الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«أبوظبي للكتاب».. «رواق الأُمَم».. الإماراتي

«أبوظبي للكتاب».. «رواق الأُمَم».. الإماراتي
24 ابريل 2018 19:28
«إن الثروة الحقيقية هي العمل الجاد المخلص الذي يفيد الإنسان ومجتمعه، وأن العمل هو الأساس في القيمة». بهذه الكلمات التي توازي وربما تفوق وزنها ذهباً أرسى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، رؤية ومنهجاً للإمارات الموحدة، رؤية عمادها التفكير بعزم والعمل بحزم، ولهذا يبقى الركب الإماراتي في الحال والاستقبال منطلقاً من قيمة العمل مهما تعددت أنواعه وأشكاله اقتصادياً، عسكرياً، فكرياً أو ثقافياً، ومن هنا يفهم المرء سر نجاح السبيكة الاجتماعية الإماراتية، وقد باتت الثقافة هناك حجر زاوية أصيلاً في البناء الإنساني المستدام، ولا نغالي إن قلنا، إن دور الثقافة في الإمارات أضحى أحد أهم أوراق القوة الناعمة للدولة سواء الصعيد الإقليمي، أو الصعيد الدولي، ومن هنا أيضاً يتبين لنا أهمية معرض كتاب أبوظبي 2018، عطفاً على دلالات وتبعات كون المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه الشخصية المحورية في أعمال المعرض. قبل الخوض في الرؤى التنويرية التي يحملها معرض أبوظبي للكتاب هذا العام، ربما يثور السؤال: «وما فائدة وقيمة مثل تلك المعارض، معارض الكتب بوجه خاص، في عالم لم يعد يقيم وزناً – كما يرى البعض – إلا لأسواق الأسهم والسندات، عالم البورصات، وكل ما يمكن ترجمته إلى بنكنوت؟ وقد يكون المتسائل واقعاً تحت حالة من الضغوطات غير الاعتيادية للنظرة المادية التي باتت تهيمن على كافة مناحي الحياة المعاصرة، غير أن هذا لا ينفي، بأي حال من الأحوال، أن معارض الكتب وما تشهده من أنشطة وفعاليات ثقافية تبقى بمثابة منارات روحية تستنشق من خلالها الأرواح نسيم المفكرين والمبدعين عبر الأجيال سواء من المعاصرين أو الراحلين. والشاهد أن أهم فعل تقدمي وتحرري تقوم عليه معارض الكتب هو تشجيع وتفعيل دور القراءة من جديد خاصة في ضوء سببين رئيسيين: الأول؛ هو المناخات المضطربة التي مر بها العالم العربي في السنوات الأخيرة، وهذه - بلا شك - تركت أثراً سلبياً كبيراً على مستوى الثقافة والقراءة وعلى التعاطي مع الكتاب المطبوع، والمجلة الورقية، والصحيفة التقليدية، التي درج الجميع على التعاطي معها. والثاني؛ تراجع الكتاب المقروء سليل أوراق البردي وحفيد الألواح الجلدية ثم المعدنية، والذي حفظ لنا عصارة الفكر ونتاج العلم وخلاصة التجارب وعطية القرائح وثمرة العبقريات لآلاف السنين، لصالح ألواح إلكترونية صماء معرضة للضياع حال انقطعت عنها مصادر الطاقة - على سبيل المثال - لتضحى نكبة بشرية غير مسبوقة. والمؤكد أن الوحدة المركزية لتلك المعارض هي «الكتاب» صاحب الأهمية التاريخية في إغناء الفكر الإنساني، وخلق جو من التفاعل الفكري بين رواد المعرض والناشرين والكتاب، على اعتبار أن الكتاب وما يحتويه يبقى المادة الغنية والثرية للتظاهرات الثقافية المصاحبة طوال أيام المعرض، عبر الندوات والمحاضرات، النقاشات وتوقيع الكتب الجديدة وغير ذلك. وربما تمثل معارض الكتاب متنفساً إنسانياً لتبادل المعرفة الإنسانية ما بين الشرق والغرب، ولجميع أبناء الحضارات البشرية، أي الدفع في طريق الالتقاء الإنساني والوجداني، في معين خلاق لخير العالم ومن فيه، عوضاً عن السعي عبر دروب الصدام والتناحر التي نظر لها بعض من الذين لا يقيمون وزناً إلا للربح المادي، ويتناسون عامدين أن الربح الثقافي هو أحد أهم مكاسب التنوير والقوة الناعمة للدولة، والإمارات في مقدمتها. معرض أبوظبي للكتاب يعد معرض أبوظبي بشكل عام شهادة حق، دون تهوين أو تهويل، على حالة الصحوة الثقافية والنمو الفكري المضطرد لدولة الإمارات العربية المتحدة في محيطها الإقليمي الخليجي، وفي نطاقها الجغرافي الشرق - أوسطي، ومعروف أن أبوظبي باتت تمثل محرك التنمية الأول في العالم العربي في مجال صناعة ونشر الكتب، وتبذل في هذا الإطار تضحيات عريضة جلها يتصل بالعمل على الارتقاء بالإنسان العربي وتنميته، ودون أدنى حسابات براجماتية للربح أو الخسارة. وعندما تتولى دائرة السياحة والثقافة - أبوظبي مسؤولية هذا العمل الفكري الكبير، فإنها تحافظ على تراث يبتغي الترويج لمقومات التلاقح الإنساني، ليغدو عالم الفكر، هو الثقافة المستدامة والمتميزة التي تثري حياة المجتمع والزوار دفعة واحدة. ويبقى معرض أبوظبي للكتاب أداة من أدوات الفكر والابتكار بما يحمله على كاهليه من تواصل بين صناع الكتاب وصناع الفكر، وبين المستخدمين والمستهلكين، ما يعزز مسيرة التنمية الإماراتية، تلك التي تتجاوز حدود الفكر الاقتصادي الكلاسيكي الضيق، والمرتبط بالريع النفطي وحسب. مؤشرات لافتة ما الذي يميز معرض أبوظبي الدولي للكتاب هذا العام؟ ثمة مؤشرات لافتة كثيرة ومعطيات عديدة منها؛ الاقتراب بجرأة وعقلانية من مناطق الجدل الثقافي الأكثر اشتداداً في حاضرات أيامنا، كما في موضوع الترجمة التي تعد احتياجاً ضرورياً لمواكبة التقدم الحضاري، عبر الانفتاح الخلاق على أفكار وتجارب العالم الآخر. وقضية الترجمة ما تزال تثير خلافات في المشهد الثقافي العربي الراهن، فالبعض يرى أن الترجمة عين على مصائر الآخرين ومذاهبهم في الحياة وأنماط معيشة البشر المغايرين لنا، فيما يذهب نفر آخر إلى القول بأنها أداة من ضمن أدوات الاختراق الثقافي الناعم، تستخدمه قوى بعينها في أزمنة العولمة، حيث «الغزو الفكري» هو الوسيلة البديلة للغزو العسكري. ومنها أن معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2018 يشهد ظاهرة وتظاهرة أوسع من التعاطي المجرد مع الكتب، إذ يستضيف نخبة من الفنانين من أصحاب الموهبة والتجارب المتنوعة من أنحاء العالم في مجال الفنون التوضيحية للكتب المصورة، والذين يعملون على رفع وعي زوار المعرض على اختلاف ثقافاتهم وأعمارهم في تذوق الصور المصاحبة للنصوص المكتوبة وفهمها، ويفتحون أمامهم الفرصة لمشاركتهم التجربة في تنفيذ أنواع مختلفة من الرسوم التعبيرية والتوضيحية للكتب المصورة ضمن باقة من النشاطات الكفيلة بتحفيز الخيال والمساعدة على إطلاقه. رمزيّة الضيف البولندي تخرج رؤى الإمارات، التي تكسبها قوتها الناعمة، إلى الآفاق العريضة حول العالم لتتلاقى وتتشابك فكرياً مع دول العالم القريب منها والبعيد، ولعل اختيار «بولندا» بوجه خاص لتكون ضيف العام الحالي أمر لا يخلو من ذكاءات اجتماعية وحضارية متنوعة. بداية نشير إلى أن بولندا - وإن كانت واحدة من الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي سابقاً - إلا أنها دولة كاثوليكية بامتياز، والمؤسسة الكاثوليكية المعاصرة بقيادة البابا فرنسيس، انفتحت بأريحية كبرى على العالمين العربي والإسلامي في الأعوام الأخيرة، وبذلك يمكن القول إن اختيار بولندا (البلد الذي صدر للعالم البابا العملاق الراحل يوحنا بولس الثاني - 1978 - 2005) يعني أن هناك قناعات إماراتية بالانفتاح الخلاق - المرتكن إلى أصول التعددية الإسلامية القرآنية - على العالم. الأمر الآخر يتصل بالحضور الإسلامي في بولندا وما تشهده من تطورات سياسية إثر التقلبات التي تحتوي أوروبا بأكملها في العامين الأخيرين. وحسب المسجل تاريخياً بدأ ظهور المسلمين في بولندا بشكل واضح في القرن الرابع عشر الميلادي، وما زال عددهم قليلاً في الوقت الحاضر، وتشير بعض التقارير الإعلامية إلى أنهم لا يتجاوزون الثلاثين ألفاً، رغم أنهم كانوا قد تجاوزوا الـ 150 ألفاً زمن الحرب العالمية الأولى. ولعل إشكالية بولندا اليوم هي التيارات القومية العنصرية الشوفينية الأوروبية، تلك التي ترى في الإسلام والمسلمين العدو الأول الذي يهيمن على أو يسعى للهيمنة على أوروبا، القارة ذات الثقافة المسيحية القديمة، ويرفع هذا الفريق شعار «المسلمون يريدون أسلمة أوروبا». هنا نتساءل: أي مردود إيجابي خلاق ينعكس على الحضور الإماراتي في وسط أوروبا؛ أي من خلال بولندا بمفكريها وأدبائها ومثقفيها، الذين سيشاركون في فعاليات المعرض؟ لا ريب في أن استضافة بولندا تمثل فرصة للاقتراب من الثقافة البولندية، ومسرباً للبولنديين أيضاً لتقديم آدابهم وعلومهم وثقافاتهم التاريخية. والمعروف أن حركة الأدب والفكر والثقافة في أي دولة في العالم تقص على الجميع التاريخ الحي المعاش لديموغرافية بشرية بعينها، عطفاً على استعراض أحدث الاتجاهات في الأدب البولندي الذي يمتلك قاعدة كبيرة من القراء في الداخل والخارج. يلقي التعاون مع بولندا هذا العام ضوءاً على الحضور الإسلامي التاريخي في بولندا، وقد أسهم المسلمون بشكل وافر في تراث بولندا الأدبي، وفاز أحد أدباء بولندا من ذوي الأصول الإسلامية بجائزة نوبل في الآداب، ماذا يعني ذلك؟ باختصار، يعني أننا أمام حالة لرفع الغبار ومسحه عن أزمنةِ تداخلٍ إنسانيّ، فكثير من العرب والمسلمين لا يعلمون شيئاً أو يعلمون القليل جداً عن الثقافة البولندية وأثر الحضارة والشخوص الإسلامية فيها، وبالمقابل فإن المعرض باستضافته بولندا يمضي في طريق توضيح الصورة المغلوطة عن العالم الإسلامي في أوروبا اليوم، حيث «رهاب الإسلام» الإسلاموفوبيا هي النغمة السائدة، وفي كل الأحوال فإن المعرض يلقي إضاءات إيجابية على جوانب مختلفة من ثقافة عالمية حقق منها أربعة أدباء جائزة نوبل في الآداب. ومع وجود ضيوف آخرين، روائيين بارزين، شعراء، كتاب، رواة اجتماعيين، من أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا وأميركا الشمالية، إلى فعاليات المعرض فإن ذلك يعطينا رؤية عن قوة الإمارات الناعمة التي تشبه اليوم «رواق الأمم»، الذي عرفته الامبراطورية الرومانية قبل ألفي عام، وكان فرصة طيبة لأن تلتقي فيه شعوب وأجناس العالم من الشرق والغرب للتفكر والتدبر والنقاش في شؤون الإنسانية الحائرة وفي مصائر البشرية الباحثة عن الحقيقة. تسامح زايد هل المعرض عنوان لـ «قوة الإمارات الناعمة» فعلاً وقولاً؟ قبل الجواب ربما يتوجب علينا التوقف مع الشخصية المحورية للمعرض، العملاق الذي أرسى قواعد ومرتكزات «قوة الإمارات الناعمة» قبل بضعة عقود وها هم من خلفه أبناء يمضون في طريق التنوير عينه. فما الذي يعنيه أن يكون الشيخ زايد، رحمه الله، شخصية العام لمعرض أبوظبي 2018؟ الجواب المباشر والسديد، هو الاحتفال بفكر ونهج الأب المؤسس والعملاق الذي وضع لبنات الانطلاقة الإماراتية في الآفاق، فضلاً عن كونه مهندس الأساسات الصلبة غير المتزعزعة للمنظومة الإماراتية الحالية. يمكن القطع بأن الرؤى التسامحية والتصالحية، إضافة إلى التوجهات التي تجمع ولا تفرق، تشرح ولا تجرح، كانت هي العون والسند لإكساب الإمارات ثوبها الناعم الذي أضحى مثار اهتمام العالم، بفضل أقواله وأفعاله وبصيرته. استطاع زايد أن يبلور رؤية عصرانية للقائد الملهم بمعين من الحكمة ونفاذ البصيرة، ولذلك لقب بـ «حكيم العرب»، سيما وأنه الرجل الذي خرج من ضيق المقدرات المالية إلى رحابة الغنى الإنساني، إذ لم يتصور رسم مستقبل أفضل لشعبه فحسب، بل امتلك الحكمة والعزم ليترجم ذلك الطموح إلى واقع ملموس. كان نهج زايد الاحترام للغادي والرائع، بغض النظر عن الجنسية أو الجنس، العرق أو اللون، الدين أو المذهب، كان زايد داعياً مبكراً لحوار الحضارات وتعايش الأمم والثقافات. تستدعي «قوة الإمارات الناعمة» اليوم، وكما يذهب القائمون على معرض أبوظبي للكتاب 2018، إعادة الشحن الأدبي والمعنوي للإماراتيين وللعالم أجمع عبر سيرة ومسيرة زايد، وفي ذلك الشيء الوفير المحبب من قيم الوفاء والإخلاص، تلك التي تليق برجل الصحراء وشهامة البدوي، وكرم العربي، لعلَّ الأجيال الجديدة تغترف من النبع الأصلي قيماً مضافة في عالم معاصر تلعب فيه الرأسمالية دوراً متوحشاً، وتبتعد ملامح الأنسنة عن واقعه المعاصر. حين يشارك الضيوف من المشرق والمغرب، من أوروبا وأميركا وآسيا في حزمة الندوات التي تهتم بفكر الأب المؤسس، سيما تلك التي تسلط الضوء على ثلاثة موضوعات: ركائز التنمية والنهضة الحديثة في فكر زايد، زايد وتمكين المرأة، الكتاب رمزاً للحضارة في فكر زايد، فإن قيمة إضافية تولد في عقولهم عن حاضر ومستقبل الإمارات، وعن القوة والمنعة التي تحيط بأجيالها القادمة، في ظل تسلسل للعطاء الحضاري المتوارث من الأب المؤسس إلى الأبناء البررة. إحدى أهم الجلسات التي تضيء على «القوة الناعمة الإماراتية» تلك المعنونة بـ «التنمية الثقافية والتسامح... إرث من الإلهام». والحق أنه لا تنمية اقتصادية أو سياسية، ولا صعود نحو دول العالم المتقدم إلا عبر منظومة زايد الأب المتسامح والمتصالح، والذي أدرك باكراً جداً، وقبل أن تطفو على السطح دراسات وعلوم التنمية البشرية، أن الإنسان هو القضية والإنسان هو الحل، وآمن بأن الاستثمار في ضمان رفاه الشعوب وتعزيز معارفها ومداركها وقدراتها، وفي المقدمة منها شعبه الإماراتي، سيعود بأكبر المنافع على الفرد والأسرة والمجتمع، بل وعلى الجنس البشري، الأمر الذي تمثل في سخائه وكرمه وجوده غير المسبوقين لا جهة شعبه فحسب، بل امتدت مظلة «زايد الخير» لعدد كبير ومتنوع من شعوب العالم، فلم يتوان عن إغاثة الملهوف، أو إنقاذ المحتاجين وشد أزر الضعفاء ومساعدتهم على سد احتياجاتهم. في مفهوم القوة الناعمة لم تعد مهمة بناء الدول والمؤسسات الدولية منوطة بالجيوش والحروب ومصانع الأسلحة، أو بقدر ما تمتلك من الطائرات والبوارج أو حاملات الطائرات، فقد ظهر على السطح معطىً جديد أطلق عليه «القوة الناعمة»، وهو في الأصل نتاج لطفرات اقتصادية ومالية ناجحة وناجعة، خلفت من وراءها ثروات، استخدم فائضها في الإنتاج الذي يسمح بتحقيق الرفاه الداخلي، ويمتد أثره على الخارج، عبر الإشعاع الثقافي الرمزي الذي يحمل الإعجاب والانبهار بنموذج وطني مجتمعي متميز. تاريخياً؛ قدم اثنان من كبار المنظرين السياسيين والاستراتيجيين الأميركيين لمفهوم القوى الناعمة، كان أولهم جورج كينان الذي اعتبر أن العالم واقع في أسر الشيوعية لأنها تقدم نموذجاً إنسانياً يسعى للعدالة المطلقة التي تتطلع لإشباع الجائعين وتأمين الخائفين. فيما الثاني البروفيسور جوزيف ناي الذي يشرح للعالم ثلاثة مصادر رئيسية للقوة الناعمة: ثقافة قادرة على اجتذاب الآخرين، وقيم سياسية تتمسك بأهدافها في الداخل والخارج، بالإضافة إلى سياسات خارجية مشروعة وذات سلطة معنوية. باتت الثقافة، إذن، جزءاً لا يتجزأ من منظور العلاقات الدولية، وعليه عندما ترتقي الطروحات الثقافية في بلد بعينه، فإن قيمته في ميزان القوة المعنوية، ترتفع حول العالم، ومن هنا ولد مصطلح «الدبلوماسية الثقافية» كمورد للقوة الناعمة، الأمر الذي حلله وفككه العالم الأميركي المتخصص في الأنثروبولوجيا كليفورد غيرتز بالقول: «إن الثقافة نظام للمعنى يشترك فيه أعضاء جماعة ما ويحدد لهم مجموعة من الرموز التي يتفاهمون من خلالها على الطريقة التي يديرون بها تفاعلاتهم وقواعد اللعبة الاجتماعية التي ينخرط فيها اللاعبون». وهنا يبرز السؤال الحيوي الذي يتقاطع ومعرض أبوظبي للكتاب، وهل يقع ضمن أدوات القوة الناعمة للإمارات العربية المتحدة في عالمنا المعاصر؟ قصة قوة الإمارات الناعمة إحدى أفضل العبارات المنسوبة إلى البروفيسور جوزيف ناي تلك التي يقول فيها: «تعتمد القوة على الجيش المنتصر، لكنها تعتمد أيضاً، على الرواية الفائزة، الراوي القوي هو مصدر القوة». في هذا السياق يفهم المرء إطلاق الإمارات لاستراتيجية القوة الناعمة في أواخر سبتمبر أيلول من العام الماضي، تلك الاستراتيجية التي تشكل منظومة عمل وطنية شاملة تسعى إلى تعزيز سمعة دولة الإمارات، إقليمياً ودولياً، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، استراتيجية يلعب فيها المكون الثقافي والإنساني والحضاري دوراً رائداً في ترسيخ محبة الإمارات وسط جميع شعوب العالم، وإبراز صورتها كدولة منفتحة على الثقافات وكذا الحضارات كافة. ولعل الناظر إلى تقدير الإمارات وشعبها في عيون العالم يدرك صدقية ما قاله ذات مرة سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير شؤون الرئاسة من أن «الإمارات تتمتع بمكانة مرموقة عربياً ودولياً، وإننا نريد أن نعزز هذه المكانة أكثر، وأن نستثمر دبلوماسيتنا الثقافية والإنسانية والاقتصادية لما فيه خير شعبنا وشعوب العالم». ما الذي يجعل قوة الإمارات الناعمة حقيقة مؤكدة؟ بالقطع الإنسانية والعطاء والانفتاح هما مصدر القوة، والثقافة كجسر بين الأمم والشعوب، تلك اللغة التي تجيدها الإمارات، ويحسنها الإماراتيون جعلت قصة هذا البلد تنتقل إلى العالم، والتعبير هنا لشبكة الأخبار الأميركية الشهيرة CNN، والتي نشرتها تحت عنوان «الإمارات تؤسس القوة الناعمة لنقل قصتها إلى العالم»... ماذا بعد عن جسور الإمارات الناعمة ثقافياً وفكرياً مع العالم؟ الحضور الثقافي لم يكن الحديث عن حضور الإمارات الثقافي في المنتديات العالمية مجرد حديثًا أو إطاراً نظرياً، لكنه في واقع الحال بات مشاركة فاعلة على الأرض، وهناك ما تذهب إليه الإمارات حول العالم، وهناك ما تفتح له سماواتها ليأتي العالم بأكمله إلى الإمارات وفي هذا الإبداع وليس الاتباع. في سبتمبر من العام المنصرم كان العالم يمضي على جسر الثقافة الذي يلتئم من حوله البشر عامة في الطريق إلى أبوظبي، حيث كان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، يفتتح متحف اللوفر «ليؤكد للإقليم وللعالم الدور الخلاق والحضور الإيجابي للإمارات ثقافياً على مستوى العالم»، وليكون اللوفر أبوظبي جسر معرفة وتسامح مع كافة شعوب العالم، وثمرة شراكة للعلاقات الاستراتيجية المتطورة مع فرنسا، قبلة التنوير وحاضنة والنهضة الأوروبية، ضمن وعاء الثقافة الإنسانية التي تجمع العالم برمته. وتذهب «الدبلوماسية الثقافية الإماراتية» لتشارك الآخرين في حواضنهم الثقافية والفكرية، كما حدث في شهر يوليو الماضي عندما شاركت الإمارات في ملتقى «ابن بطوطة الثقافي» الذي أقيم في مدينة باليرمو بجريرة صقلية تحت رعاية وزارة التراث الثقافي والفعاليات السياسية الإيطالية، وكان العرض المسرحي الاستعراضي المبهر «رحلة ابن بطوطة» الهادف إلى نشر رسالة الحرية والسلام والمحبة بين شعوب العالم، وهي أهداف تنسجم واستراتيجية الإمارات للقوة الناعمة دولياً. وغني عن القول إن الحضور الثقافي لدولة الإمارات في ذلك الملتقى، قد أكسب الدبلوماسية الإماراتية المزيد من السمعة الممتازة، وعزز من الثقل الحضاري المؤثر والفاعل الذي تحظى به الإمارات على المستوى العالمي. أخيراً،،، يمكن القول أن معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2018 «لبنة» جديدة في بناء الإمارات القوي داخلياً، والمضيء خارجياً، ويعكس للعالم مدى جدية الإمارات في نظرتها لدور الفنون والثقافات الرائد في رقي الإنسان، وفي بلورة طروحات جديدة ومبتكرة على صعيد محاربة الإرهاب والتطرف، فالنفس الممتلئة بحب الثقافة والفنون لايمكن إلا أن تكون جسراً على المستوى الدولي، جسراً يتشارك من خلاله الجميع تراثهم الذي صبّوا فيه ما فاض عن حاجتهم الحضارية الإبداعية وقت الحصاد، وأخذ منه الجميع ساعة العوز. قيمة الإمارات اليوم وقدرتها الخشنة باتت معروفة بعد مشاركاتها في المنطقة لدرء المخاطر القادمة، لكن تبقى قوتها الناعمة، الدرع الواقي لها من أية ارتدادات أو انعكاسات من قبل دعاة الظلامية وأعداء التنوير إقليمياً ودولياً، بعد أن أضحت الإمارات قبلة للمثقفين وجسراً للثقافات العالمية، ومداراً لتجليات القوة الناعمة. ميراث الحكيم يمكن القطع بأن الرؤى التسامحية والتصالحية، إضافة إلى التوجهات التي تجمع ولا تفرق، تشرح ولا تجرح، كانت هي العون والسند لإكساب الإمارات ثوبها الناعم الذي أضحى مثار اهتمام العالم، بفضل أقواله وأفعاله وبصيرته. استطاع زايد أن يبلور رؤية عصرانية للقائد الملهم بمعين من الحكمة ونفاذ البصيرة، ولذلك لقب بـ «حكيم العرب»، سيما وأنه الرجل الذي خرج من ضيق المقدرات المالية إلى رحابة الغنى الإنساني، إذ لم يتصور رسم مستقبل أفضل لشعبه فحسب، بل امتلك الحكمة والعزم ليترجم ذلك الطموح إلى واقع ملموس. كان نهج زايد الاحترام للغادي والرائع، بغض النظر عن الجنسية أو الجنس، العرق أو اللون، الدين أو المذهب، كان زايد داعياً مبكراً لحوار الحضارات وتعايش الأمم والثقافات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©