الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مرحلة الستينات.. ابنة الثورة و«وئيدتها»

مرحلة الستينات.. ابنة الثورة و«وئيدتها»
24 سبتمبر 2009 02:14
رحل الزعيم جمال عبد الناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر لعام 1970، وتمر هذه الأيام الذكرى التاسعة والثلاثين على غيابه. لكن مما لا شك فيه أن للزعيم الراحل مكانة مميزة في التاريخ ولدى الجماهير والساسة، ومما لا شك فيه أيضا أن له مكانة خاصة في أوساط المثقفين العرب ورجال الفكر والفنانين والمبدعين بوجه عام ولا سيما من أبناء جيل ثورة يوليو 52، التي أحدثت الكثير من المتغيرات في عالم الإبداع والكلمة.. محمود إسماعيل بدر دور عبد الناصر النهضوي، في السياسة وقضيتي التحرر والتحرير، معروف لدى الجميع.. وهناك آراء كثيرة في هذا الدور، بين من يعتبره مرجعية في الماضي والحاضر والمستقبل، وبين من ينسب إليه كل الإخفاقات التي أصابت الأمة، منذ العام 1967 وحتى اليوم.. لكن مثل هذا الاختلاف يقف عند حدود التأثير الذي أحدثته ثورة يوليو وقائدها في مجالات الابداع والثقافة. وقد يكون هناك من يستلّ من تلك الثورة ومرحلتها، علامات سلبية طالت الثقافة والمثقفين، إلا أن لا أحد ينكر التحولات الهائلة التي انعكست إيجابيا على الحركة الثقافية والابداعية العربية، خلال حقبة الستينات، التي تسمى بالعهد الذهبي للإبداع في العالم العربي، والتي تسمى الجيل الذي نشأ تحت ظلالها باسمها. وأيا ما يكن الأمر من تلك المرحلة وثقافتها، فإنها أنتجت الكثير من الأسئلة التي ما زالت مفتوحة حتى اليوم، والتي تحرض على التعمّق أكثر في مساءلة الثورة، ومساءلة مفاعيلها الثقافية على وجه الخصوص. فهل من الضروري أن ترتبط الثورة، ثورة التحرر الوطني تحديدا، بمعيار فكري، وأن تصبح بالتالي مرجعية للثقافة والمثقفين؟ وهل تمكنت ثورة يوليو من أن تفعل ذلك على نحو صحيح؟ وهل السلبيات التي شابت مسار الثورة، خصوصا في الشأن الديمقراطي تجد غفرانها في انفتاحها الثقافي على العصر وتيارات الحداثة؟ وهل يصنع القادة المفردون، ونموذجهم البارز هنا، جمال عبدالناصر، ثقافة تنسب إليهم أو تنتسب إلى مرجعياتها عبرهم؟ الثورة والثقافة تجيب تجربة ثورة يوليو، أنها نهضت بمشروعها الثقافي اعتمادا على محددات كثيرة، كان من ضمنها شخصية قائدها، على الأقل لناحية إشاعة مناخ يلتقي مع المزاج العام، ويتفاعل معه، لإطلاق حركة إبداع مشهودة، وترسيخ ثقافة جماهيرية تجاوزت مصر إلى العالم العربي كله، لكنها بدأت تتلاشى مع انتهاء عهد الستينات الذهبي. إن نجاح ثورة 1952، كان الشعلة الأولى في طريق تحقيق انتصار للذاكرة الجمعية والإنسان والمجتمع، والتخلص من الأصفاد السياسية والاقتصادية التي فرضها الاستعمار البريطاني بصفة خاصة والاستعمار الأوروبي بصفة عامة.. ومع بدء الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والزراعي.. بدأت العيون تتجه نحو الإصلاح الثقافي والفكري في ظل تصادم التيار العلماني وهو تيار وطني معتدل، وتيار (ثيوقراطي) وهو تيار متطرف. بين الرومانسية والتنوير المتتبع للحياة الثقافية في مصر وبدءا من العام 1936 وحتى قيام الثورة يلحظ سيطرة اتجاهين رئيسيين على حياة مصر الثقافية والفكرية: حركة رومانسية، وحركة تنوير إذا بحسب الاصطلاح الأوروبي المألوف. وقد غذت القومية الليبرالية الدافع الرومانسي الذي عبر عن نفسه من خلال موسيقى سيد درويش، وفي مقتبسات المنفلوطي الدامعة لـ «بول وفرجيني» وفي ترجمات احمد حسن الزيات الرائعة لرواية جوته «الام فوتر» و»بحيرة» للامارتين الفرنسي، وفي تعريب محمد عوض للجزء الأول من «فاوست» لجوته.. وتلك كانت الأيام الذهبية التي كان يمثل فيها يوسف وهبي وأمينة رزق وجورج أبيض وروز اليوسف وفاطمة رشدي أمام جمهور مسرحي بالغ الحماسة، حيث قدّمت روائع عالمية خالدة مثل: «لويس الحادي عشر» للكاتب كازيمير دي لافيني، و»النسر الصغير» لادمون روستان، و»غادة الكاميليا» لاسكندر دوماس الابن.. إلى جانب عدد كبير من الميلودرامات المترجمة والمسرحيات المحلية التي كانت تنبئ عن بداية ظهور جيل جديد من الكتاب المسرحيين سنراهم مع تطور الثورة وقد شكلوا واجهة للمسرح القومي والفرق المسرحية التي شكلت حركة المسرح الجادة في مصر التي أسهمت في إرساء قواعد للمسرح في العديد من البلدان العربية. الشعر والدراما في مجال الشعر والقصيدة.. كانت عبقرية أمير الشعراء أحمد شوقي الشامخة وحدها التي أسهمت في ازدهار مدرسة (ابولو) والتي كان عمادها إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، ونتذكر جبران خليل جبران الذي كان مثالا يحتذى في مصر، نتذكر معه الينبوع الحقيقي الذي نهل منه الشعر الرومانسي المصري كلا من أبو القاسم الشابي وإيليا أبو ماضي.. ومن الغريب أن تشهد هذه المرحلة إنتاج واحد من عمالقة الرومانسية المصرية وهو عباس محمود العقاد الذي لم يتصوره أحد كاتبا من هذا الطراز بسبب عمق جذوره الكلاسيكية ومع ذلك فقد كان العقاد من أخطر الكتاب تعبيرا عن (الجوانية) في مصر، رغم انه كان متشربا بالمثالية الألمانية لا سيما نتاجات (نيتشه) النقدية والفلسفية. ثم كما نعلم كيف تفجرت عبقرياته الشهيرة في كتابة سير أعلام الإسلام وفجر الإسلام بعد أن رسم صورا عديدة شامخة في كتاباته لسعد زغلول في العام 1936. لقد كانت الحركة الرومانسية في مصر دافقة العاطفة وكان محركها الأول هو (الحماسة)، كانت مدرسة قوامها (الوجدان) وعبرت عنها كتابات العقاد المتدفقة بالعاصفة والاندفاع، والتهويمات الحزينة عند المنفلوطي والزيات وفي شعر ناجي ومدرسته التي شاعت فيها (السوداوية)، أما آخر أبناء هذه المدرسة فكان كامل الشناوي في مجال الشعر وعدد من أبناء جيله، أما في النثر فكان يوسف جوهر وسعد مكاوي ويوسف الورداني. وقد تبع جيل هذه المدرسة جيل آخر من رواد مدرسة الواقعية الاشتراكية أمثال: يوسف السباعي وأمين يوسف غراب وثروت أباظة وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله، وقد وجدنا في هؤلاء لونا من القصص يصور الحياة في صورة وردية أو توفر نقدا مشبعا بحسن النية لوجوه الضعف في المجتمع البرجوازي. ومن الأرجح أن الفردية المكافحة المجردة من الأحلام التي تميز بها كتاب هذه المدرسة هي التي عصفت بها في مجال القصة وجعلت الطريق عسيرا أمام قصاصين مثل: فتحي غانم ومصطفى محمود ومحمود السعدني وعبد الله الطوخي وصبري موسى وغيرهم، ولكن استطاع روائيان من تجاوز هذا الواقع وهما: نجيب محفوظ في الأربعينات ويوسف إدريس في الخمسينات، وقد نجحا كثيرا في التعبير من خلال الرواية والقصة القصيرة من التعبير عن روح الجيل المعذب المسحوق تحت وطأة أنظمة اجتماعية منهارة وتحت قوى تحكم مصير الإنسان الفرد. أما في مجال المسرح وبمجيء الحرب العالمية، كان المسرح معد لجيل جديد من الكتاب ولمجموعة جديدة من القيم، قبل إن يخرج كتاب جيل العام 1919 من المسرح نهائيا بزمن طويل.. كانت فترة الحرب هي الفترة التي ظهر فيها لأول مرة محمد مندور ونجيب محفوظ وعبد الرحمن بدوي، وباستثناء محفوظ الذي كان يومئذ مشتغلا بإجراء تجاربه الواقعية الباكرة في مجال الرواية، كان الآخرون جميعهم يمثلون لونا أو آخر من ألوان النظم الاجتماعية، في وقت كان فيه مندور مشتغلا بوضع أسس الراديكالية المصرية لينفذ من خلالها مخترقا سياج المثقفين إلى الجماهير العريضة وعلى نطاق واسع لم يسبقه إليه أحد باستثناء طه حسين. هياكل وأطر هذه هي المعطيات التي كانت سائدة تقريبا على المستوى الفكري والإبداعي لعشر سنوات أو أكثر من قيام الثورة.. التي كانت شغوفة بإحداث التغيير الذي بدأ من خلال تشكيل وزارة الثقافة العام 1957، وبدأ الانتصار الأول للقوى الخلاقة الجديدة وتجلى في أوضح صوره في الدراما والشعر والفلكلور والفنون التشكيلية والنحت، وإنشاء مدارس عديدة للبالية والأوبرا والكونسرفتوار والكورال الملحق بدار الأوبرا، وهو اعتراف رسمي بأهمية وقيمة الموسيقى الكلاسيكية التي كانت في عهد ما قبل الثورة مخصصة فقط للجاليات الأجنبية في مصر ثم حلقات صغيرة من كبار المثقفين المصريين المعزولين أساسا عن ذائقة الجماهير. في مجال الدراما انتقلت مصر منذ العام 1952 من مرحلة الترجمة والاقتباس إلى مرحلة الخلق والإبداع وتحسس جماليات اللغة العربية الفصيحة، إلى الدرجة التي دفعت توفيق الحكيم مثلا إلى التخلي عن اللغة العامية في مسرحياته وأن يلتزم الفصحى بعد أن أرهبته حملات النقاد بزعامة طه حسين.. هذا إلى جانب ظهور عمالقة الكتابة لفن المسرح من بينهم الفريد فرج ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي ومحفوظ عبد الرحمن ونعمان عاشور وسعد الدين وهبة وغيرهم ممن أبدعوا لنا مسرحيات أصيلة ووفق جملة من الأساليب والأشكال المسرحية العربية القديمة من بينها الحكواتي والسامر وغيرها. وفي مجال الشعر وجدنا أحمد حجازي وصلاح عبد الصبور وغيرهم يثورون على (بلاغة الشعر العربي الميلودية) أو (القصيدة ذات الصوت الواحد) وحققوا انتصارات باهرة في الهارمونية (قصيدة تعدد الأصوات) والهمس عن طريق نظام العروض الجديد القائم على وحدة القصيدة وعلى نظام القافية المركب، ولا شك أن مناخ التلقائية الذي جاءت به الثورة هو الذي مكن حساسية هؤلاء الشعراء من ابتداع العديد من الأساليب والتركيبات والإيقاعات الجديدة. لقد كانت صورة الراحل عبد الناصر حاضرة في كل إنجاز إبداعي خلاق وكانت صورة الثورة وطموحاتها في بناء ثقافة فكرية عربية خالصة تستمد جذورها من التراث العربي الإسلامي هي الواضحة، ولك أن تعرف تأثيرات الثورة في نهج الأغنية أيام أم كلثوم وأحمد رامي وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وتأجيج الروح الوطنية من خلال الأغنية والصوت والأداء والتعبير حتى بدت هذه الأغنية سلاحا نفاذا فعالا في الجبهة الداخلية ومؤثرا مهما في مجال الوحدوية والقومية العربية التي تنامت في سنوات الثورة حتى وصلت إلى ذروتها. ورغم رحيل جيل أغنية العصر الذهبي أو عصر العمالقة والزمن الجميل فإننا ما زلنا نعيش على الكثير من إبداعات وثوابت تلك الفترة التي أسهمت فعليا في خلق مزاج عربي نحو فكرة وحدة الثقافة العربية التي أصبحت اليوم هاجسا يؤرق وجدان المثقفين العرب. تذهب الثورات ويذهب الرجال وتبقى الإبداعات التي أنجزت في حقبتهم، لان الكلمة هي الأصل وأن الإبداع لا وطن له.. وقد كان عبد الناصر الذي نتذكره اليوم واحدا من الرموز التي أسهمت فعليا في بناء ثقافة وفكر عربي أصيل نابع من وجدان إنساني أصيل. قد يكون هذا العرض، وافيا أو ناقصا لتلك الحقبة المهمة في التاريخ العربي، وموقع الثقافة والفنون فيه ومنه، لكن إعادة قراءة حقبة الستينات قراءة ثقافية، مهمة ضرورية اليوم ليس من أجل محاكمتها، أو محاكمة الحقب التي جاءت بعدها بها، بل من أجل أن نجيب عن سؤال مفتوح منذ أكثر من أربعين عاما: أين هو موقعنا الثقافي والفني والحضاري على خريطة العالم؟ هل ما زالت عادة الوأد مستحكمة بعقولنا وسلوكنا، فنسارع إلى وأد تجاربنا وإبداعاتنا كما كان يفعل جهلاؤنا في الجاهلية؟ وهل ما زالت الشخصانية هي العامل الحاسم في مواقفنا وقراراتنا، فنحب ونكره بناء على حالة مزاجية، ونؤيد وندين انطلاقا من معطيات فردية؟ وسوف تبقى هذه الأسئلة مفتوحة، حتى تجد منهجا تعتمده لمراجعة الماضي بلا تعصّب، ومساءلة الحاضر بلا تحزّب، واستشراف المستقبل بموضوعية.. عندها فقط يمكن أن نحكم على مرحلة الستينات الثقافية المنسلة من تجربة ثورة يوليو، لها أو عليها، لنا أو علينا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©