الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مذبحة على الطريق!

مذبحة على الطريق!
28 مارس 2013 20:40
أحمد محمد (القاهرة) - كانت الساعة تقترب من الخامسة مساء ولم يعد «بلال» من المدرسة، لقد تأخر عن موعده اليومي المعتاد أكثر من ساعتين، ومعروف أنه عندما يذهب إلى أي مكان يخبر أباه أو أمه، لكن هذه المرة لم يحدث ذلك، ولا يعرف أحد من زملائه أين ذهب، صحيح أنه في الخامسة عشرة من عمره ويدرس في الصف الأول الثانوي، وقد أصبح فتى ويعرف ويدرك كيف يتصرف وهو إلى الرشد أقرب، لكن المخاوف تزايدت، خاصة وانه ملتزم من البيت إلى المدرسة والعكس، خرج أبوه وأقاربه يبحثون عنه ولم يعثروا له على أي أثر، حتى كادت أمه تفقد عقلها، فهو الولد الوحيد بعد ابنتين، هو كل ما لها في الدنيا، والأمر لا يقل عند أبيه، وخرج كل الأهل والأقارب يشاركون في البحث عنه، والوقت يمر وقد جن الليل، الفرص تتضاءل في الوصول إلى معلومة تدل عنه. في الثامنة مساء، تلقى الأب اتصالاً على هاتفه المحمول من مجهول، يخبره بأن ابنه لديه وعليه أن يدفع مبلغاً يتجاوز المليون دولار كفدية حتى يتم إطلاق سراحه، ولم ينس المتصل أن يحذره من إبلاغ الشرطة ولو حدث ذلك، فإن ابنه لن يعود إليه مرة أخرى ولو عاد فسيكون جثة هامدة، عليه أن يكون جاهزاً بالمبلغ، وفي انتظار اتصال آخر لاتخاذ الترتيبات حول كيفية التسليم والتسلم بهدوء، وأغلق المتصل الهاتف حتى لا يمكن الاتصال به أو تتبعه أو معرفة صاحبه أو مكانه. كل ما يشغل الأب والأم هو سلامة ابنهما الوحيد، ولا تهم أموال الدنيا كلها، ولو كان يملك المبلغ وعرف مكانهم لاتجه إليهم على الفور ليفتدي فلذة كبده، الرجل يعمل في تجارة الأسماك، لكنه ليس من الحيتان الكبار، ولا يستطيع أبداً أن يدبر المبلغ المطلوب، ومع ذلك، فقد بدأ يفكر في ذلك حتى لو باع كل ما يملك واقترض من البنوك ومن أصدقائه وأقاربه، المهم أن يعود إليه ولده سليماً معافى ولا يمسه الخاطفون بسوء، والأمل ما زال موجوداً، فكثيرون تم خطفهم في المناطق المجاورة وتم إطلاق سراحهم بعد التفاوض وتخفيض المبالغ المطلوبة، والتزم الرجل بعدم إبلاغ الشرطة حفاظاً على حياة ابنه وحتى لا ينفذ الخاطفون تهديدهم، ففي المقابل، كانت هناك حالات كثيرة أيضاً تم فيها قتل الضحايا والتخلص منهم ولا يريد أن يصل الأمر إلى هذه النهاية المفجعة. جاء واحد من زملاء بلال الكثيرين الذين كانوا يشاركون في البحث عنه إلى أبيه يخبره بأن ابنه تلقى اتصالاً من ابن عمته وتوجه بعده معه إلى مكان غير معروف، كان هذا أول خيط يمكن الإمساك به والسير وراءه، لكن ابن العمة هذا أنكر تماماً لقاءه مع بلال وإن لم ينكر الاتصال به، وقال إن عمته كانت تريد أن تراه وتود أن يزورنا ويقضي معنا يومين أو ثلاثة، لكن لأننا في وسط الأسبوع وبلال مشغول بالدراسة، فقد تأجلت الزيارة إلى يوم الخميس القادم، لكن جاء آخر ليصحح هذه الرواية ويؤكد أنه رأى «بلال» بعد نهاية اليوم الدراسي يسير مع ابن عمته ويستقلان سيارة أجرة إلى إحدى القرى المجاورة. تأكد والد بلال أن ابن أخته «حسين» الذي كان يعمل عنده منذ فترة طويلة له يد فيما يحدث، لكنه تساءل لماذا يفعل هذا وهو ابن أخته ويحسن إليه دائماً ويغدق عليه، لكن حسين حضر بعد ذلك ليشارك في البحث عن ابن خاله المختفي في ظروف غامضة تثير الأسى والألم، ويبدو عليه الحزن والتأثر، ويطير هنا وهناك مثل النحلة لعله يجد له أثراً أو يعرف خبراً، لكن لم تأت جهوده لا هو ولا غيره بجديد، غير أنه في اليوم التالي جاء مهرولا إلى خاله يخبره بأنه تلقى اتصالاً من الخاطفين ويريدون التفاوض معه وإطلاق سراح بلال. هنا تأكد الأب أن ابن أخته وراء اختفاء ابنه، وليس أمامه إلا التعامل معه باللين وحتى لو وصل الأمر للتذلل ليعرف منه ما حدث فانتحى به جانباً وراح يفاوضه ويسترضيه ويتودد إليه أن يقول الحقيقة، والوقت يمر ثقيلاً بطيئاً بتاراً كالسيف، إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة واعترف بأنه وصديقه «ممدوح» تمكنا من استدراج بلال واختطافه بحجة زيارة عمته، وتوجها به إلى منزل مهجور في قرية مجاورة يملكه صديق ثالث لهما، واتفق والد بلال وابن أخته على أن يقوم هذا الأخير بالاتصال بممدوح واللقاء هنا للتفاوض وأبدى استعداده للاستجابة لكل مطالبهما فوراً، وبالفعل اتصل حسين بممدوح وطلب منه الحضور لتسلم مبلغ الفدية واقتسامه. وقع ممدوح في الفخ، وحضر وهو يمني نفسة بمبلغ ضخم لا يحلم به أبداً، لكن ما أن وطأت قدماه الأرض حتى أمسك به والد بلال وأقاربه هو وحسين وقيدوهما بالحبال وأوسعوهما ضرباً مبرحاً ليدليا بمكان إخفاء التلميذ البريء، ومع شدة الضرب والقسوة اضطرا للاعتراف والبوح بالمكان فتوجه الجميع إلى المنزل المهجور، كان أهالي القرية قد علموا جميعاً بهذه التفاصيل، فخرجت جحافلهم بالمئات لتشهد هذا الحدث الفريد وغير المسبوق عندهم ومن ناحية أخرى ليطمئنوا على حياة بلال وليشاركوا في تحريره ومعظمهم من الشباب الغاضب الذين يستنكرون وقوع مثل هذه الجرائم بينهم. بضعة كيلو مترات قطعها الجميع بالسيارات وهم في طريقهم إلى المنزل المهجور، يودون في هذه اللحظات لو كانوا يستقلون صواريخ عابرة للقارات أو مركبات فضائية طائرة ليكونوا هناك خلال طرفة عين، الجميع يحبسون أنفاسهم ويترقبون ماذا يمكن أن تسفر عنه هذه الأحداث، أخيراً وصلوا، لكن النتيجة غاية في الأسف والحزن، جاءت على عكس كل التوقعات والأمنيات، فقد أصيب بلال بغيبوبة مفاجئة لأنه مريض بالسكري، واضطر الخاطفون لدفنه هنا بملابسه خشية افتضاح أمرهم، هاج الجميع وماجوا، اختلط الحابل بالنابل، تدافع الكبار والصغار قبل الشباب على الغرفة الداخلية التي تم دفن بلال بها، وتم استخراج الجثة للفتى البريء الذي راح غدراً وغيلة وضحية للطمع، فقد حياته بلا ذنب جنته يداه ولا يداً غيره، فقط من أجل حفنة من المال لم تتحقق. المشهد مأساوي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، الأم فقدت الوعي، تعالت صرخات النسوة، وحتى الشباب غلب عليهم النواح والجميع يعتصرون ألماً، الصدور تغلي من الغيظ، بضعة آلاف يقفون وقفة جنائزية في موقف غير مسبوق، كثيرون منهم حضروا جنائز وودعوا أحبة لن لم تكن نهايتهم بتلك البشاعة، الغاضبون اندفعوا بلا اتفاق نحو المجرمين «حسين وممدوح» يركلونهما بالأرجل ويضربون بالأيدي والأحذية أو بكل ما كان في متناولهم، تسابقوا في الوصول إليهما، كل منهم يحاول أن يفرغ بعضاً من شحنة الغضب الكبيرة التي تعتمل داخله، أكثر من خمسمائة شخص فوقهما في تلك اللحظات العصيبة على الجميع. قام الشباب بتوثيق المتهمين كل على حدة من الأيدي والأرجل وقاموا بسحلهما والطواف بهما في الشوارع، الضربات مستمرة فقدا الوعي تماماً، لا أحد يستطيع أن يعرف إن كانا توفيا أم ما زالا على قيد الحياة، وهذا في حد ذاته ليس مهماً المهم أن يظلا على قيد الحياة حتى يتعذبا أكثر جزاء بما اقترفت أيديهما، وليس هناك من يفكر في التوقف، بل ذهب آخرون إلى إشعال النيران وكيّ جسديهما، حتى تشوهت معالم وجهيهما تماماً، وجاء من بعدهم من يقوم بتعليق الجثتين من القدمين بالمقلوب في عمود الإنارة، وتستمر الضربات رغم أنهما فارقا الحياة بكل تأكيد، فكل هذا لم يشف الغليل من فعلتهما الشنعاء، كثيرون يرون أنهما يستحقان أكثر من ذلك، قلة قليلة طالبت على استحياء بالكف عن التعرض للموتي فللموت حرمة، لكن هؤلاء وجدوا من يتصدى لهم ويعارض وجهة نظرهم مؤكداً أن أمثال هذين يجب أن بطبق عليهم حد الحرابة، وأن يصلبوا في جذوع النخل وان يقتلوا وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ليكونوا عبرة لمن يعتبر. أخيراً، جاءت الشرطة بعد أن قضي الأمر، بصعوبة استطاعت أن تسيطر على الموقف، وتحمل الجثث الثلاث إلى المشرحة، الآلاف ما زالوا يتدافعون ويموجون في بعضهم مثل موج البحر، كلهم يريدون أن يشاركوا في حمل جثمان بلال، بينما كانت جثتا ممدوح وحسين في جانب آخر، ومهما كان الأمر وأن هذين متهمان، لكنهما في النهاية ماتا مقتولين وتم تعذيبهما وحرقهما، لكن تفرقت دماؤهما بين المئات من الأيدي التي امتدت وشاركت بأي شكل، ولم تستطع المعلومات التوصل إلى شخص بعينه أو عدد من الأشخاص أو تحديد من الذي تسبب في الوفاة، لذلك لم تجد الشرطة أي متهمين لتقديمهم للعدالة، حتى عشرات الكاميرات والهواتف المحمولة التي قام أصحابها بتصوير وتوثيق الحدث لم تظهر أي منها وجه أو صوت أي شخص من المشاركين، وما زال جمع المعلومات مستمراً، لكن ليس من المتوقع أن تصل إلى شيء. تم دفن بلال، تودعه بحور الدموع، وتم دفن الآخرين، ولسان حال الجميع يردد، يستحقان تلك النهاية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©