الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حوار الهوية والانحطاط والعداء

حوار الهوية والانحطاط والعداء
26 مايو 2010 20:12
تساؤلات كثيرة حول ما جرى وما سيجري، حول الماضي والحاضر والمستقبل، وهل فعلاً أن مشروع المستقبل يتمخض عن ماضٍ أليم وقاس، وهل أن الاحتمال العقلاني المتنوع هو الحل الأوفر حظاً للمسألة العراقية التي تعني التاريخ والبنية السوسيولوجية المعقدة والتطاحن والصراعات الفكرية التي تعود في كثير منها إلى معتقدات تمحورت حولها الطوائف والملل والنحل. من هنا جاء مفهوم الاحتمال لما سوف يقع الذي هو نتاج المشاريع المتضادة والتي تأسست على مبدأ التناقض المنطقي والالتقاء الصعب الذي يتمحور الآن في إطار الصراع الدامي والدرامي بين الماضي والمستقبل في مجمل المشاريع المطروحة لفهم الواقع السياسي والاجتماعي العراقي . هذا هو المفهوم النظري الذي يبتدئ به الأكاديمي والمفكر العراقي ميثم الجنابي في كتابه ذي الأجزاء الثلاثة “فلسفة المستقبل العراقي.. معاصرة المستقبل” و”فلسفة المستقبل العراقي.. رهان المستقبل” و”فلسفة المستقبل العراقي.. زمن الانحطاط وتاريخ البدائل” والصادر حديثاً بطبعته الأولى عن دار الكتاب الجامعي والذي يصل إلى ما يقرب من 1300 صفحة من القطع الكبير. ويعد الدكتور ميثم الجنابي أستاذ العلوم الفلسفية في الجامعة الروسية في موسكو ورئيس مركز الدراسات العربية في الجامعة الروسية أحد أهم المنظرين في ميدان حركة الفكر والتاريخ العراقي الحديث، من خلال إسهاماته بكتبه المتعددة ومنها “علم الملل والنحل” و”التأليف اللاهوتي الفلسفي الصوفي 4 أجزاء” و”الإسلام السياسي في روسيا” و”الغزالي” و”الإسلام السياسي في جمهوريات آسيا الوسط” و”اليهودية الصهيونية في روسيا وآفاق الصراع العربي الصهيوني” و”حكمة الروح الصوفي”. وفي مستهل مقدمة عامة كتبها الجنابي للأجزاء الثلاثة يقول: “إن توحيد هذه الكتب الثلاثة في كتاب واحد يعكس مسار الأحداث التاريخية الهائلة التي رافقت الاحتلال الأميركي للعراق” ومما يبرر أن الكتب الثلاثة كتاب واحد هو ارتفاع العنوان الرئيسي “فلسفة المستقبل العراقي” متبوعاً بعناوين ثلاثة فرعية يحمل كل كتاب من الكتب الثلاثة واحداً منها، أي (الجنابي) قد تعامل أكاديمياً مع كيفية تنظيم الموضوعة بحيث لم يغفل الكل “العنوان الرئيسي” ولذا تبعه بالأجزاء، وكأن تلك الأجزاء الثلاثة أبواب ثلاثة في إطار حلقة واحدة تعاملت مع التاريخ والزمن بشكل عملي. الحادثة التاريخية صحيح أن ميثم الجنابي ـ وهذا من فضائل طروحاته النظرية ـ قد أغفل الحادثة التاريخية ولم يسجلها كبقية التاريخيين إلا أنه صار يعلق عليها ويربط فيما بينها من مؤثرات أفرزها واقع البنية الاجتماعية والسياسية وتحولاتها، لأنه يفترض قبل كل شيء أنه مفكر وليس تاريخياً، يتعاطى مع التاريخ بوصفه معطى مجرداً، لذا نراه يحفز الفكر الفلسفي على إعمال الذهن والحفر في دلالة الحادثة لا الحادثة نفسها كشكل واقعي. ولو قرأنا طروحة الجنابي في كتبه الثلاثة هذه لوجدناه خارجاً إلى الأحكام والقناعات الفكرية خلال تحليلاته النظرية مباشرة، وقد تكون تلك الأحكام والنتائج صادمة فعلاً، إلا أننا عند الدكتور ميثم الجنابي نعتبرها طبيعية لسبب بسيط أن الجنابي قد تخطى مرحلة إقناع القارئ إلى مرحلة عرض رؤاه التي جاءت حصيلة إعمال الفكر والتجرد عن العاطفة والموضوعية التاريخية، وكأنه بذلك يرى الطريق واضحاً دون الحاجة إلى دليل أعمى. ويطرح ميثم الجنابي تساؤلاً مهماً وهو: “هل العراق بحاجة إلى فلسفة تؤسس لمشروع مستقبلي؟” وأرى أنه يحاول أن يؤسس لهذه الفلسفة التي تجمع قراءة التاريخ والتحولات الفكرية والابستمولوجية في إطار مراحل زمنية متعددة. يقول الجنابي: “لقد خرج العراق في بداية القرن العشرين من تحت الانتداب البريطاني، وها هو اليوم يخرج في بداية القرن الحادي والعشرين من الاحتلال الأميركي للحصول على سيادته “الكاملة”، فبعد كل مئة عام يظهر له من يجدد له “دين” الاستقلال مرة و”دين” الديمقراطية مرة أخرى، مع بقاء السيادة الحقيقية مبتورة أو منقوصة أو مشوهة أو مهدورة”. وأظن أن المقارنة هنا منطقية فعلاً ما بين دخول/ خروج العراق في الانتداب البريطاني ودخول/ لا خروج العراق من الانتداب الأميركي بعد مئة عام، بالرغم أن المقارنة لا تزال غير قابلة للتطابق حيث الدخول المتشابه والخروج اللا متشابه، إذ يعني الخروج الأول استقلالاً بينما يعني الخروج الثاني عودة بوجه آخر، أي أن ما تحقق في الماضي لم يتحقق بعد في الحاضر وحتى لو تحقق فلن يضفي شيئاً على منطق التاريخ ولا يستطيع أحدهم تفسير الاحتلال أصلاً، هذا ناهيك عن أن تعاقب الثورات والحروب اللا منطقية يمكن أن تحصر كل 10 سنوات تقريبا وهنا علينا أن نقر بدراسة تحولات البنية الذهنية للإنسان العراقي ضمن هذه المدة. التأسيس المفقود ومن المنطق حقاً أن يرى الدكتور ميثم الجنابي في الاحتلالين الأول والثاني البدء من الصفر والحلم بالتأسيس المفقود والبحث عن السيادة الكاملة ومحاولته تفسير البدائل المتعاقبة رحيل العثمانيين ومجيء الإنجليز ورحيل البعث ومجيء الأميركان فهل ثمة تطابق هناك؟ ويناقش الجنابي بفكر واضح مفهوم المشروعين الأميركي والعراقي ومدى التعارض والتناقض فيما بينهما. يقول الجنابي: “لقد كان صعود المشروع الأميركي وهبوطه في العراق دليلاً على صعود وسقوط التوتاليتارية والراديكالية، ومؤشراً على خلل القوى السياسية جميعاً وتاريخنا الذاتي”. وفي الحقيقة بقدر ما يحتضن هذا الرأي جمالية في التحليل فإنه يكتنز أملاً في التوقع غير أن التاريخ العراقي أو لنقل تاريخ الحضارات كلها يقودنا للقول إنه لا يمكن أن تحصل أي امبراطورية منذ فجر الأمبراطوريات في العالم على هذا اللقب إلا بعد أن تطأ بجيوشها أرض العراق، هل أنا مخطئ في ذلك؟ لا أدري.. فمن الاسكندر المقدوني واحتلاله بابل والغزو الفارسي المتعاقب منذ فجر التاريخ ثم احتلال هولاكو لبغداد والامبراطورية العثمانية وتربعها على عرش العراق والامبراطورية البريطانية والامبراطورية الأميركية، نرى أن بغداد هي البقعة التاريخية التي تمنح شرعية لقب الامبراطورية لكل تلك الحضارات المتعاقبة، فإذا كان الأمر كذلك فإن التاريخ يعيد مفاصلة الحتمية من خلال ما يطلق عليه “بالحضارات المتقدمة” لسيادة العالم من خلال بغداد. يطرح الجنابي أسئلة كثيرة تثير المتلقي بل تجعله يطرح تساؤلات معكوسة وكأن الجنابي يصبح المجيب عن تساؤلات المتلقي. يبدو أن البحث عن فلسفة الاعتدال العقلانية هو الشغل الشاغل للدكتور ميثم الجنابي في محاولته تذليل مختلف أصنام المرجعيات من خلال تأسيس فلسفة المرجعية الثقافية. الهوية الوطنية يتناول الكتاب الأول (معاصرة المستقبل) مجموعة من الطروحات تضمنها الباب الأول من الدراسة وهو من هموم الهوية إلى معاصرة المستقبل حيث يقرأ الجنابي هموم الهوية في فصل ومعاصرة المستقبل في فصل ثانٍ والهوية العراقية حقيقة الحقائق في فصل ثالث ويقرأ في الباب الثاني العقلانية السياسية ـ مرجعية العلم والعمل ويتضمن الرؤية السياسية “التخرب لمرجعيات البناء العقلانية” في فصله الأول والراديكالية السياسية “هاوية الشك واليقين” في فصله الثاني والعقلانية السياسية “فلسفة الاعتدال الشامل” في فصله الثالث. وتتعدد أبواب الكتاب إلى 9 أبواب وخاتمة تتمحور حول التيارات الفكرية السياسية الكبرى وفلسفة البديل الشامل والخطاب السياسي “نقد الأوهام والأحلام” والعراق والمرجعية الوطنية والقومية والثقافية والعراق والغرب ونهاية الجمهورية وفلسفة المرجعية وإشكالية البدائل الثقافية والسياسية ومنظومة المرجعيات الثقافية الكبرى ومعاصرة المستقبل. يخلص الدكتور ميثم الجنابي عبر مسحه الفلسفي وتفكيك الآليات السياسية والاجتماعية والفكرية لبنية التحولات العراقية الكبرى إلى أن هناك مفارقات قد حصلت في التاريخ السياسي العراقي حيث انتهت بالإنسان العراقي إلى امتحان معقد، ومن طرافة التحقق أن يقارن ميثم الجنابي بين “البعث” كمفهوم لاهوتي وكتاريخ لحزب حكم العراق من جهة وبين “القيامة” كمفهوم لاهوتي وكتاريخ لأحزاب تحكم العراق الآن من جهة أخرى، وكأن مصير العراق الانتقال في إطار الفكر اللاهوتي “بمعناه المجرد” بين البعث/ القيامة. رهان المستقبل ويتحول ميثم الجنابي إلى قراءة رهان المستقبل وهو الكتاب الثاني الذي يتناول فيه من خلال 6 أبواب العراق وإشكالية الفكرة القومية والعراق وإشكاليات الفكرة الوطنية والدولة الشرعية البديلة والمجتمع المدني “من تذليل الهمجية إلى بناء المصالحة الوطنية” وفلسفة الثقافة البديلة وفلسفة التربية والتعليم. يرى الجنابي أن العمران المفترض في العراق هو ليس مجرد إعادة البناء، بل إنه لا ينبغي أن يوضع بمعايير ومقاييس “إعادة البناء” لأن ذلك يفترض بدوره العمل ضمن معايير ومقاييس الترميم بينما لاشيء يستحق الترميم في العراق. وضمن هذه المعطيات يرجعنا الجنابي إلى مفهومه في كتابه الأول حول أسس بنية التحليل الفكري للمسألة العراقية ضمن إطار كلي عام هو “الماضي والحاضر والمستقبل” الذي تحركت كتبه الثلاثة في إطارها التعاقبي أو الدايكروني. ويعتمد الجنابي على مفهوم غاية في الدقة عندما يناقش المصطلح السياسي أو الاجتماعي “فسيفساء” المجتمع العراقي من خلال مفهومي التوحيد/ التجزئة، وهي النظرية التي لا يمكن مناقشة بنية المجتمع العراقي دونها، فالعراق ـ بحسب الجنابي ـ ليس تجمع أعراق ففي وقت التنافر نجد الائتلاف وهذا ما نجده في تاريخه الثقافي المعاصر الذي يحفظ وبقوة هويته الوطنية. من هنا يتوصل الباحث إلى أن الهوية الوطنية ترتبط بالتاريخ الثقافي، وقد أضيف كقارئ للكتاب أن اللغة ليست معياراً قوياً ومؤثراً في الهوية الوطنية والدليل تعاضد لغات مختلفة في بنية المجتمع الذي نطلق عليه “المجتمع العراقي” من أكراد وعرب وآشوريين بلغات مختلفة وهوية وطنية واحدة وهو ما يؤكده الجنابي بقوة. عقلنة التاريخ ويتحصل الدكتور ميثم الجنابي على مثال غاية في الطرافة وهو تسمية “الكلداآشوريين” كونه اسماً جامعاً للكلدانية والآشورية باعتباره مؤشراً على عقلنة الرؤية التاريخية، وبالتالي ـ بحسب الباحث ـ على تنامي إدراك القيمة العملية لوعي الذات التاريخي، وهو أمر جلي في المحاولات الدائمة لإبراز الكلدانيين والآشوريين باعتبارهم السكان الأصليين للعراق وشرق سوريا وجنوب شرق تركيا. ويتعمق ميثم الجنابي في قراءة “زمن الانحطاط وتاريخ البدائل” وهو الكتاب الثالث والمكمل لسلسلة الكتب الثلاثة ليقرأ الراديكالية العراقية “زمن الانحطاط المستمر” حيث يناقش الراديكالية الدينية السياسية من خلال الظاهرة الصدرية لكونها راديكالية شيعية معاصرة من جهة والغلاة الجدد من جهة أخرى، ثم يتناول انحطاط القومية والوطنية والانحطاط الروحي من التوتاليتارية إلى الطائفية، وانحطاط النخبة السياسية وانحطاط الذهنية الاجتماعية والوطنية والإرهاب وتحطيم العدل والاعتدال والغلو الديني والعقائدي وفلسفة النفي العقلاني. ونقف عند هذا الحد في استعراض الكتاب الثالث لكي نترك للمتلقي قراءة ما فيه من طروحات جديدة وصادمة تفكك الواقع العراقي بكل مفاصله وبموضوعية عالية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©