الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إضاءة حادة على الزوايا المعتمة

إضاءة حادة على الزوايا المعتمة
26 مايو 2010 20:14
تعد فاطمة المزروعي من أكثر الكاتبات الإماراتيات غزارة في الإنتاج، وتنوعا في أشكال الكتابة التي تجمع فيها بين كتابة الشعر والرواية وكتابة السيناريو والمسرح والقصة... ما يدل على الرغبة الواضحة عندها في التجريب. وتشكل روايتها الجديدة “زاوية حادة” الصادرة مؤخرا عن دار العين إضافة جديدة إلى رصيدها الأدبي، حيث تحاول من خلالها أن تستعيد تجربة الطفولة القاسية التي عاشتها بطلة الرواية التي تتولى سرد وقائعها وأحداثها بضمير المتكلم المؤنث، ما أضفى على السرد نوعا من الحميمية في العلاقة مع المتلقي. وسواء كانت الراوية التي لم يذكر اسمها هي التي تتولى سرد هذا الجانب من السيرة الذاتية للكاتبة، كما قد يتبدى من خلال عدد من الإشارات التي تتحدث عن ولع بطلة الرواية بالكتابة والكتاب منذ تلك المرحلة المبكرة، أو هي تتحدث عن تجربة امرأة أخرى، فإن الرواية تظل مشغولة بالكشف عن تلك القسوة التي تسم حياة المرأة وشرطها الاجتماعي والإنساني منذ طفولتها في مجتمع ذكوري تتحول فيه المرأة إلى ضحية للعنف والاستبداد وحتى للاعتداء الجنسي عليها، حيث تشارك الأم لأسباب اجتماعية ونفسية معقدة في اضطهادها والتعامل القاسي معها. تلعب العتبة النصية دورا مهما في الإيحاء بعالم الرواية وهواجس السرد الحكائي فيها ما يجعلها تؤثر في أفق توقع القارئ وتسهم في توجيه فعل القراءة. ومنذ العنوان الرئيس الذي يحمل معنى هندسيا تتضح الغاية التي تتوخى الكاتبة تحقيقها من خلال اختيار هذا العنوان ذي البنية الرمزية التي توحي بالحدة والقسوة. وتتوضح تلك الدلالة أكثر مع العتبة الثانية التي يمثلها التصدير الذي يتحدث عن علاقة الراوية بذكرياتها عن الزمن القديم الذي هو زمن الطفولة، وعن موت الذكريات. وتكشف عتبة السرد ذات البنية المجازية عن الرغبة في التحرر والانعتاق، في حين تتخذ الرواية على غرار ما هو معتاد في الرواية الواقعية من وصف المكان الذي ستجري في أحداث الرواية التي تستحضرها بطلة الرواية من زمن مضى من خلال استرجاعها لتجربة الطفولة بداية لها “ما أذكره اليوم هو حارات قديمة تنبعث منها في ليالي الصيف المعتمة والساخنة الروائح الكريهة التي تختلط برائحة الأطعمة الشهية التي تعدها الأمهات بعد صلاة المغرب لأزواجهن العائدين من المسجد”. إذا كان المكان يعاش على مستويات عدة ولايمكن أن نفصله عن رؤية الشخص الذي يعيش فيه، فإن الصفات التي يظهر بها المكان في العتبة السردية، تضعنا في صورة العلاقة التي تنشأ بين بطلة الرواية والمكان الذي يتسم بالقدم والبيوت المتلاصقة من جهة، وبالتداخل العجيب لروائحه من جهة أخرى، ما يجعل هذا الوصف يسهم في تحديد صورة العالم الذي عاشت فيها بطلة الرواية طفولتها وعلاقتها به، إذ يستدعي هذا الوصف علاقته الجدلية بالزمن الذي يتصف هو الآخر بالرتابة والبطء في حركته وفي تحولاته. وعلى الرغم من تلك الصورة التي ترسمها لذلك العالم الذي ينغلق على أسراره، فإنه يبقى عالما أليفا لكونه يمثل عالم الطفولة الذي كانت تحتمي به البطلة من المجهول. ولأنه عالم مغلق على ذاته بسبب طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تحكمه، يغدو التلصص على العالم الخارجي من ثقب الباب أو الفتحات الأخرى الممكنة هو وسيلة التعرف الممكنة على هذا العالم واكتشافه من قبل بطلة الرواية لكونها أنثى، في حين يتمتع الأطفال الذكور بحرية الحركة واللعب واختراق المكان على أساس القسمة الاجتماعية التي يفرضها واقع القيم الاجتماعية السائد بين الأنثى والذكر. لذلك تبدو البطلة منذ طفولتها مقيدة بشرطها الاجتماعي ومحكومة بالفرز الذي يفرضه الواقع بحيث يجعلها ذلك تدرك مبكرا معنى اختلافها كأنثى عن الذكر الذي ستكون فيما بعد ضحية لما يمنحه الواقع له من سلطة وحرية وقوة. لاشك أن هذا التداخل في صورة المكان يعكس بصورة غير مباشرة موقف البطلة منه، إذ ينطوي على تناقض واضح تكشف عنه أثناء حديثها عن تجربتها التي عاشتها فيه، والتي تحاول ألا تحتفظ بشيء يذكّرها بها، ورغم ذلك نجدها تحاول في هذه الرواية أن تستعيد تلك التجربة بكل أسرارها وتفاصيلها، وإن كانت تروم منه تعرية ذلك العالم والكشف عن قسوته في علاقته مع الأنثى وموقفه منها. يوغل السرد الذي يتميز بلغته المجازية في ذاكرة الماضي مستعيدا ذكرياته ووقائع أحداثه، ومستدعيا عددا من الشخصيات الأخرى اللواتي يشكلن جزءا من الحدث، حيث تتميز تلك الشخصيات بصفات مختلفة تكشف عن التنوع والتباين في طبيعتها ومدى فاعليتها، ومن تلك الشخصيات شخصية صديقتها سعاد التي تكون من حيث النضوج والثقة بالنفس والوعي متقدمة على شخصية البطلة. في حين تتباين الشخصيات الذكورية في الغالب عن الشخصيات الأنثوي على هذا المستوى بسبب ما الامتيازات التي يمنحها لهم الواقع. وإذا كانت شخصية الأب التي تكره البنات قريبة في سلوكها من شخصية الأم من حيث قسوته وعنف سلوكها مع البنات، فإن شخصيات الذكور تتسم هي الأخرى بالسيطرة واستغلال المرأة واضطهاد بل يصل الأمر إلى حدود التحرش الجنسي كما حدث مع البطلة التي تواطأ أخوتها في مرة ثانية مع شباب آخرين على اغتصاب شقيقتهم/ بطلة الرواية التي لم تستطع حتى البوح بما حدث لها، ما يكشف عن طبيعة المعاناة الصارخة التي عاشتها المرأة في هذا الواقع الذي وجدت بطلة الرواية في المدرسة والقراءة ملاذا تهرب إليه من قسوة عالمه ورعبه. يطغى الجانب الحكائي على السرد من خلال حكايات الشخصيات التي عرفتها في طفولتها وأثناء الدراسة ما يجعل أحداث الرواية لاتنبني على السببية والاتصال بقدر ما تتصل بعمل الذاكرة واستحضار لشخصيات الماضي، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى تقديم مشاهد من الحارة التي عاشت فيها مقترنة ببعض شخصياتها التي غالبا ما تتسم بالعجز الجسدي والضعف، أو الظلم الاجتماعي وكأنها ترسم لوحات من ذلك العالم لكي نتعرف إلى عالمه وحيواته وصور الظلم القابعة فيه. ولاشك أن القارئ للرواية سيجد ثمة تباينا واضحا بين موقف البطلة من المكان والماضي الذي عاشته، فإذا كانت العلاقة كما لاحظنا تتسم بالتداخل في مشاعر الحب والكراهية، فإنها في نهاية الرواية تتخذ بعدا واحدا هو القباحة والقسوة والخوف وكأنها في استعادة ذكريات هذا الماضي وصوره قد انفتحت على عذاباتها التي عاشتها وعلى رعبها ومرارتها التي كانت ثاوية في أعماق النفس بفعل الزمن وهاهي توقظها من جديد لتكتشف مرارته وألمه وفجيعته “لقد امتلأت الذاكرة بالمياه الآسنة، عالم قبيح من الصور أمامي، صور قاتمة، أرى نفسي بين حشود تحاصرني، وأنا ضائعة، عارية مجردة من ملابسي يمارسون تعذيبهم عليّ ينتزعون شراييني بقسوة ويسبون دمي، هذه الصور المتكررة أراها دوما أخفيها بين تقاطيع هذا الوجه المتعب المنكسر”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©