الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوهام نقديَّة

أوهام نقديَّة
9 ابريل 2014 20:45
د. صالح هويدي تسعى هذه المقالة إلى الوقوف على بعض ما يدور في المشهد الثقافي العربي من حوارات قديمة - جديدة، عن مسائل الفن وعلاقته بالمجتمع، ووظيفته، وما يفرزه من رؤى ومواقف، على الرغم من أن موضوعاً كهذا هو موضوع مطروح منذ أيام الإغريق وفلاسفتهم الذين خاضوا في مناقشته، وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو. نبدأ مقالتنا بالتذكير بالاتجاهات والمدارس الكبرى التي كانت لها رؤية ما، في علاقة الأدب والفن بالمجتمع، كنظرية المحاكاة، ونظرية الانعكاس الواقعية، ونظرية التعبير الرومانتيكية، والنظريات الاستاطيقية الداعية إلى استقلال الأدب عن المجتمع، والدعوة إلى الجمال الحر كما هي عند الفيلسوف كانط، لنقف على الأسئلة التي أثيرت من قبل مرات ومرات: هل الأدب محاكاة للطبيعة؟ هل الأدب انعكاس للواقع الاجتماعي؟ هل الأدب صيغة من صيغ المعرفة بالصور، كما هي الفلسفة التي يرى هيجل أنها معرفة بالتصورات؟ هل الأدب تعبير عن المشاعر الفردية للأديب؟ هل الأدب ضرب من اللعب السامي المكتفي بذاته؟ لننتقل بعد ذلك إلى استنتاج ما يترتب على كل تصور من التصورات النظرية السابقة، من استغناء عن الأدب أو النظر إليه كوثيقة ثانوية ونتاج مباشر. وهي التصورات التي أنتجت دعوات كـ (الالتزام) و(الأدب الهادف) والقيمة النفعية والأخلاقية للأعمال الأدبية، أو دعوات تحجيم هذا الفن وحصره بالعالم الداخلي للفنان، والمبالغة في قطع أوصاله عن بيئته. ولا تغفل المداخلة عن الإشارة إلى وجود طائفتين من أعلام المفكرين وعلماء الاجتماع في موقفهم من الأدب والفن، وعلاقة كل منهما بالمجتمع، ممثلتين بجيل الرواد: أوجست كومت، وسبنسر، ودُركهايم من جهة، وجورج لوكاتش وبريخت وروجيه غارودي وأرنست فيشر وجولدمان الذين تمتعوا بمرونة في تصورهم لطبيعة هذه العلاقة لم يتمتع بها سابقوهم، وأعاد بعضهم الاعتبار لبعض المبدعين التجريديين أو الذين اعتمدوا أساليب فنية غير واقعية، كالفنتازيا والرمزية والتجريد والتكعيبية والتجريبية والسريالية وغيرها. ويهمنا هنا التنويه بضرورة التمييز - ونحن نتحدث عن مواقف الباحثين والنقاد- بين موقفي كل من عالم الاجتماع والناقد من الأعمال الأدبية، من دون أن نغفل عن معالجة موضوع الإلزام في الفن والأدب، وما يترتب عليه من آثار، فضلاً عن تفرقتنا بين الأدب العظيم والأدب الهابط، مركزين على الدلالة النهائية للأدب والفن وأثرهما في الحياة، بوصفهما تجربة حياتية وجمالية تهدف إلى الارتقاء بالحس الإنساني، وتعميق التجربة البشرية وتحرير الإرادة الإنسانية. رؤية تبسيطية كما نعرف، الاتجاهات والنظريات الأيديولوجية التي كانت تؤكد أولوية المجتمع وحتمية حضوره في الفن والأدب، واتخاذه معياراً للحكم على قيمة العمل الإبداعي، انتهت فيما بعد إلى ضروب من العسف والإلزام الذي لم يكن يخلو من رؤية تبسيطية لمعنى الفن والأدب وأهميته. كما هو الحال في نظريات الواقعية والواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية التي نادت بها المنظومة الاشتراكية، ولا سيما في حقب التحجر الفكري الستاليني والجدانوفي. ولعل من السذاجة اليوم أن يصدر بعضنا وهو يناقش قضايا الفن والأدب عن رؤية أخلاقية، تربط الأدب والفن بالمجتمع ربطاً ميكانيكياً وتبسيطياً متخلفاً، لأن ذلك من شأنه أن ينتهي بنا إلى المماثلة والمساواة فيما بينهما، والنظر إلى العمل الإبداعي بوصفه سجلاً ووثيقة ثانوية أو زائدة، في وقت ينبغي فيه أن ننظر إلى الأدب بوصفه خلقاً إبداعياً، وبنية استاطيقية ونموذجاً أصلياً متميزاً عما حوله، يتخذ من التخييل أساساً له، ويعتمد على اللغة المجازية الخاصة وسيلة للتعبير والإيحاء بما يريد توصيله إلى القارئ. وبهذا فإن القصة تحديداً، لا تنقل الواقع الاجتماعي أو الأفكار الفلسفية كما هي في حقيقتها، وإنما تسعى إلى إعادة صياغتها وتأويلها وتحويلها إلى معادل فني أو موضوعي، لتصبح إضافة حقيقية، لا محاكاة أو انعكاساً لما حولها. ولا ريب أن القول بالمطابقة بين الأدب والواقع الاجتماعي يلغي الحاجة إلى الظاهرة الأدبية أو الفنية نفسها، فما حاجتنا إلى النسخة الفوتوغرافية ما دامت النسخة الأصلية بتفاصيلها وحرارتها حاضرة وموجودة في الواقع؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن للفن والإبداع منطقاً مختلفاً عما للواقع من منطق وقوانين، تجعل من الفن والأدب محرضاً تارة وداعياً إلى الخروج عليه، بهدف تغييره أو تعريته أو التشوف إلى واقع آخر بديل. من هنا فإن التجريب هو أساس الفن المبدع ووسيلته نحو التجدد وتجاوز الواقع المتكلس الراكد. كما أن مقياس رقي الأدب وسمو الإبداع الفني عامة، إنما يكمن في مدى مفارقته الواقع، وتحقيق عنصر الإدهاش والغرابة الفنية والطرافة، وليس في التشبّه بهذا الواقع ومحاكاته. على هذا النحو لا يحقّ لنا نقدياً أن نحاكم المبدع وفق قانون العلاقات التي تنتظم الواقع حرفياً. فالأدب كما هو كل إبداع فني تخييلي، يتخذ من اللغة الإشارية وسيلة له في التعبير عن رؤية الأديب. وهو بنية مجازية لا تعبر عن هدفها بطريقة تقريرية مباشرة، بقدر ما تتوسل في تحقيق ذلك، بوسائل الرمز والتلميح والإيماض والإشارة والإيماء. ومع ذلك، فإنه ليس بإمكان الأديب إغفال الواقع، حتى وإن هرب منه. في الوقت نفسه فإنه غير مطلوب من الأديب أو الفنان أن يعبر عن أفكار أو نظريات اجتماعية أو فكرية أو أخلاقية، بقدر ما عليه أن يقدم لنا بناء فنياً متماسكاً، يعبر عن رؤيته الكلية للعالم، بطريقة فنية غير مباشرة، دونما إلزام أو توجيه. وهي وظيفة لا يمكن للبنى والنشاطات الأخرى أن تعوضنا عنها أو تكون بديلاً لها. وبهذا نقدر الأدب ولا نضحي به على مذبح المطالب والأيديولوجيات ونمارس أحكام الإلغاء والتهميش بحق مبدعيه، لاعتبارات خارجية، في مقابل الإعلاء من شأن النماذج والأسماء ذات الرصيد الهابط للاعتبارات ذاتها. وهذا يعني أن علينا ألا نحكم على الإبداع الأدبي أو الفني بمعيار مدى ارتباطه بالواقع أو تعبيره عن تفاصيله وقضاياه، لنقول إن الروائي الفلاني غاب في منجزه السردي واقع العلاقات الاجتماعية، أو قسمات المجتمع، أو هموم أناسه، أو تفاصيله الطبوغرافية الطبيعية أو الاجتماعية أو سواها من المقولات التي ترفعها الصحف والمجلات كلافتات دائمة في مجتمعاتنا وهي تظن أنها تنطلق من رؤية وطنية لإنصاف الأدب أو المجتمع. إن هذا الوعي الساذج بجوهر العمل الإبداعي لدينا هو ما يؤدي إلى الهبوط بقيمة الإبداع، ليجعل الأديب أو الفنان تابعاً للأيديولوجيا وبوقاً للنظريات التي تزري بالقيمة الفنية للأدب، حين تجعله أقرب ما يكون إلى الأدب والفن الدعائي أو التعبوي في أحسن الأحوال. التمييز مطلوب إن الأدب نشاط إبداعي ذو صلة بمجتمعه، بالمعنى الواسع للكلمة، ذلك أن منشئه كائن اجتماعي، يعيش مفردات الواقع ويتلقى ثقافته ورؤيته وخبرته التي تتسلل إلى إبداعه منه. لكن هذا الخطاب الإبداعي حين يشكّل مادته من عناصر المجتمع ومفرداته، لا يخرجها على النحو الذي دخلت فيه، لأنها ستخضع عبر عمليات من التحول والتغير والتسامي إلى مُنتَج مختلف نوعياً، لا يمكن معه البحث عن حالة تطابق أو مماثلة بين المنتج وسياقه المحتوي له. فالعمل الأدبي يشب عن طوقه عادة، وينفك عن إساره، بفعل انكسار الضوء وتحلله إلى ألوان مختلفة، كما في قانون المنشور الضوئي. ومع ذلك، فإن متلقي هذا الخطاب الأدبي والفني، ليس متلقياً واحداً إزاء العمل الإبداعي، فهو محصلة لثقافته وخبرته ومزاجه وتربيته ومعرفته. فثمة متلق يمنح نفسه لجماليات العمل الفني وما يتركه في صفحة روحه من صدى، وما يحدثه في نفسه من آثار وتداعيات، وآخر، يسعى عقب نفاذ سحر الفن فيه إلى إخضاع العمل الفني للتقييم في ضوء معايير خارجية ومطالب حياتية، ذات صلة بالفكر والمنظومات الأيديولوجية، في حين تبقى طائفة من المتلقين مندهشة تعلوها الحيرة والتردد من اتخاذ موقف حاسم إزاء هذه الثنائية الصعبة. ومصدر الصعوبة يكمن في أننا كثيراً ما نجد المطلبين على حال من التباعد، وربما التناقض، حتى ليصعب علينا الوصول إلى اتخاذ قرار ما من دون اللجوء إلى التضحية بأحدهما، الفن أو الفكر. والشواهد التي تجعلنا في مواجهة تلك المتناقضات كثيرة، لا سبيل إلى حصرها أو إحصائها، في الأعمال المسرحية والروائية والشعرية والتشكيلية والنحتية وسواها من الأعمال الإبداعية التي وقف منها النقاد والقراء مواقف متباعدة ومختلفة، تبعاً لمشاربهم. فبينهم من يسأل عن سر تغييب المجتمع، وآخر عن أسباب التنكب عن عكس هموم الناس، وثالث عن عدم تجلي سيمياء المكان والفضاء الفيزيقي، ورابع عن سر تغييب العادات والقيم والتقاليد، وخامس عن عدم وضوح الهوية الوطنية والخصوصية المحلية، وسواها من الأسئلة التي لا علاقة لها بجوهر الفن والأدب لكونها مطالب ذات صلة بالواقع والنسق المحيط بالظاهرة الإبداعية، وإن كانت أسئلة مشروعة الطرح والتأمل، ومفهومة من واقع علاقة الفن والأدب بحاضنته الاجتماعية. نخلص من كل ذلك إلى ضرورة إعادة النظر في مواقفنا ومراجعة رؤانا وأفكارنا النقدية تجاه الأعمال الأدبية، والتمييز فيما بينها وبين المطالب الاجتماعية والفكرية والأخلاقية المتصلة بها، من دون إنكار علاقتها بها. فالتمييز الذي نقصده هنا ليس إنكاراً للعلاقة فيما بينهما أو تجاهلاً لها حتى، بقدر ما هو تمييز بين الجوهر والشكل، المفهوم والتجليات، بغية الوصول إلى جوهر المعنى الحقيقي وقسماته الفارقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©