الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ريجيس دوبريه والميديولوجيا

ريجيس دوبريه والميديولوجيا
9 ابريل 2014 20:45
حينما أطلق ريجيس دوبريه Régis Debray لفظ «الميديولوجيا» في كتابه «السلطان الفكري بفرنسا» (Le pouvoir intellectuel en France 1979)، ثمّ أعاد الكرّة في الأسطر الأخيرة من كتابه الشّيّق «الكاتب» (Le scribe, 1980) لم يكن أحد يتوقّع لذلك اللّفظ الرّواج الكبير الّذي بلغ حدّا اقتلع فيه ألقاب نبله من عند دريدا نفسه في آخر لقاء تلفزيّ جمع بين صاحب القراماتولوجيا وصاحب الميديولوجيا. فأن تُؤلّف في تعريف هذا اللّفظ كتب، وينشأ باسمه برنامج بحث، وتظهر مجلاّت متخصّصة كـ «كرّاسات الميديولوجيا» (Cahiers de Médiologie ــ 1996-2002)، و«وسيط، النّقل للتّجديد» (Médium, transmettre pour innover)، تستقطب أكبر الفلاسفة والمتخصّصين في علوم الاتّصال، فتلك هي ابتسامة الحظّ الّتي قلّما تحالف بعض الألفاظ الجديدة في سوق المصطلحات. ولكن قبل كلّ شيء ما الميديولوجيا؟ د. العادل خضر في هذا المصطلح لفظان «الوسيط» و«العلم»، ويمكن ترجمته بــ «علم الوسائط» أو «الوسائطيّة». فالميديولوجيا اختصاص يعتني بدراسة الوسائط الّتي بفضلها تحمل الرّسائل، وتنتقل الأفكار، وتنتشر العقائد، وتبثّ الأحاسيس. فالميديولوجيا لا تعتني بالمضامين المنقولة وإنّما بالمرتكز المادّي الّذي يحمل تلك المضامين وبطرائق نقلها وكيفيات تأثيرها في العقول والنّفوس. فلا وجود لفكر دون وسيط مادّيّ يكون الحامل الّذي يرتكز عليه، والآلة الّتي يجري بها نقله في الزّمان والمكان. فالأفكار والرّسائل تحتاج قبل أن تستقرّ في الرّأس إلى أن تحمل على الظّهر، وهي إن كانت تقطع أميالا وأميالا قبل أن يكون لها أنصار وشيعة وأتباع احتاجت قبل ذلك إلى عُدّة تقنيّة من كتب وكتّاب، ووراقة وورّاقين، وأمكنة للتّدوين والتّوثيق والأرشفة والصّيانة والإيداع والتّخزين، وجماعات بشريّة تتنقّل بها أو تتّبع استراتيجيّات مخصوصة في الدّعاية والتّرويج. فمن السّاذج أن نتصوّر الأفكار تنتقل كالعدوى بين الأفراد، لأنّ من شروط انتقالها من مكان إلى آخر هو أن تسمح الطّريق بحمل تلك الأفكار ونقلها. فكثير من الأشعار قد لفّها النّسيان لأنّها لم تتمكّن من مغادرة مجالها الأوّل، وكثير من العلم ضاع أكثره في الطّريق لأنّه استغرق عقودا طويلة حتّى يقطع بعض الأميال. الحامل والمحمول تبيّن لنا هذه الأمثلة أنّ علاقة الرّسالة المحمولة بالوسيط الحامل ليست بسيطة. يكفي أن نعود إلى تعريفات الوسيط الأولى الّتي سبقت الميديولوجيا حتّى نقف على تعقّد هذه العلاقة. وتذهب عبارة ماك لوان Mc Luhan الشّهيرة «الوسيط هو الرّسالة Le médium est le message» في هذا الاتّجاه. فهي تعني أنّ الرّسالة، بوصفها مضمون البلاغ، ثانويّة، لأنّ الرّسالة الحقيقيّة هي الوسيط ذاته. فالوسائط عند ماك لوان امتداد لحواسّ الإنسان ولجهازه العصبيّ، وهو يعتبر أنّ كلّ تغيير في وسيط من الوسائط، كتغيير الصّوت بالكتابة، يؤثّر بالضّرورة في أشكال التّرابط بين البشر وعلاقة الإنسان بحواسّه. فكلّ التّكنولوجيّات موظّفة لتنمية قوّة الإنسان ومضاعفة سرعته. فإذا ما ضاعفنا في قوّة مجموعة من العناصر كمضاعفة حجم التّنقّلات والرّحلات بسبب تحسّن الطّريق، وتطوير وسائل النّقل بتوفير الورق وصناعة الكتاب.. فإنّ ذلك يفضي إلى تغيير جذريّ في شكل انتظامها (كانتقال أساس ثقافة تقنيّ ينهض على مركزيّة الصّوت إلى أساس تقنيّ آخر ينهض على مركزيّة الكتابة)، وفي أبنية المعرفة، حين يتغيّر سلوك الأفراد العرفانيّ (كالتّعويل على الذّاكرة الطّبيعيّة، أو الكتابيّة، أو الرّقميّة...). ولا فائدة في الإكثار من الأمثلة، فقد ساهمت أفكار ولتر أونج أو ولتر بنيامين أو فيكتور هيجو أو بول فاليري وأطروحات ماك لوان في بناء الحقل الميديولوجي. بيد أنّ إضافة الميديولوجيا الحاسمة تمثّلت في إعادة هيكلة هذا الحقل، فأكسبته انسجاما ومعقوليّة وامتدادا لجهود السّابقين. تجلّى ذلك بصفة خاصّة في أعمال ريجيس دوبريه الخصيبة الّتي أعيد فيها التّعريف بالوسيط على نحو جديد اقترن فيها الوسيط التّقنيّ بالمؤسّسات الّتي تستخدمه وتهيمن عليه. وقد نهض هذا التّعريف على بعض المسلّمات الّتي نصوغها على هذا النّحو: الإنسان هو الكائن الحيّ العاقل الوحيد الأكثر تكيّفا مع جميع الأوساط والبيئات. وهو أيضا كائن ثقافيّ قابل للتّطوّر دون أن يكون تطوّره هذا مبرمجا في جيناته الوراثيّة، ذلك أنّ الميراث الثّقافي البشري يتطوّر بسرعة لا توازي تطوّر الجينوم البشريّ. ولأجل ذلك كان كلّ تغيّر ثقافيّ مكتسب غير قابل للوراثة والنّقل. فالتّطوّر الثّقافيّ أسرع بكثير من التّطوّر البيولوجيّ، ولكنّه أكثر هشاشة لأنّه غير مسجّل في الجينات الوراثيّة للنّوع البشريّ. فهو تطوّر غير فطريّ لا يثبت ولا يتكرّر ما دام يتأثّر بعوامل الوسط البيئيّ والحضاريّ والتّقنيّ... يعزى تطوّر الثّقافات البشريّة وتتاليها واختلافها إلى تغيّر الوسط التّقنيّ. فالإنسان نتاج أدواته. وبقاء ثقافة أو اندثارها إنّما هو رهين التّقنيات التي تمكّن من حفظها وتضمن انتشارها ودوامها. إذا كان التّطابق بين النّظام البيولوجيّ والنّظام الثّقافيّ منعدما فإنّ النّظام التّقنيّ غير متلازم في تطوّره مع النّظام الثّقافيّ. يرتبط تاريخ وسائل نقل الأفكار بتطوّر التّقنية. ويترتّب عن ذلك أنّ مراحل النّموّ الإعلاميّ تمثّل في الوقت ذاته تاريخ وسائط الفكر والاتّصال ونقل الأفكار وتناقلها. لا يوجد تطابق بين مراحل التّطوّر الفكريّ وتطوّر تقنيات الإعلام. وإنّما يوجد تطوّر عكسيّ. فالتّقدّم التّقنيّ المتمثّل في تغيّر أنظمة الإبلاغات ومجال النّقل والانتقال يؤذن بنهاية نظام ثقافيّ برمّته. فما يسمّى بعصور الانحطاط في التّاريخ الثّقافي العربيّ الإسلاميّ هي العصور التي ما فتئت تعوّل على خدمات المخطوط والكتابة والنّسخ اليدويّ، بينما كانت الثّقافة الأوروبيّة في ذلك الوقت تعيش عصر نهضتها الزّاهر بفضل اختراع المطبعة وتطوّر صناعة الورق. فإذا انطلقنا من مثال الكتاب، واعتبرنا أنّ موضوع الدّراسة سواء أكان بالقراءة أم بالحفظ أم بالمذاكرة، هو الكتاب، وأنّ موضع الدّراسة هو المدرسة، صار اقتران الكتاب (بما هو حامل وتقنية) والمدرسة (بما هي مؤسّسة)، هو ما يحدّد جوهر الوسيط ويعرّف به على نحو جامع مانع. فإذا تخلّصنا من فكرة زائفة، ولكنّها شائعة، ترى في الوسائط على اختلاف أنواعها كالهاتف والرّاديو والتّلفاز والكتاب والكتابة والطّريق... مجرّد وسائل نقل تقنيّة، ثمّ نظرنا إليها في اقترانها بالمؤسّسات الّتي تتحكّم بواسطة تلك التّقنيات في طرائق النّقل وإدارته أمسى تصوّر الوسيط من منظور ميديولوجيّ ممكنا. فالكتاب بما هو شيء من الأشياء الثّقافيّة ما إن يقترن بالمدرسة حتّى ينقلب إلى وسيط متهيئ للاضطلاع بوظيفة النّقل. فللوسيط جسمان يمثّلان وجهين متلازمين لمسار النّقل: في الوجه الأوّل يكون الوسيط مجرّد حامل من حوامل ومرتكزات لأشكال من التّعبير كالنّصوص والصّور والأصوات المقطّعة، وهو في الآن نفسه عدّة الدّوران وجهاز لحمل العلامات ونقلها وتنقّلها. أمّا في الوجه الآخر فيخضع الوسيط لضروب من التّنظيم ذات طبيعة مختلفة تتعلّق بالتّنظيم الاجتماعيّ. فلنقل الرّسائل والخطابات عبر الزّمان وحفظها في الذّاكرة ينبغي تحويل الأشياء الثّقافيّة إلى أشياء حيّة ولكنّها غير بيولوجيّة كالمؤسّسات والإدارات والتّنظيمات والأيديولوجيّات. يمكّننا هذا المثال من التّعريف بجانب من البرنامج الوسائطيّ أو الميديولوجيّ، وهو الجانب الّذي يعتني بالنّقل (Transmission) لا بالإبلاغ (Communication). الإيلاغ والنقل ينبغي أن نشير إلى أنّ بين الإبلاغ والنّقل فروقا. فالإبلاغ هو نقل في فضاء محدود بزمان معلوم، بينما النّقل هو إبلاغ عابر للزّمان والمكان يجري بين أجيال وأجيال. ونضيف إلى كلّ المعطيات السّابقة أنّ الوسائط متغيّرة في التّاريخ ممّا يجعل طرائق النّقل متغيّرة بتغيّر وسائطها، نقصد التّقنيات والمؤسّسات. فالقاعدة الّتي تقول إنّ «أيّ تغيّر في نظام الإبلاغات يؤثّر بالضّرورة تأثيرا بالغا في المضامين المنقولة» تلازمها قاعدة أخرى تفيد أنّ «أيّ تغيّر في وسائل النّقل يؤثّر أيّما تأثير في نظام الإبلاغات، وبالتّالي في المضامين المنقولة». فالانتقال من ذاكرة طبيعيّة تعتمد الحفظ إلى ذاكرة صناعيّة تعوّل على وسيط ساخن كالكتابة الألفبائيّة قد كان دوما ملازما لوسيط آخر هو الطّريق. ولكي ينقل الميراث من ذاكرة إلى أخرى يحتاج إلى طريق ييسّر الرّحلات العلميّة. فكلّ شكل من أشكال التّنقّل والانتقال لا يؤثّر فحسب في طرائق نقل (Transport) الأشياء كالسّلع والبضائع وإنّما في طرائق نقل (Transmission) الرّسائل أيضا. إنّ تغيّر وسائل النّقل والانتقال في ثقافة بأكملها يعني عند دوبريه أنّها انتقلت من دائرة وسائطيّة (médiasphère) إلى دائرة أخرى. وليست الدّائرة الوسائطيّة سوى طريقة في إظهار الكيفيّات التي يرتبط بها نظام ثقافيّ مّا بأنظمته الإبلاغيّة ووسائطه التّقنيّة والمؤسّساتيّة الّتي بها ينقل الميراث. فإذا كان تاريخ الأفكار يدرس ظهور الأفكار في حدّ ذاتها ويتتبّع تطوّرها، فإنّ تاريخ الأفكار الّذي تعتني به الميديولوجيا هو تاريخ الوسائل والأدوات التي جعلت تلك الأفكار ممكنة. هذا التّاريخ ما فتئت الميديولوجيا ترصد تحوّلاته على مستوى أبنية الثّقافة التّقنيّة وذلك بتتبّع طرائق الانتقال من دائرة ميديولوجيّة إلى أخرى، فالانتقال من الدّائرة الكلاميّة (Logosphère ــ النّقل الشّفويّ) إلى الدّائرة الخطّيّة (Graphosphère ــ النّظام الطّباعيّ) فـ (الدّائرة المرئية ــ vidéosphère) فـ (الذّاكرة الأنالوجيّة analogiques ) فالدّائرة القصوى (l’hypersphère ــ الشّبكات الرّقميّة) لا يحدث عند دوبريه بالقطيعة، فلا وجود لقطائع بين الدّوائر الوسائطيّة، كما أنّه لا وجود لدائرة مستقلّة عن الدّوائر الوسائطيّة الأخرى، ولا وجود لدائرة خالصة الهويّة، لأنّ كلّ دائرة تحوي الدّائرة الّتي سبقتها وتعضدها وتقوّيها. فالكتابة قد ضاعفت من إمكانات المشافهة، مثلما أنّ المطبعة قد ضاعفت من إمكانات النّسخ الكتابيّ لمّا استعيض عن المنسوخ بالمطبوع. وكذلك ضاعفت التّقنيات الرّقميّة من قدرات المطبوع على الانتشار في جميع أصقاع الأرض على نحو متزامن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©