الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«روبن هود».. مغامرة سينمائية في غابة الجشع الإنساني “

«روبن هود».. مغامرة سينمائية في غابة الجشع الإنساني “
26 مايو 2010 20:25
حاولنا في الفيلم أن نبعد المتفرج قليلاً عن سينما (البوب كورن) ونقول له شيئاً جاداً ـ على الأقل ـ هذه المرة” هكذا تحدث الممثل راسل كرو النيوزيلندي الأصل، الأسترالي المنشأ، عن آخر أفلامه الملحمية “روبن هود”، وهو قول وتصريح يذهبان مباشرة في اتجاه الخروج من عباءة الترفيه والإبهار البصري الملتصق بالحكاية التقليدية والفلكلورية التي تناولت هذه الشخصية الإنجليزية من جانبها البطولي والهزلي الذي لا يحمل إدانة مباشرة لشخصية اللص الخارج عن القانون بقدر ما يمتدح حس المغامرة والانتقام من الأغنياء كقصاص اجتماعي، لا يهمّ من ينفذه. لكن المهم أن يتحقق على أرض الواقع، ولو من خلال سارق شريف مثل روبن هود اتخذ من أصدقائه المرحين ومن غابة شيروود الإنجليزية مكمناً مناسباً لتحويل المغامرة الجماعية والبطولة الفردية، إلى سيرة شعبية حافلة ومتداولة على مر الأزمنة. نوايا بيضاء وعلى الرغم من أن نوايا الحكاية (الروبن هودية)، بغض النظر عن كونها واقعية أو خيالية هي نوايا بيضاء وتنتصر للمستضعفين والمغلوب على أمرهم، وعلى الرغم من أن الحكاية سبق وأن تناولتها أفلام كثيرة ومن خلال معالجات أمينة لعناصر القصة، إلا أن النسخة السينمائية الأخيرة التي قدمها المخرج ريدلي سكوت حول روبن هود خففت من الجرعة الأسطورية التي تشربتها حكايته في المخيال الجمعي، والأكثر من ذلك أن (سكوت) اتجه نحو تأويلات اجتماعية وسياسية استعانت بالحدود العامة والخارجية للقصة، ولكنها وفي العمق تضمنت إسقاطات يمكن إحالتها إلى الوضع العالمي المعاصر ولو من خلال اللمح والإشارة. هذا التنويع أو هذا الإبدال الذي مارسه المخرج بالتعاون مع كاتب سيناريو الفيلم (بريان هيلغيلاند) حوّل روبن من مجرد لص خلوق وقاطع طريق شرعي ـ على مستوى المخيلة الشعبية ـ إلى شخص متنوّر وحكيم وفيلسوف أيضاً، حيث نراه في الفيلم وهو يستعيد محطات الطفولة الغامضة التي يتجسد فيها الحضور الملهم لوالده قبل إعدامه وهو يقول لطفله المتفتح توّاً على الحياة: “إن الحملان تستطيع أن تتحول إلى أسود”، ويعدد له منافع العدالة الاجتماعية وضرورة نبذ الفكر الطبقي القائم على الظلم والجشع واستحواذ الأقوياء على نصيب الضعفاء من دون وجه حق، وتتوضح في مشاهد عدة داخل الفيلم قيمة هذه الهبة أو الإرث الفلسفي الذي انتقل إلى روبن هود من خلال والده، فنراه يتحدث وبجرأة بالغة إلى قائد الحملة الصليبية الثالثة الملك ريتشارد (قلب الأسد) عن حمامات الدم والمذابح التي طالت الأسرى المسلمين في فلسطين وقرب أسوار عكا، ويقول للملك فيما يشبه إدانة أخلاقية وتاريخية صارخة: “الحرب الصليبية حولتنا إلى كفار بعد تلك المذبحة”، وفي مشهد آخر نراه وهو يلقي خطبة اجتماعية مؤثرة وسط بارونات الشمال والجموع المحيطة بالأمير جون شقيق وخليفة الملك ريتشارد، وتكشف هذه الخطبة عن جانب عقلاني مختلف في شخصية روبن هود لم تكشف عنه كل الأفلام والأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تناولت مهاراته الخارجية في القتال وبراعته في رمي السهام من دون أن تتغلغل في الجذور الفكرية والنفسية المكونة لشخصيته. وحتى في مغامرته العاطفية مع (ماريون) ـ تقوم بدورها كيت بلانشيت ـ نجد روبن هود وهو يسيطر ويوازن بين مطلبه العاطفي وبين انشغالاته العقلانية والأخلاقية، وينتصر على رغبته الجسدية إعلاء من شأن الفروسية النبيلة التي لونت وحددت علاقته بالآخرين. قدم ريدلي سكوت فيلم روبن هود من دون أن يلجأ وبشكل مفرط لبهارات الجرافيك والحيل التقنية ـ على الرغم من توافرها وتطورها ـ مقارنة بزمن إنتاج فيلمه الملحمي الآخر (جلادياتور) قبل عشر سنوات من الآن، ومعروف عن سكوت دفاعه المستميت عن النسق الواقعي والطبيعي لأماكن التصوير، وهو دفاع قد يكلفه الكثير من الميزانيات المرصودة لإنتاج أفلامه، ولكن غالبا ما تكون النتائج مبهرة على صعيد التواصل البصري والروحي مع جماليات الأمكنة وتفاصيل القصة، ورأينا ذلك في أفلام سابقة للمخرج مثل “سقوط الصقر الأسود” و”مملكة السماء”، على الرغم من أن استعادة تفاصيل الأمكنة في أزمنة غابرة تعود إلى الفترة الرومانية أو العصور الوسطي وما قبلها ـ كما في فيلم روبن هود ـ هي استعادات مستحيلة يبررها غياب الوثائق التاريخية والشواهد الملموسة إلا أن الابتكارات المشهدية والمخيلة الكاشفة عن غموض التاريخ والزمن أضفت الكثير من الصدقية والتناغم على السينوغرافيا الضخمة والشاسعة التي يلجأ لها سكوت في أفلامه ذات النسق الملحمي. حروب مقدسة يبدأ فيلم “روبن هود” على مشهد عودة الملك ريتشارد قلب الأسد في أواخر القرن الثاني عشر إلى إنجلترا المنهكة اقتصادياً بعد تكبدها تكاليف الحرب الصليبية التي قادها الملك كحرب ملزمة ومقدسة، ولكنه يجابه في طريق عودته عقبة المقاومة التي تبديها إحدى القلاع الفرنسية التي تقف مثل حجر عثرة أمام وصول الملك إلى قصره في لندن، ونجد وسط الجموع المنهكة لجيش الملك رامي السهام الجريء (روبن لونغسترايد) قبل أن تتخطفه يد الأسطورة ويتحول إلى روبن هود المذكور في الميثولوجيا الإنجليزية، يعجب الملك بشجاعة روبن ولكنه يستاء من إدانته للحرب الصليبية ويقرر معاقبته، وقبل تنفيذ العقوبة يقتل الملك بعد إصابة مميتة يتعرض لها من قبل المقاومين الفرنسيين، يهرب روبن مع مجموعة من رفاقه وفي طريق هروبه ينقذ فرقة من الخيالة الإنجليز المحاصرين من قبل الفرنسيين الذين استمالوا معهم القائد الإنجليزي الخائن (جودفري) ـ يقوم بدوره وبتمكن الممثل مارك سترونغ ـ يحمل روبن معه تاج الملك ريتشارد كي يسلمه لشقيقه وخليفته الأمير جون ويحمل معه سيفا يعود إلى القائد الإنجليزي روبرت لوكسلي الذي يوصي روبن قبل وفاته بتسليم السيف لوالده في مقاطعة نوتنغهام شاير. ونكتشف في سياق الأحداث أن الملك الجديد هو شخص مستهتر ولعوب ولا يمكن الوثوق بقراراته وبالتالي فهو صيد سهل للمؤامرات التي يحيكها العملاء الفرنسيون في الداخل من أجل إشعال حرب أهلية قد تسهل على الفرنسيين احتلال إنجلترا كما فعلوا سابقاً في العام 1066. وعندما يذهب روبن إلى نوتنغهام يتقمص دور ابن المسؤول عن المقاطعة وزوج الأرملة ماريون حتى لا يفقد شريف المقاطعة حقه في الحكم، وضمها بالتالي إلى الأملاك للشرعية للملك الجديد جون، ومع السيطرة المستمرة للخائن جودفري على قرارات الملك الضعيف، تستمر الحملة الإجبارية والعنيفة لجني الضرائب من المقاطعات الشمالية مما يدفع بارونات الشمال إلى التمرد والتضامن من أجل إطاحة الملك، ولكن مع تدخل روبن هود والمتنورين الآخرين في السلطة يتم كشف مؤامرة جودفري لإشعال الحرب الأهلية، وفي معركة نهائية وحاسمة قرب الشواطئ الإنجليزية يتم دحر وهزيمة الأسطول الفرنسي ويقتل روبن هود الخائن جودفري، ليتم بالتالي إطفاء الفتنة من جذورها. خيانة مبررة وفي خاتمة مفاجئة وغير متوقعة يتخلى الملك جون عن كل وعوده السابقة ويصدر قراراً باعتبار روبن هود خارجاً عن القانون، ووجوب اعتقاله حياً أو ميتاً، وينتهي الفيلم على عبارة مكتوبة فوق الشاشة تقول: “من هنا بدأت الأسطورة” حيث نرى في خلفية المشهد روبن هود مع زوجته ماريون وأصدقائه ومجموعة من المحاربين الصغار وهم يبحثون لهم عن مكان آمن في غابة شيروود. وعلى الرغم من ظهور شخصية روبن هود في أفلام سابقة ومع نجوم مثل إيرول فلاين ودوغلاس فيربانكس وكيفن كوستنر، إلا أداء راسل كرو كان أكثر مرونة وسلاسة لخلق حالة تمثيلية توازن بين المواصفات الجسدية والحركية للمحارب، وبين الهدوء الداخلي وردة الفعل العقلانية تجاه الصراعات الكثيرة التي عصفت بهذا المحارب، وعلى الرغم من وجود بعض التقاطعات الأدائية والملامح الخارجية مع شخصية المصارع الروماني في فيلم (جلادياتور)، إلا أن تجاوز راسل كرو لأصداء وانعكاسات تلك الشخصية جاء من خلال الدخول التدريجي في دوره الجديد وتقمص شخصية روبن هود انطلاقا من ثيمات الزمان والمكان المرتبطين بتفاصيل الحكاية، وعلى مستوى الإخراج كانت اللقطات البانورامية خياراً موفقاً لريدلي سكوت، الذي لم يهمل في الوقت ذاته التركيز على الكادرات الضيقة والزوايا المقربة التي تستدعي انفعالات الممثلين، وتعطي مسحة من الحميمية والتواصل مع الشخوص. عموما فإن فيلم “روبن هود” حاول الخروج من أسر الأكليشيه المرتبط بالشخصيات الشهيرة، وفي الوقت نفسه لم يتطرف في هذا الخروج، ولم يتمرد على الذاكرة الشعبية المتداولة إلا في حدود ما يسمح به خيال كاتب السيناريو، وما تسمح به أيضا ارتجالات الكاميرا في يد مخرج لا يطيق فكرة الإخلاص المطلق للحكاية التقليدية!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©