الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قراءة حرة ولي كبـد

قراءة حرة ولي كبـد
24 يوليو 2008 00:21
قبل أن يعرف الإنسان بدقة علمية وظائف أعضائه في منظومة جسده، اعتاد أن ينسب إلى بعض الجوارح أدوارًا مركزية في حياته العاطفية؛ فما زال القلب عنده مصدر المشاعر التي تتدفق مع الدم، لا ينازعه في ذلك سوى مضغة أخرى تمثّلها باعتبارها صميم كينونته وأغلى بؤرة تنصبّ فيها أوجاعه الوجدانية فتستحيل قروحًا مادية وهي الكبد· وإذا كانوا يقولون لنا اليوم إنها مصنع الدواء في جسد الإنسان فهي أيضًا بيت الداء العتيد كما كان الشعراء يتمثلونها عادة، فهذا مجنون ليلى يقول: ولي كبد مقروحة من يبيعني بها كبدًا ليست بذات قروح أباها علىّ الناس، لايشتروها ومن يشتري ذا عِلّةٍ بصحيح أئنُّ من الشوق الذي في جوانحي أنين غصيص بالشراب جريح وتنطلق لعبة التخييل هنا في تصور ما يشبه المزاد العلني، حيث يتبادل العاشق كبده المقروحة بالحب مع أحد الأصحاء، لكنه لايلبث أن يعترف بإخفاق عملية المبادلة، فلن يقبل أحد أن يبيعه كبدًا صحيحًا مقابل آخر معلول· وقد نسبت هذه الأبيات لشاعر آخر يسمى ''أبو دهبل'' كما نسبت لابن الدمينة والحسين ابن مطر وانتشر أريجها في عدد كبير من دواوين الشعر، فكأن مؤلفها هو هذا العقل الجمعي الشعري للإنسان العربي، أو كأنها تعبّر عن الضمير العام للعشاق في ذلك العصر· ولا زلنا نردد أبياتًا أخرى عن الأكباد المجسدة للحب، وإن كان حب الأبناء في هذه المرة في قول الشاعر: إنما أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبّت الريح على بعضهم لكفّت العين على الغمض وأحيانًا يتصور بعض الشعراء أن هذه القروح العاطفية تجعل لون الكبد أبيض مثلما يقول ابن أبي مُرّة المكيّ: إن وصفوني فناحل جسدي أو فتشوني فأبيض الكبد ضاعف وجدي وزاد في سقمي أن لست أشكو الهوى أحد آه من الحب آه واكبدي إن لم أمت في غدٍ فبعد غدِ جعلت كفيَّ على فؤادي من حرِّ الهوى وانطويت فوق يدي ولا زال ارتباط لوعة العشق بحرقة الكبد يتردد عند الشعراء، مع اختلاف طرائقهم في تصور ذلك، مما أصبح وعيًا قارًّا في الذاكرة الإنسانية، وهذا الشاعر الأمير الذي لم يمتع بالحكم غير ليلة واحدة ابن المعتزّ يقول عن هذه الحالة: كم ليلة فيك لا صباح لها أفنيتها قابضًا على كبدي وأنت خِلْوٌ تنام في دعة شتان بين الرقاد والسُّهدِ كأن قلبي إذا ذكرتكمُ فريسة بين ساعدي أسير وتعمد بعض الكتب إلى مزج هذه المقطوعة بما قبلها لتوافقهما في الإيقاع والرويّ، مما يؤكد انبهام المنظور الشخصي للقائلين، وبروز هذا النموذج العام للعاشق المدله، مع تصوير حركات يديه وسهر لياليه، ودموع مآقيه وانفطار قلبه وتقرح كبده، بما أسس تقاليد الحب ودمغ أحوال العشاق في الثقافة العربية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©