الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يَدُ المِزاج

يَدُ المِزاج
9 ابريل 2014 20:49
الفوضويّ أريد أن أرفع احتجاجاً ما، أن أفتح فمي على اتّساعه لأصرخ. أريد أن أحمل كومةً هائلةً من الشّوك لأنثرها في طريق المارّة. أريد أن أرفع يديّ عالياً عالياً لا لأتضرّع، ولكن لأصفع إليَة السّماء المنتفخة بالنّجوم، وأسبّب الرعب للكائنات. أريد أن أنتزع من بين أضلاعي تلك الإجاصة المعطوبة، لأهرسها تحت قدميّ بلا رأفة!! الحقّ أقول لكم: لقد ضجرت، وإنّ حياتي لم تعد غير كيس هائل محتشد بالهزائم، وها أنا أجرّها ورائي كالجيفة لأرمي بها في جرفٍ أو منحدر. الحق أقول لكم: لقد اتّسخت روحي، وعبّأ الظلام جوفي، ولم يعد يثيرني شيء، لا الشّعر ولا المرأة، ولا الشمس المريضة التي تمرّ كلّ يوم في سماء المدينة كالطاووس الأعرج، وتترك وراءها شريطاً طويلاً من الريش. الحق أقول لكم: لم أعد أؤمن بالفضيلة ولا بالرّذيلة، لا بالحب ولا بالبغض، لا بالرّايات المرفوعة ولا بالرّايات المنكّسة، لا بالقيود ولا بالحريّة، لا بالكلام ولا بالصّمت. في الواقع، لم أعد معجباً بكل هذه الثّنائيّات التي تبعث في نفسي القشعريرة، وتسبّب لي الغثيان، فليست هذه الموازين التي اخترعتموها، غير أباطيل اعتدتم أن تقيسوا بها الأنفاس التي تتلجلج وتُطِلّ برؤوسها مثل ديكةٍ مذعورة، تتلامع في وجوهها السّكاكين. ما الذي أراه أمام ناظريّ في هذا البلقع؟ ثمّة أشجار ناحلة ومجلّلة بالغبار تقف كالمتسوّلات على الأرصفة، بيوت مسمولة العيون تغرق في النّوم فيما هدير أنفاسها المتقطّع يتصاعد في جوف الظلام، ثمّة الصحراء أيضاً هناك تتمطّى بأثدائها العظيمة العاطلة عن العمل، أمّا البحر فقد تخلى عن مهنته القديمة في حمل المراكب، وجلس على الشاطئ مثل شيخ ضرير ينتظر الصّدقة! ندمي عظيم ندمي عالٍ، ويُحلّق في كبد السّماء إنّني أراه، كيف يعلو، ثمّ يهبط، جناحاه مثل سيفين بتّارين يشقّان السّماء، ومنقاره المدبّب الفتّاك في المقدّمة، ثمّ ها إنّني أراه كيف يهوي باتّجاهي بسرعة البرق، ألمح عينيه مثل كرتين من نحاسٍ محمّى، وعمّا هنيهة سيبطش بي! ونااااااءٍ قلبي يطفو كطابةٍ حمقاء فوق مياه العدم. في ساعات الضّجر القسوى أخلع جسدي المكتهل وأخلّفه ورائي كالقميص الممزّق، أمشي بدوني، أتحوّل إلى فكرة مجنونة وأدخل في رأس النّبات والحجر. ها! تحسّون بزلزلة سخيفة ومباغتة تحت أقدامكم! ترون هذه الاختلالات التي تحدث في جسد الطبيعة! الأرض التي ترنّ بالفقد! أنا وراء كلّ ذلك أعزف بيدي المدمّاة المبتورة الأصابع على وتر الحسرة المشدود. لهذا كلّه أريد أن أملأ الكون بالفوضى، فقد حانت ساعة الفتك. أريد أن أرقص، أن أصرخ، أن أهذي وأجنّ، أن أطير وأسبح وأحلّق. في رأسي تعول الريح، في رأسي قبائل عظيمة تدقّ طبولها، متسوّلون وأباطرة يشتبكون على قطعة حلوى مسمومة اسمها الحياة، في رأسي نساء ينُحنَ في شعاب جبل ويجررن وراءهنّ قمراً ذبيحاً، ولهذا ففي ساعات الضّجر القسوى أيضاً ينقذف رأسي مثل زهرة فضّةٍ كبيرة ويرتطم بالسّماء. أريد أن أغيّر الملامح والأسماء، أريد أن أخلط الظّلام مع النّور، أريد أن أزوّج الحقيقة مع الخيال، وأريد درجاً طويلاً، أهبطه كي أصل إلى عتمة روحي، وألقي السّلام على نفسي. رأس الشّاعر (إلى عمر شبانة) في مدخل الصّالة التي يُقام فيها المعرض التّشكيلي والواقعة على البحر، شدّها من أصابعها وأوقفها قبالته، كان يبدو مترنّحاً بفعل جمالها الصّاعق الذي دكّ كيانه، قال لها وهو يُحدّق في عينيها الذّئبيّتين: أرى أنّ حكاية سالومي ويوحنّا المعمدان سوف تتكرّر ثانيةً، ولكن من خلال بطلين آخرين هذه المرّة، الأوّل شاعر هو بالضّرورة أنا، أمّا البطلة فهي امرأة هائجة الجسد، وسبّبت لي لوثة في القلب منذ وصلتُ إلى هذه المدينة، ولا أعرف ما الذي يدور في رأسها بالضبط! سألَتْهُ بدلال: من هي تلك المرأة التي يمكن أن تقوم بدور سالومي يا حبيبي، وترقص حاملةً رأسك أيّها الشّاعر؟ قال لها باقتضاب شديد ودون مواربة: أنتِ! على حافة بحر بعيد تحدث هذه الحكاية، أو على الأصحّ يتمّ استحضار فصولها: قبل غروب الشّمس بقليل، وعلى الشاطئ الواسع الممتدّ تدفّقت الحشود، رجال ونساء جاءوا من كلّ مكان ليشاهدوا ذلك الاحتفال المهيب، وقد حرصوا أن يكونوا بكامل أناقتهم، الرجال ارتدوا بدلات خضراء لهذه المناسبة، فيما النّساء اتّشحن بتلك الفساتين الحمراء الفضفاضة، لقد شكّلوا ما يمكن أن نسمّيه بغابة ورد بشريّة. في ركن قريب وقف رتل عظيم من العازفين الذين اصطفّوا بلباسهم الأسود فبدوا مثل سرب من الغربان العملاقة. على يسار تلك الجموع، وقريباً من حافة الماء ترتفع دكّة خشبيّة بدرجات قليلة. فوق الدّكّة نلمح كرسيّاً باذخاً مطعّماً بالأصداف ومدقوقاً بالذّهب والفضّة. حول الدّكّة تتحلّق مجموعة من النّساء الفراشات (ناحلات ويلبسن لباساً شفّافاً)، ويقفن دون حراك. بخفّة بالغة تتحرّك أيدي العازفين، فنسمع في الأمداء صدى لموسيقى خافتة يتردّد. النّساء الفراشات يبدأن الرّقص. شيئاً فشيئاً، تعلو الموسيقى، وتُصعّد النساء الفراشات الرّقص. هنا تتقدّم من مكان وسط الحشود عربة على هيئة زجاجة عملاقة يجرّها حصانان، ومحاطة بحاشية من الحرس. في العربة يجلس كاهن بشعر أبيض طويل يغطّي كتفيه، ولحية بيضاء ناعمة. تتوقّف العربة بالقرب من الدّكّة، يهبط منها الكاهن الذي كان يلبس ثوباً أزرق طويلاً. يصعد الكاهن الدّرجات القليلة ويجلس على الكرسي، حيث يشتبك لباسه الطويل مع مياه البحر. تتواصل الموسيقى، ثمّ تشفّ فيظهر من نقطة بعيدة على سطح الماء هيئتان لعاشقين يرقصان. يُسمع بوضوح أصوات لتنهّدات عميقة، ثمّ بعض اللعثمات التي تشبه الشّجار. الموسيقى تتلعثم أيضاً. بكاء. الطّبول تنفجر، ثمّ بضربة عظيمة يتوقّف كلّ شيء (تتزامن هذه الضّربة مع اختفاء العاشقين، حيث ينقذفان مثل سيفين في الماء). في المشهد التّالي تتقدّم العاشقة من الكاهن وهي تتخلّع في مشيتها. الفراشات يفسحن لها الطّريق. الموسيقى تموج وتضطرب. ترقص العاشقة كما لو كانت قد تسمّمت بالموسيقى، العاشقة تدور حول الكاهن، تومئ له ببعض الإشارات فيهزّ رأسه ويصيح صيحات هستيريّة كما لو حلّت فيه روح باخوس. في المشهد الأخير، يظهر الشاعر مقيّداً في فضاء ذلك المسرح البحري، كان يسير بصحبة أحد الحرّاس. الحارس والشّاعر كانا يترنّحان على وقع الموسيقى. تظهر العاشقة التي تقترب منهما. العاشقة ترقص. الموسيقى تتصاعد. العاشقة تتلوّى ويرتعش جسدها كما لو شبّت فيه النّار. الكاهن ينهض ويعطي إشارةً ما بيده. العاشقة تبتعد قليلاً، وعلى حين غرّة يبرز الحارس ويلتمع في يده السّيف. موسيقى مجنونة ترتعد. الحارس يهوي بسيفه على عنق الشاعر. تتقدّم العاشقة وترقص حاملةً رأس الشاعر على طبق فضّيّ. الموسيقى تتصاعد. الجموع تهبط وترقص. أصوات رعود تدوّي، ثمّ مطر غزير من شقائق النّعمان يغمر المكان. إلى مدخل الصّالة حيث يُقام المعرض التّشكيلي، التفت الحاضرون وجمد الصّراخ في حناجرهم، حين رأوا هناك امرأة غريبة تحمل على رأسها طبقاً، وعليه ينام ذلك الرأس المقطوع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©