الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شاعرة العفاف والجرأة

شاعرة العفاف والجرأة
28 مارس 2013 14:11
على الرغم من كل الجهود التي بذلتها لاختصار قصة الشاعرة العربية ليلى الأخيلية وحكاية قصيدة من قصائدها، إلا أن غنى وخصب حياتها وشعرها تجعلني مطالباً بالعودة لها مرة أخرى. ليلى الأخيلية كانت ظاهرة غير عادية في مجتمع تسيطر عليه الذكورة ولا يسمح للأنثى إلا أن تكون معشوقة.. أما عاشقة فهذا غير مقبول على الإطلاق ودونه الويل والثبور وعظائم الأمور. برزت ليلى الأخيلية مسلحة بجمالها الخارق والمثير، والذي اتفقت كل المراجع التاريخية أنه كان مبهراً، ومسلحة أيضاً بشخصية قوية شجاعة تجعلها تجالس الأمراء والملوك وتبادلهم الحديث دون رهبة أو خوف. أما السلاح الأخطر الذي كانت تخوض به بحر الحياة فكان الشعر. كانت ليلى الأخيلية شاعرة مجيدة لا تقل عن الخنساء، وإن كان بعض النقاد يقدمونها على الخنساء التي لم تشتهر إلا في الرثاء، وبالتحديد رثاء أخيها صخر. وهي ليست كبقية بنات القبيلة، تخفي حبها وتنكر عشقها حتى لا تتعرض لأذى الأهل واستنكار القبيلة، ولكنها على العكس من ذلك، تعلن حبها وتنظم فيه القصائد، وتكشف فيه عن حبيبها، وهو واحد من فرسان وشعراء قومها، ويدعى توبة بن الحُميِّر الخفاجي الذي يعد من شعراء العصر الأموي. كان الحب متبادلاً بين ليلى وتوبة. عبر كل منهما عن مشاعره بقصائد وصلنا منها عدد كبير، ولكن تلك القصائد انتشرت في زمنهما بين القوم وانتقلت من مكان إلى آخر بسرعة تكاد تضاهي سرعة الانتشار في عصرنا الحديث. تقدم توبة إلى والد ليلى يطلب يدها ليضع نهاية سعيدة لحبه، ولكن على عادة القبيلة، وحسب الأعراف السائدة فيها، يرفض الوالد هذا الزواج لأن قصة الحب ذاع أمرها وانتشر خبرها وصارت حديث القاصي والداني والصغير والكبير. حاول توبة وحاولت ليلى إقناع الوالد المتشبث بالعادات والتقاليد من دون جدوى، وكأن الحب حرام، والزواج القائم على الحب هو زواج مذموم يجلب العار لأهل البنت المعشوقة، بل إن المأساة تكبر عندما يقطع والد ليلى الطريق على ابنته وحبيبها توبة وذلك بموافقته على تزويج ليلى برجل آخر، لا تعرفه ابنته، ولم يسبق أن التقاها، وهذا كان كافياً للحصول على مباركة الوالد وموافقته. وهكذا تمت المأساة. تتزوج ليلى بمن لا تحب. ويهيم توبة بعد ذلك كما هام قيس. ولكن حتى بعد الزواج ظلت ليلى على مشاعر حبها. ولقد كان حبها لتوبة قبل الزواج عذرياً لا اتصال فيه ولا وصال، وظل بعد الزواج يسري في روحها وينساب في قصائدها، إلى أن انتهت حياتها، وهي تزور قبره كما روينا في الحكاية الماضية. بل إن قوم ليلى لم يتورعوا عن تقديم شكوى ضد توبة إلى الخليفة الذي قام بإهدار دمه. ومما يذكره بعض الرواة أن توبة قدم في إحدى المرات لزيارتها كالعادة، ليسمع منها وتسمع منه لا أكثر، ولكن حتى مثل هذه الزيارات كانت مستنكرة عند قوم ليلى، وما كان منهم إلا أن ترصدوا لتوبة ليقتلوه بعد أن أهدر الخليفة دمه، وكان من عادة ليلى أن تأتي إلى مكان اللقاء والبرقع يغطي وجهها فلا يرى توبة ذلك الوجه الجميل ولا يتحول الحب العذري بينهما إلى حب يدخل فيه الجسد كواحد من عناصره. وفي الموعد المحدد، وقبل أن يصل توبة إلى المكان المعتاد والمتفق عليه، يرى فجأة ليلى وهي قادمة للقائه من دون البرقع. لأول مرة يرى توبة وجه حبيبته ليلى، وقبل الوصول إلى المكان، مما جعله وهو الذكي الفطن ينتبه إلى وجود خطر على حياته، فيرجع من حيث أتى وينجو من مكيدة قوم ليلى وكان الفضل في ذلك للحبيبة التي عاش ومات من أجلها. وعلى الرغم من أن ليلى فارقت زوجها الأول، إلا أن أهلها ظلوا على رفض توبة مصرين، وزوجوها لرجل آخر ضد رغبتها لأن جمالها الباهر كان لا يسمح لها أن تظل بلا حماية رجل، فهذا الجمال هو نفسه الذي جعل زوجها الأول غيوراً إلى درجة لم يستطع فيها أن يظل زوجاً لها فطلقها، وبعض الروايات تقول إنه مات من الغيرة. أما زوجها الثاني فهو سوار بن أوفى القشيري، والذي كان يلقب بابن الحيا، وكان سوار شاعراً مخضرماً، ويُقال إنها أنجبت له العديد من الأولاد، وكان صبوراً ومدركاً لمدى حب ليلى لتوبة وقد سمح لها بزيارة قبره، تلك الزيارة التي كانت آخر عهدٍ لها بالحياة. في ذلك الزمان، كانت ليلى الأخيلية تفد كواحدة من شعراء عصرها على الخلفاء والأمراء، وحظيت بمكانة مهمة لديهم فمدحت ورثت ووصفت ونالت منهم العديد من الجوائز. وحظيت ليلى الأخيلية بإعجاب كثير من الشعراء والأدباء حتى إن الفرزدق كان يفضلها على نفسه، وامتدح شعرها أبو العلاء المعري، وحفظه عن ظهر قلب فيما بعد أبو نواس، كذلك أبو تمام كان يضرب المثل بشعرها. كان توبة بن الحمير الخفاجي يمت بصلة القرابة لها، وكانا معاً في سن الطفولة فلما كبرت ورآها توبة افتتن بها وبفصاحتها وأراد الزواج منها فرفض طلبه بعد أن شاعت قصة حبه لها وصارت حديث القبيلة، فزوجها أبوها من أبي الأذلع الذي كان يستشيط غيرة من زيارات توبة لليلى على الرغم من العذرية الواضحة في علاقتهما. وعلى الرغم من أن ليلى الأخيلية لم تقم بأي تصرف يسيء إلى سمعتها أو إلى أهلها إلا أنها عانت من الاتهامات الكاذبة والظالمة، ولكن قوة شخصيتها جعلتها تتحمل كل ذلك، وتفرض نفسها كشاعرة في الزمن الذهبي للشعر، وهو زمن بني أمية، ومما يروى أنها وفدت على الخليفة معاوية بن أبي سفيان ولديها قصائد عدة مدحته فيها، وقد نالت جوائز مهمة، وعندما سألها معاوية: ما الذي أعجبك بتوبة يا ليلى؟ أجابت: ـ توبة يا أمير المؤمنين سبط البنان، عذب اللسان، شجّاً للأقران، كريم المخبر، عفيف المئزر، جميل المنظر. ثم أنشدت قصيدتها التي قالتها في توبة وفيها: أتتــهُ المنايــا حــين تــــم تمامــــه وأقصــر عنــه كــل قــــرن يطاولــه وكان كليث الغــاب يحمــي عرينــه وترضـــى بـــه أشـــــباله وحلائلــه غضـوب حليـم حيـن يطلــب حلمــه وســـمٌّ زعــافٌ لا تصــــاب مقاتلــه وأمر لها معاوية بجائزة كبيرة. وتتعدد روايات المؤرخين حول مواقفها الجريئة، خاصة مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وزوجته عاتكة، وتؤكد تلك الروايات أن ليلى الأخيلية لم تكن في مدحها كغيرها من الشعراء المتكسبين بل كان لها شخصيتها التي تفرض احترام الخلفاء والأمراء لها، إلى درجة أن أحد جلساء الحجاج بن يوسف الثقفي، وهو أسماء بن خارجة الفزاري، قال لها هادفاً إلى إحراجها والغمز من قناتها: ـ أيتها المرأة: إنك تصفين هذا الرجل (توبة) بشيء لا تعرفه العرب عنه. ردت ليلى: هل رأيت توبة قط؟ قال الرجل: لا. قالت ليلى: والله لو رأيته لوددت كل فتاة شابة في بيتك حاملاً منه. تقول الرواية: فكأنما فقئ في وجه أسماء بن خارجة حب الرمان دلالة على مدى الخجل الذي أصابه، وكان يتمنى في تلك اللحظة لو انشقت الأرض وابتلعته. ولكن لا يعني هذا أنها كانت سليطة اللسان ولكنها كانت ترد بما يناسب المقال، فمن احترمها احترمته ومن أساء إليها لقي منها ما لا تمحوه الأيام والسنون. القصيدة التي نقدمها اليوم لليلى الأخيلية، هي إحدى رثائياتها لحبيبها توبة، وسبب هذه القصيدة هو وفاة أحد الرجال المهمين في عصرها، وطلب القوم منها أن تقوم برثائه، ولكنها ترفض ذلك، فبعد توبة لا يمكنها أن ترثي أحداً.. وكأن الرجال انتهوا بعده: أقســمتُ أرثــي بعــدَ توبــةَ هـالكاً وأحفـــلُ مـن دارتْ عليـــهِ الدوائــرُ لَعمْـرُكَ ما بالمـوتِ عارٌ على الفتـى إذا لـم تصبـه فـي الحيــاة المعايــرُ وَما أحــدٌ حَــيٌّ وإن عــاشَ ســـالماً بِأخلــدَ ممـــن غيبتـــــه المقابـــــرُ ومـا كان ممــا يُحـدِثُ الدّهـرَ جازعـاً فـلا بُـدّ يومــاً أن يُـرى وهــوَ صابــرُ وليسَ لِذي عيشٍ عنِ الموتِ مذهب وليــسَ علــى الأيــامِ والدهــرِ غابـرُ ولا الحيُّ ممـا يُحـدِثُ الدهـرَ معتـبٌ ولا الميـت إن لَـمْ يصبـر الحـي ناشـرُ وكـل شـــباب أو جديــد علـى بلــى وكـلٌّ امـرئ يومـاً إلـى اللــه صاـئـرُ وكـلُّ قرينـــــيْ إلفــــــةٍ لتفـــــرِّقٍ شـــتاتاً وإن ضنـــا وطــالَ التعاشُــرُ ولكنمـــا أخشــــى عليــــه قبيلــــةٍ أخـا الحـرب إن دارتْ عليــه الدوائــرُ فآليـتُ لا أنفـــكُّ أبكيــكَ ما دَعَـتْ علــى فنــنٍ ورقـــاء أوطــارَ طائـــرُ قتيـلُ بنـي عـوفٍ فيـــا لَهْفتـــا لَــهُ لهــا بــدروبِ الــرومِ بــادٍ وحاضـــرُ المراجع -1 الأغاني/ أبو الفرج الأصفهاني -2 لسان العرب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©