الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل صارت الرواية «موضة» ؟

هل صارت الرواية «موضة» ؟
9 ابريل 2014 20:47
هيمنت الرواية على سوق الكتاب، وتصدرت أعلى الأرقام في مبيعات الكتب المعروضة في معارض الكتاب والمكتبات ودور النشر، وصارت محجة الكتاب وحتى الشعراء للانتشار وجذب أنظار النقاد والناشرين والمخرجين والمنتجين في عالم الدراما والفن وصولاً إلى الجوائز التي صارت تعلن في أنحاء شتى للاحتفاء بالرواية والروائيين، حيث تجري السباقات الحامية نحوها بكل قوة والصراعات من أجلها تضرب في الأعماق بين الكتاب والمؤسسات والصحافة، فهل بهذه الكثرة من الأسماء والإصدارات الروائية التي تملأ رفوف المكتبات كل أسبوع تحولت كتابة الرواية إلى موضة حتى صار الكل يسعى لأن يكون روائياً؟ محمد القذافي مسعود بهذا السؤال واجهنا عدداً من الروائيين والروائيات العرب، فاختلفت مقارباتهم للسؤال، بعضهم ذهب إلى قراءة مدلولاته وحمولاته، وبعضهم الآخر رأى أن لفظة «الموضة» تحمل هنا دلالات مغايرة لمألوف الدلالة التي ترمي إليها في العادة، لكنهم أجمعوا على أن هذا الدفق الروائي «ظاهرة صحية»، وأن الزمن سوف يغربل المكتوب، فالجيد والمتقن سوف يبقى والرديء سوف يكون مصيره «سلة المهملات»... وهنا التفاصيل: بحثاً عن الأضواء يقول صالح خلفاوي «كاتب من العراق»: «جنس الرواية من الأجناس الأدبية الصعبة، لكن لوحظ في الفترة الأخيرة كثرة كتاب الرواية من أدباء وشعراء وغيرهم من الذين أدلوا بدلوهم في هذا الفن الصعب والجميل. وقد يكون من استسهال هذه العملية أن معظم الذين كتبوا كتبوها كسيرة ذاتية لأجل الخوض في هذا الجنس الأدبي لأجل الأضواء أو من باب التغيير في نمطية الأداء حتى أصبح الأمر يشبه التوجه نحو موضة أدبية مربكة لكثرة روادها، وأيضاً الطمع في إحدى الجوائز المخصصة لهذا الجنس الأدبي، فضلاً عن أن أحجم الروايات المكتوبة اختلف عما كان في الرواية الكلاسيكية، إذ يكفي أن يكتب الروائي 100 صفحة أشبه بسرد حكاية حتى يضع على غلافها عنوان: رواية». ويوضح: «ربما متطلبات العصر تفترض هذا الحجم، لكن هذا لا يعفي من تأكيد الخوض في تقنيات الرواية وأفكارها المطروحة. لا يكفي أن يكون الكاتب بطل الرواية وما تعنيه من تداعيات متلاحقة حتى يظن أنه أصبح روائياً. هناك الآن تقنيات جديدة في الكتابة الروائية لم يسعفنا أحد بها بسبب ما وصفناه من استسهال العمل الروائي والنظر إليه باعتباره جزءاً من حكايات ماضوية تتجلى بطولها المفتعل؛ فتأتي الكتابة منسجمة مع انعكاسات داخلية متشظية لدى الكاتب لتعطي شخصنة يراد لها التعميم، وهنا يقع إشكال الموضة التي أريد لها شكلاً روائياً». ويختم قائلاً: «إنه بعد أحادي يراد له التعميم». في المقابل، ترى لينا هويان الحسن «روائية من سوريا» أن «الساحة شاسعة وتتسع للكل، فليجرب كلٌ حظه، خاصة إذا كان الكاتب يملك شبكة علاقات عامة واسعة، لكن ذلك لن ينقذ نصاً رديئاً من سلة المهملات، ولا بد من وجود الرداءة والغباء والقباحة مقابل الأصالة والذكاء والجمال. هكذا هي الحياة، والبقاء للأقوى». وتضيف: «كل أديب معنيّ بأن يكون «عنيداً» في حضوره ومثلما للنباتات المتواضعة عنادها أيضاً للنخيل عناده، والزمن بارع الذكاء سيقرر دون تملق ويحسم الأمر، ويفرز «نخيله الشاهق». وأحيلك إلى سؤال: لماذا محمود درويش - مثلاً - لم يكتب الرواية؟ المسألة متعلقة بمدى ثقة الكاتب بقدراته الإبداعية». عمود المكتبة تضيف سهير المصادفة «روائية من مصر» أشخاصاً آخرين ولجوا إلى حقل الرواية، تقول: «بل أيضاً السياسي ورئيس الجمهورية والملك والصحفي، ولا أستغرب هذا على الإطلاق؛ فالرواية أصبحت كتاب المكتبة وعمودها كما يُطلق عليها في الغرب. وهي تأخذ رويداً رويداً مكانة التاريخ التقليدي المتعارف عليه، فلماذا لا يحاول الجميع المساهمة بشريحة ما في كتابته؟ كما أن البعض يظن أن كتابة الرواية أمر هيّن، بل شديد السهولة، ولكن عند اكتمال العمل ونشره، يجدون أنهم خدعوا فيتوقفون عن الكتابة على الفور بعد أن يجدوا أن عشرات الروايات قد تم نشرها وسرعان ما تم حذفها وكأنها لم تكن، حتى إنه يتعسر على المتابعين تذكر عنوان واحد من عناوينها، ولا يتبقى إلا القليل من العناوين التي تنتمى إلى جنس الرواية». مع ذلك، ترى المصادفة أنها «ظاهرة صحية وصحيحة أن يطمح الجميع لكتابة رواية، طالما أن الزمن سيسمح من غرباله ذي الفتحات الضيقة للغاية بمرور الروايات التي تستحق البقاء، وتستطيع تجاوز حدود الخلود البالغة الصعوبة بعد قرون». وتفضل سليمة نور سلطان «كاتبة وباحثة من العراق» أن تقرأ دلالات السؤال أولاً، تقول: «تحول كتابة الرواية إلى موضة. عليَّ أولاً أن أتبع المنهج الذي تمكن أن يكون سيداً عليّ بحكم ما ضاع من زمني لأصل إليه، فأحلل كل كلمة في السؤال. التحول/ التغيير يعني (من - إلى) أي أن الكاتب العربي أو المشتغل في الإبداع الأدبي والكتابي قد تحول إلى كتابة الرواية إلى الحد الذي عده بعض النقاد والمشتغلين بالأدب موضة أدبية، هذا إذا كنا قد اتفقنا ضمنا مع رولان بارت بغلبة موضة أدبية ما، في عصر ما، على باقي الأجناس الإبداعية كما حصل مع الشعر جنساً إبداعياً له القدح المعلى في المنجز الإبداعي العربي أو غلبة ظاهرة ابداعية على بقية الظواهر، كما حصل مع امرؤ القيس والمتنبي مثلاً أو نزار قباني أو غيرهم، وغلبة الرواية التي أضحت ظاهرة متمكنة في الإبداع العربي حتى عدها بعض النقاد موضة مع بقاء الأجناس الإبداعية الأخرى. ولنعد إلى السؤال الذي يعطي انطباعاً بأن السائل يرى أن هناك كما من الكتابات بصورة جلية تستدعي طرح السؤال، وأن هذا الكم ليس بالمستوى المطلوب ولم يبلغ النضوج الكامل الذي يتوجب أن يبلغه كاتب الروايات المطروحة الآن للتلقي والقراءة. أما إضافة مفردة (موضة) فتعطي معنى الجاهزية للإنتاج والتلقي وأيضاً تعطي معنى التقليد والانسياق خلف الرائج والسائد. وقد يكون محقا إلى حد ما؛ ربما نستشهد بكثرة الشعراء بعد ابتكار شعر التفعيلة الذي ضاعت من بين سطوره التفعيلة وجاءت قصيدة النثر لنجد أن الكل أضحوا شعراء دون أن يعرفوا تقنيات قصيدة النثر ومستوجبات إنتاجها، وربما حصل هذا الأمر مع الأجناس الإبداعية الأخرى القصة والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً وجداً وجدا... وربما حصل مع الخطابة والمقالة حين أضحى العالم الوهمي (النت) يحمل سفاحا بالكتّاب والأدباء والمفكرين وكل ما يخطر على البال أو لا يخطر، ولكل هذا سبب. ونحن بصدد البحث عن الرواية التي لم تلاقِ حظا طيبا مع (النت) فبقت أسيرة دفتي كتاب لأن الذائقة لا تحتمل أن تتابع الرواية إلا فيما ندر على النت، وربما هذا هو سر القوة لا الضعف فنحن ما يزال يبهرنا الكتاب ونؤمن بالتوثيق من خلاله هذا فضلا عن الشهرة التي يمكن أن تحققها الرواية لكاتبها». وتتابع سليمة نور سلطان: «أضف إلى هذا طول الرواية وتعدد أحداثها مما يفسح المجال واسعاً أمام الكاتب للتعبير والخداع أحياناً حين يتمكن من إخفاء ضعف تقنياته في موضع معين يمكن أن يغطي عليه تمكنه في موضع آخر. فطول النص الروائي يفسح مدى أوسع للتعبير والانفعال. وهناك الاحتفاء الإعلامي والنقدي بالرواية وكتابها، وجوائز عالمية مثل نوبل التي للرواية فيها نصيب، والجائزة العالمية الشهيرة والمجزية البوكر وغيرها من الجوائز ذات السمعة العالية والمجزية مادياً، هذا فضلاً عن وجود منافذ ابداعية للرواية (السينما، المسرح، الدراما) مما يفتح أفقاً أوسع للشهرة والكسب المادي والمعرفي أيضاً حين يكون هناك احتكاك وتماس مع المشتغلين بالإبداع السينمائي والدرامي لإعادة تأليف النص من خلال إنتاجه سينمائيا أو دراميا، وقد يلعب التلقي والذائقة الأدبية دوراً وذلك لأن الجمهور المتلقي، وأقصد الجمهور العربي، قد تحول من الأجناس الأدبية الأخرى مثل الشعر والقصة والفنون الكتابية الأخرى إلى الرواية». وتختم: «في النهاية يمكن أن نعدها ظاهرة صحية ستترك لنا إرثاً إبداعياً ضخماً، فيه الغث والثمين، فيه العمل الرصين والهزيل، فيه المميز والرديء، فيه النسج الإبداعي المبهر وفيه الحشو السمج، ولكن قد نحصل على إنتاج مميز ولو بنسبة ضئيلة (يكفي نسبة عشرة بالمئة)، وبهذا يمكن أن تكون لنا مجموعة من الأعمال الإبداعية التي تدخل تاريخ الإبداع العالمي». بُنيات صامتة لا يتخيل عادل ضرغام (باحث وناقد أكاديمي من مصر) «أن تتحول كتابة الرواية إلى موضة»، ويضيف: «وإنما أظن أنها جزء من صراع يحدث كل فترة زمنية، يرتبط بالنماذج الفاعلة في كل مجتمع ومدى تأثيرها في توجيه النظر نحو ذلك الفن أو غيره. ويرتبط أكثر ببنيات اجتماعية صامتة، عاشت صامتة أو أجبرت على أن تكون صامتة، ثم أتاحت لها الوسائل الحديثة أن تكتب وأن تنطق، وأن تجرب، وأن تقدم في ذلك الإطار فنا أو خربشات قد لا تكون مرتبطة بالفن الروائي، أو القصصي في تجليه التقليدي، ومن هنا كان المصطلح الأكثر شيوعاً في ظل سيادة نظريات ما بعد الحداثة هما: (نص)، أو (كتابة) وهما مصطلحان بعيدان كل البعد عن التحديد الأجناسي المعهود». ويتابع: «أما شيوع الرواية بوصفها فناً له سيطرة آنية، من خلال تحول بعض الشعراء المعروفين إلى كتابتها فيمكن تبرير ذلك بطبيعة السائد المركزي لفكرة التسويق، الذي أصبح سائداً إلى حد كبير في عالمنا العربي. ومن جهة أخرى، يمكن تبريره في إطار محاولة بعض المبدعين انطلاقا من أن جذوة الفن واحدة أو عجينة يمكن أن تستخدم أو يمكن تشكيلها في أشكال عديدة يحاولون التعاظم على جزئية الاختصاص بفن واحد، وكأن الشاعر - أو الفنان في التلقي الخاص لديهم- يمكنه أن يكتب في أي فن من الفنون، ومن هنا نرى ذلك السيل الكبير الذي يعود جزء كبير منه إلى حدود هذا التفكير. وأما انتشار الرواية في بعض المجتمعات التي ما تزال من حيث المنجز اقل من المراكز الثقافية المؤسسة؛ فهذا من وجهة نظري يعود إلى خلخلة وإعادة ترتيب لهذه المراكز وفقا للموجود آنيا، ويعود أيضاً إلى شعور الممثلين لهذه المراكز - وهذا شيء مشروع وطبيعي - بإمكانية الاقتراب من الأب، بل وبإمكانية التغلب عليه وتجاوزه». موضة لكن مختلفة وتشير نرمين خنسا (روائية من لبنان) إلى أن «الفن الروائي في عصرنا المشهود، أصبح كما هو معروف، من الفنون الأكثر رواجاً في العالم، وذلك يعود للتطور الذي لحق بآليات البنى الفنية والسردية للكتابة الروائية، وللمنظومات الإنسانية والهواجسية والفكرية التي وظفها الروائيون المعاصرون في الغرب والشرق، بالاستناد إلى مقومات المخزون العلمي - الثقافي - السياسي - الاجتماعي - الاقتصادي - الفني والجمالي في آنٍ معاً. انطلاقاً من هذه القاعدة المترامية الأطراف في التطوير الذي شهدته الرواية المعاصرة، انجذبت الجماهير العريضة إلى العالم الروائي، ووجد فيه السواد الأعظم من الناس، ضالتهم في الاطلاع على خفايا الروي والأحداث والتحولات، من جهة، وفي الاستمتاع بمؤثرات الحب والجمال والغزل والمآسي والجرائم، من جهة ثانية. وذلك وفق الأنواع الروائية المتوافرة في سوق الكتاب. ولأن الرواية في بلادنا العربية تسعى منذ أوائل القرن العشرين الفائت، إلى مكانة وهوية ذات صيغة ودمغة عالمية، فقد شقت هي الأخرى طريقها عبر بعض الأعمال الروائية، التي ازدهرت وتطورت في أواخر القرن العشرين، لتشهد مطلع هذا القرن، انتشاراً واسعا، ونتاجاً في الكمّ كبيراً، سواء في لبنان أم مصر أم سوريا أم ليبيا أم المملكة العربية السعودية، فضلاً عن دول المغرب العربي. وباتت الرواية في أيامنا الراهنة (موضة) عالم النشر والكتابة، ودينامو سوق العرض والطلب». وتعلق على معنى كلمة «الموضة» في هذا المضمار، موضحة أنه «لا يشبه إطلاقاً معناه في عالم الأزياء أو المقتنيات كافة. بل هو يصب في حركة الرواج الكبير للعمل الروائي. إذ باتت الرواية عملاً أدبياً مطلوباً بالدرجة الأولى، من قبل الناشر والقارئ والبائع معاً. وفي هذا الإطار يمكن التحذير من فخ تأثير كلمة الموضة على الناشر والكاتب في آنٍ، بحيث ينبغي عدم التراخي في شروط العمل الروائي القائم بمواصفات فنية وتقنية وجمالية ولغوية عالية. فالمعترك الروائي لا يمكنه أن يستقبل مدعيّ الكتابة الروائية من أجل تلبية سوق الطلب على الروايات. وكذلك لا يمكن للروائي الأصيل، أن يستعجل كتابة عمل جديد له، كي يؤمن المزيد من نسبة حركة النشر والبيع». وتشدّد خنسا على أن «الرواية التي تشهد رواجاً سائداً بقوة في العالم، بعامة، وفي البلاد العربية، بخاصة، مطالبة بالمزيد من التطوير والارتكاز على معايير وظيفية - إن صحت العبارة - تعمل على محاكاة الإنسانية تلك المحاكاة العصرية البناءة الجاذبة النافعة. فالفن الروائي أولاً وأخيراً هو محاكاة الحياة بطرق أدبية وجدانية تصويرية راقية. وهو محاكاة الإنسان بأهداف بنائية تحسّن الذائقة وتكشف المساوئ بضمير. وإلا ما نفع العمل الروائي إن لم يكن يجمع في فصوله كل هذه الغايات؟ إنّ كلمة الموضة في عالم الرواية اليوم، هي كلمة ذات حديّن. خصوصاً أن الرواية باتت تتمتع بسلطة مؤثرة على ذهنية القراء، وعلى نمط الوجدان الاجتماعي في بيئات غنية ومتوسطة. سيّما في بيئات فقيرة تعاني شظف العيش، وتواجه نوعا من شرذمة المبادئ والسلوكيات. لذلك حريّ بالناشرين أن يجاروا موضة الفن الروائي مجاراة ثقافية، لا تجارية بحتة. وهنا يكمن دور النقاد في غربلة أي طفيليات تنمو على حساب الرواج الروائي في دنيا النشر. لا شك في أن القارئ العربي اليوم، بات يجد غايته في الروايات، وبات يبحث في العمل الروائي عن ضالته الحكائية السردية التنويرية. إذ ما جدوى الرواية إن لم تحمل إضاءة فاعلة في عتمة الأحداث والمخاطر التي تحدق ببلادنا من مختلف الجهات؟ وما جدواها إن لم تحمل هوى بيئاتنا، وأثر قضايانا، وصوت همومنا، وألوان رمالنا، ورائحة مبادئنا؟ وبين معنى الموضة، ومعنى واقعها على أرض الرويّ. علينا الإدراك أن الرواية اليوم هي إرث لشعوبنا غداً. وهي مرآة لأيادينا نحن الروائيين. فلننظر إلى عمق ما نكتبه، وإلى صدق ما نقصده، خصوصاً بعدما أضحت الرواية »موضة« العصر. فذلك يضاعف مسؤولياتنا بكتابة الرواية ذات الصوت العالي المملوء بالحقائق، وذات المكانة الأدبية، الأكثر رقيّاً». .. وللنقاد رأي يقول عبدالسلام دخان (أستاذ في الجماليات من المغرب): «الإنسان مولع بالمحكي مند أن برهنت أشكال هذا المحكي عن جاذبية سحر الكلام السردي. أستحضر في هذا السياق مقامات بديع الزمان الهمذاني، وألف ليلة وليلة وغيرها كثير. وظل الشعر القول الأصعب لكثافته، وقوته التصويرية، فضلاً عن طاقته البلاغية والإيقاعية. وتحول جل الشعراء وكتاب القصة القصيرة نحو كعبة الرواية في سباق نحو تشييد سرديات ترتبط بالتحولات الاجتماعية والفكرية. الأمر قد يفهم منه سيراً على نهج الموضة، واستجابة لمتطلبات سوق القراءة ما دامت الرواية - اليوم - هي ديوان العرب، كما يحب البعض تسميتها. وفي اعتقادي، فإن أسباب هذه الهجرة المكثفة نحو الرواية ترتبط بجملة من التحولات التي عرفها مجتمع الفرجة، وميله نحو الأشكال التصويرية بمختلف أنواعها، وابتعاده التدريجي عن أشكال الترميز المكثف». وتعكس مسألة الذهاب والإياب بين الأجناس الأدبية، بحسب دخان، «رغبة المبدع في تجريب أنماط أخرى للقول الإبداعي تكون مخالفة لأفق انتظار القارئ، لأنها تنشد الجديد والجدة، ونشير هنا على سبيل الذكر لا الحصر إلى (Robert Pen Warren - روبرت بن ورن) (1900-1973) الذي يعد من كبار أدباء أميركا البارعين في عدة أجناس أدبية، فهو شاعر، وروائي، وأكاديمي رصين. حاز جائزة بوليتزر في جنس الرواية وحصل على الجائزة نفسها في جنس الشعر مرتين الأولى سنة 1958، والثانية 1979». ويتابع دخان: «العالم يميل نحو مشهدية تشخيصية ترتبط بالمتخيل الإبداعي سواء في الفنون التصويرية مثل الفن الفوتوغرافي، والرسم الإلكتروني، والفن السينمائي، ودرجات التخييل المرتبطة بهذه الفنون التصويرية محدودة بفعل التمثل الأحادي للمعنى الفني، لكن الرواية بطاقتها التعبيرية، وببلاغتها ومشهديتها وقدراتها التخييلية تتيح إمكانية أكبر لخلق عوالم متباينة لم ترسخ بشكل عميق في تربة الإبداع العربي، في ظل محدودية التلقي النقدي للوظائف التصويرية وللإبدال الدلالي لما يمكن وصفه بيقظة إبداعية عربية في مجال السرديات. ومن ثمة فالانفتاح على جنس الرواية هو انتصار لكل الأجناس الأدبية، واستفادة من سياقاتها المخصوصة. فكل الأجناس الأدبية تقدم متعة للقارئ، قد تكون ممزوجة بحرقة الأسئلة كما هو الحال في عدد من الروايات العربية، وقد تكون معبرة عن تحولات سياسية ونفسية. ومن ثمة فكتابة الرواية لدى المبدعين الأصلاء تتجاوز سياق البحث عن الكتابة الموضة، نحو الكتابة الحاملة للكينونة ولأسئلة الهوية. عبر توظيف دقيق للتفاصيل الصغيرة، وللتمثلات المباشرة، ولدرامية الصراع المرير مع اليومي، وتحولات القيم، وأشكال التواصل اليومي، وتوظيف تنوع الخطاب في التعبير عن النزعة السلطوية، وتجليات التشظي لدى إنسان القرن الجديد». ويذهب منصور بوشناف (كاتب وناقد من ليبيا) إلى أن «تداخل فنون النثر وتلاقحها، كان أحد ملامح تطور هذه الفنون؛ فمن الملحمة ولدت المسرحية وفيها الكثير من ملامح الملحمة، وكذلك ولدت الرواية وظل حلم الشعر وحميمته واختزاله للذات والكون حلم كل الفنون. في سبعينيات القرن العشرين هيمن الشعر على المشهد الأدبي، حلم كل الموهوبين بكتابة الشعر ومن الصعب أن تجد كاتباً واحداً لم يحاول كتابة الشعر، ثم ظهرت أشكال نثرية تحاول التقرب من الشعر وتختبئ تحت عباءته، ولعل أبرز تلك التجارب في ليبيا (تجربة القصة - القصيدة) التي حاول كتابتها عمر الككلي وجمعة بوكليب وهي قصة قصيرة تقترب في مناخاتها وإيقاعاتها من الشعر كثيراً، وكذلك كانت تجربة المسرحية الشعرية وهي عودة لأشكال المسرحية الأولى وكتبها في ليبيا عبدالعظيم شلوف وعبدالحميد بطاو وغيرهم، بل إن المناخات الشعرية واللغة الغنائية اجتاحت الرواية وتبدو روايات احمد إبراهيم الفقيه النموذج الأمثل لذلك في ليبيا.. كذلك تلاقح المسرح والرواية فخرجت «المس - رواية» (مصطلح منحوت من المسرحية الروائية) وهو شكل فني كتبه برنارد شو في: «العودة إلى ميتوشالح» وأحاول الآن كتابته في مسرحيتي الجديدة «الطريق إلى عدن». ويكمل: «في السنوات الأخيرة، هيمنت الرواية على المشهد وأخذت جل اهتمام النقاد والناشرين والقراء وبدت للجميع الأكثر قدرة على تقديم رؤى الكاتب للكون والحياة والفن، إلى جانب شكلها الأكثر شعبية وسهولة. لذا نجد الجميع يحاول كتابة الرواية، الشعراء وكتاب المقالة والنقاد والسياسيون كل ذلك بعد ما سماه البعض بتراجع الشعر والقصة القصيرة». ويعتقد بوشناف أن الرواية «فن السرد» الأهم الآن يهيمن على المشهد ويحاول الجميع عبره كتابة عصرهم، وتساهم الجوائز الدولية الأدبية في ترسيخ ذلك فغالبية الجوائز الأدبية تذهب للرواية، كذلك الترجمة حيث تسهل ترجمة الرواية مقارنة بالشعر والقصة القصيرة المكثفة. بالطبع لا يعني كل ذلك أن سيادة الرواية ستستمر بل إن التفاعل والتلاقح بين الأشكال الفنية لن يتوقف عن الجريان وتقديم أشكال أخرى».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©