هي الخصوصية التاريخية والصيغ الخطابية الخاصة بها، ثم كيف يمكن لها أن تقود إلى تغيرات إيجابية في العلاقة بين أوروبا والآخر المختلف عنها؟ وفي الإجابة، يرى أن وظيفة الاستشراق في استراتيجيات الهيمنة الأوربية تعتمد على سلسلة من الانشطارات الخطابية والأيديولوجية، التي تتوسط الآثار الفاعلة للاختلاف والانزياح. في هذا السياق، يرى أن الاستشراق ليس مقسماً بين خطابات هيمنة مقبولة وخطابات معارضة مقصاة؛ لأن خطاب السلطة يؤمن نسقاً دائرياً من التبادل بين استراتيجيات قارّة وعناصر منشقة، بحيث ينتج عنها آثار متعددة، طالما أن علاقات السلطة والمعرفة الاستشراقيين لا تؤسس لبنية سكونية موحدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©