الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النشر العربي في قلب العالم

النشر العربي في قلب العالم
9 ابريل 2014 20:43
كاظم جهاد بعدما فازت مجموعة «سندباد» الفرنسيّة، المخصّصة للثقافة العربيّة التي يديرها المؤرّخ والناشر السوريّ المقيم في فرنسا منذ أربعين عاماً ونيّف فاروق مردم بك، بجائزة محمود درويش في عام 2013، هوَذا مردم بك يفوز بجائزة الشارقة - «اليونسكو» لهذا العام تقديراً لنشاطه على رأس المجموعة المذكورة ولدوره في زجّ الكتاب العربيّ في صميم الحياة الثقافيّة الفرنسيّة، ومن ورائها في قلب سوق الكتاب الدوليّة. وكانت الجائزة في فرعها الخاصّ بالمؤسّسات الثقافية هذا العام من نصيب المؤسّسة العربية للصورة «لبنان». وستُسلَّم الجائزة للفائزين في حفل تقيمه الهيئة الراعية للجائزة في مقرّ منظّمة «اليونسكو» العالميّة بباريس في الثاني من شهر مايو المقبل. مثقّف موسوعيّ فاروق مردم بك من أشهر المثقفّين الموسوعيّين العرب في فرنسا، ومن أكثرهم حضوراً على الصعيدين العربيّ والدوليّ، له كلمته المسموعة ورأيه السّديد كلّما دار النقاش حول حاضر الثقافة العربيّة وحضورها في العالَم. وإلى نشاطه النشريّ وعمله كخبير ثقافيّ، الذي مارسه في مؤسّسات ثقافيّة عديدة، منها «معهد العالم العربيّ» بباريس، عُرف فاروق مردم بك بكتاباته في التاريخ العربيّ، الحديث خاصّة، منها كتاب «أن تكون عربيّاً»، وهو سلسلة حوارات معمّقة أجراها معه ومع المفكّر الفلسطينيّ الياس صنبر الصحفيّ الفرنسيّ كريستوف كانتشيف، وكذلك بعدد من المؤلّفات الجماعيّة البالغة الأهميّة صدرت تحت إشرافه وبإدارته، منها «القدس - المقدّسات والسياسة»، و«ساركوزي في الشرق الأوسط». كما لا ننسى مؤلّفاته في الطبخ على الطريقة العربية التي وضعها هاوياً وذوّاقة فحقّقت انتشاراً واسعاً وصارت تشغل مكانة معتبرة في المكتبة العالمية المعنيّة بهذا الفنّ، من أشهرها مؤلَّفاه: «كتاب الحمّص» و«مطبخ زرياب». عندما قامت منشورات (آكْت سود - Actes Sud) الشهيرة في عام 1996 باشتراء منشورات «سندباد» على أثر رحيل مؤسّسها بيار برنار في 1992، وشرعت بإعادة طبع مخزونها من الكتب وقرّرت مواصلة الاشتغال على الثقافة العربيّة في الاتّجاه ذاته، جعلت من «سندباد» واحدة من مجموعاتها أو سلاسلها الأساسيّة إلى جانب ما تترجمه عن الثقافات الألمانية والروسية والإيطالية والإنجلو - أميركية وسواها، وكلّفت فاروق مردم بك بالإشراف على المجموعة وإظهارها بحلّة جديدة وإغنائها وتعميقها. فحافظ على خيارات بيار برنار عندما كانت تبدو له سليمة وأسبغ على مجموع المنشورات العربية لـ (آكت سود) أسلوباً نشريّاً جديداً صار يُشار إليه اليوم بالبنان في العالَم كلّه، مثلما أصبح فاروق مردم بك مرجعاً عالميّاً لفنون النشر، لا سيّما نشر الثقافة العربية، يستشيره الجميع ويتسابقون لمعرفة رأيه في هذا المضمار، مثلما يتسابقون لمعرفة تحليلاته النافذة لتاريخ العرب وللسياسة العربيّة وللسياسات الدولية إزاء العالم العربيّ. وهو يقدّم ملاحظاته وتشخيصاته وتوجيهاته بسخاء منقطع النظير للأفراد مثلما للمؤسّسات، للباحثين والناشرين مثلما للكتّاب، فهو بلا مبالغة نوع من دليلٍ للحائرين ومن المشجِّع والراعي للمبدعين والطامحين. يقدّم مردم بك في معظم حواراته تحيّة ثناء للفرنسيّ بيار برنار الذي أسّس منشورات «سندباد» بباريس. ففي غضون عشرين عاماً، من 1972 حتّى تأريخ وفاته في 1992، نشر برنار مائة وستيّن كتاباً تتعلّق جميعها بالعالم العربيّ وبالإسلام. بهذه المنشورات، من كتابات أدبية ونقديّة وتاريخيّة وترجمات لنصوص عربية قديمة وحديثة، قام بيار برنار، على ما يرى فاروق مردم بك، بإخراج العالم العربيّ - الإسلاميّ من إسار الاستشراق الجامعيّ. ولمنشورات «سندباد» هذه في عهد برنار يدين القرّاء بالبدء بترجمة أعمال نجيب محفوظ والطّيب صالح وبعض أعمدة التراث العربيّ كالجاحظ وابن حزم. إلى هذا، واكب برنار، كما يرى مردم بك، تطوّر الدراسات العربية في فرنسا، فكان اثنان من أكثر المستعربين نشاطاً و ألمعيّة، جاك بيرك وأندريه ميكيل، من «عرّابّي» منشوراته. ولطالما أكّد مردم بك على أنّه، طيلة العشرين سنة الأخيرة، حصلت انقلابات في المقاربة السياسية والعلمية والأدبية للعالم العربيّ، ولم يبقَ مجال النشر منيعاً أمام هذه الانقلابات بل استجاب إليها بحميّة بالغة وعنفوان مشهود، وتقف سلسلة «سندباد» في عهدَيها القديم والجديد وراء هذا العنفوان وهذه الحميّة. فتوّة الرواية العربيّة في عديد حواراته ومقالاته ومداخلاته عن حركة الكتاب العربيّ في سوق الكتاب الفرنسيّة، أكّد فاروق مردم بك على كون الكتاب العربيّ لم يبدأ حضوره الحقيقيّ في ساحة النشر الفرنسيّة إلاّ في سبعينيّات القرن العشرين. فحّتى 1968 لم يكن في فرنسا سوى ترجمة لكتاب «الأيّام» لطه حسين ولـ «يوميّات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم ولرواية «أنا أحيا» لليلى بعلبكي، وأنطولوجيا للأدب العربيّ صدرت في منشورات (لو سوْي) بباريس في ثلاثة أجزاء بين 1964 و1967. كما يؤكّد مردم بك على الأثر الكبير لفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب في 1989 على حركة ترجمة الكتاب العربيّ إلى الفرنسيّة. يُضاف إلى هذا ولادة جيل أو جيلين من المستعربين الجدد ممّن يحذقون الترجمة من العربية بفضل إعدادهم اللغويّ المتين وإقامة أغلبهم في البلدان العربيّة طيلة سنوات. وأمام التهمة أو الفكرة الجاهزة التي تتردّد في بعض أوساط النشر والصحافة الفرنسيّين في كون أغلب الأدب العربيّ المعاصر يخضع لمعايير الالتزام وبالتالي للتعبير النضاليّ المباشر، طالما ذكّر مردم بك بأنّ الأدب العربيّ الحديث ليس محكوماً بالالتزام، فلدى شعراء كالسيّاب أو محمود درويش تلقى حضوراً لشتّى المعالجات الشعريّة، أمّا الإبداع العربيّ في مجال الرواية فيتسّم بفتوّته أو حداثة عهده قبل أيّ شيء آخر. فعلى مدى خمسين سنة لا أكثر، اخترقت الرواية العربية تاريخ الرواية العالمية كلّه، وقام كاتب مثل نجيب محفوظ بتجريب عدّة أشكال سرديّة الواحد تلو الآخر وتقبّل بطيبة خاطر بعض «دروس» تلامذته أو من جاؤوا بعده. كانت منشورات «سندباد» تقوم خصوصاً على سلسلة «المكتبة العربيّة» التي حرص بيار برنار على أن يجمع فيها قديم الأدب العربيّ وجديده، وعلى أن ينشر إلى جانب النصوص العربية المترجمة والدراسات الموضوعة بالفرنسية أو المترجمة إليها من لغات أخرى حول الثقافة العربية، نصوصاً كتبها بالفرنسيّة مبدعون عرب. واليوم تتشعّب مجموعة «سندباد» إلى سلاسل عديدة تغطّي عناوينها وحدها كتاباً كاملاً. لقد اغتنت سلسلة «المكتبة العربية» بعشرات العناوين السرديّة والفكريّة من أحدثها صدوراً ترجمات لـ «رسالة التوابع والزوابع» لابن شُهيد الأندلسيّ وللجزء الأوّل من رواية «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف ولــ «مرايا فرانكشتاين» لعبّاس بيضون، وكتاب «أتكلّم جميع اللّغات لكنْ بالعربيّة» لعبد الفتّاح كيليطو. واتسّعت سلسلة «مكتبة الإسلام» لتشمل ترجمات للموروث الصوفيّ ودراسات فيه، وترجمات لمؤلّفات ابن رشد والغزالي وجابر بن حيّان والبيروني والتوحيدي وللباكستانيّ محمّد إقبال وسواهم. وضمّت سلسلة «مكتبة سندباد الصغيرة» ترجمات لمنتخبات عديدة من الشعر العربيّ القديم ولبعض شعراء الحداثة العربيّة. ومن استحداثات مردم بك اللافتة سلسلة «الرّاهن»، تتابع أحدث القضايا والأحداث العربيّة وتشكّل نوعاً من تاريخٍ للحاضر أو ذاكرة له، وسلسلة «الشرق الذوّاقة»، تصدر فيها أجمل الكتب وأرهفها عن فنّ الطبخ في مختلف البلدان العربيّة. ينبغي أخيراً التنويه بكون فاعليّة النشر لا تنحصر في عُرف مردم بك باختيار الكتب الناجحة ودفعها إلى الترجمة ثمّ إلى الطبع. بل هو يمارسها كناشر بالمعنى الشامل للكلمة، أي بما هو علاّمة وأديب ومؤرّخ مكتمل التكوين، يخترق التراث العربيّ والحداثة العربية بنظرة فاحصة وينتقي منهما أجود النصوص وأكثرها ديمومة، ويعرف قدرات مترجميه فيكلّف كلّ مترجم بما هو قادر عليه ومتمكّن من الإبداع الترجميّ فيه، يواكب هو عمله وينعشه بالنصيحة ثمّ بالنقد، مشاركاً على هذه الشاكلة في صنع المترجمين وإعداد أجيال منهم. وعندما تكتمل سيرورة الكتاب يرافق رحلته إلى عالم النقد والصحافة في فرنسا وأبعد منها، ويساهم بصورة فعّالة في بلورة ما يثيره هذا الكتاب العربيّ المترجَم أو ذاك من نقاش وما يحقّقه من أصداء في أوساط النقّاد وعبر وسائل الإعلام الجماهيريّ، مهيّئاً ذائقة قرّاء الفرنسيّة لاستقبال الكتب العربية القديمة والحديثة، مساهماً بالتالي في صنع قرّائها وفي صوغ ذائقتهم، وفي التمهيد لتلقّي الإبداع والفكر العربيّين بلا محاباة ولا إغواء مجّانيّ أو ضجيج إعلاميّ مفتعل كما تعمد إليه الكثير من دور النشر الفرنسية وغير الفرنسية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©