الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علم الاقتصاد: استعادة الثقة وإسكات المنتقدين

23 ابريل 2018 02:19
«أخبار مزيفة»، هذه هي التهمة التي دأب الرئيس دونالد ترامب على توجيهها بشكل روتيني إلى منافذ الأخبار الرئيسية، التي تنشر أخباراً يفضل عدم سماعها. لذلك عندما يحتج الاقتصاديون، ويشكون من التجديف والشعوذة التي يمكن أن تسود بين الممارسين المحتملين لعلم الاقتصاد، ألا يعني هذا أن رد فعلنا الأولي يجب أن يكون هو إبداء القليل من التشكك في تهمة الاقتصاد المزيف؟ أليس الاقتصاد كما هو معروف مهنة عازلة، عانت من التصدع، وسعت مؤخراً فقط للملمة صفوفها؟ يؤسفني القول بأن الأمر ليس كذلك. صحيح أن الأكاديميين، قد واجهوا رد فعل عنيف، في صورة سيل من الاتهامات، بداية من الاتهام بأنهم فشلوا في توقع الانهيار الاقتصادي. بعد ذلك امتدت الاتهامات لتتراوح الآن بين مزاعم مؤداها أن الاقتصاديين يجب أن يتعلموا المزيد من التاريخ، ويستخدموا صيغاً في الجدل الاقتصادي، أقل أيديولوجية، وأكثر اهتماماً بما يدور في «العالم الحقيقي». وفي الواقع، فإن العديد من أفضل الاقتصاديين والمعلقين قد جادلوا بالقول إن الاقتصاد الذي وصفوه بـ«العلم الكئيب»، يحتاج إلى عملية إعادة تفكير جذرية. من هؤلاء على سبيل المثال «مارتن وولف»، من «فاينانشيال تايمز»، والذي كتب في الآونة الأخيرة ملخصاً رصيناً عن أوجه القصور الرئيسية في حقل الاقتصاد. لكن الانتقادات الموجهة للاقتصاد، فتحت الباب، في الواقع، لوجهات نظر اقتصادية بديلة، لا تستند إلى أساس أكاديمي يذكر. وكما قال «بيير كاهوك» و«أندريه زيلبربيرج، وهما اقتصاديان فرنسيان، في كتابهما المحرض على التفكير الصادر عام 2016، فإن الضغط المضاد الذي يمارس على الاقتصاد قد ذهب بعيداً، وإن النظريات والسياسات ذات الدوافع الاقتصادية الصرفة التي تقف وراء هذا الضغط، باتت توصف، على نحو متزايد، بأنها سليمة، وأنها قد بدأت بالفعل في إملاء الأجندة السياسية. وقارن كاهوك وزيلبربيرغ هذه النظريات بنظريات المهندس الزراعي الروسي «تروفيم ليسينكو» الذي ادعى أيام جوزيف ستالين أن نظرياته تدحض علم الوراثة، الذي أسسه «مندل»، لكنها عندما وضعت موضع التطبيق، أدت إلى مجاعات واسعة. وقد وجِدت ادعاءات عديدة من تلك النوعية. فلدينا مثلا الادعاء القديم القائل بأن تقليص أسبوع العمل، سيؤدي لزيادة نسبة التوظيف. في مايو 2016، كرست المجلة الأكاديمية الفرنسية «الترناتيف إيكونيميك» (الاقتصادات البديلة)، عدداً كاملاً لمناقشة هذا الموضوع، كان عنوانه الرئيسي «لماذا بات تقليص ساعات العمل أمراً ضرورياً؟». إحدى المقالات التي احتوى عليها العدد ذكرت أنه بين عامي 1997 و2001، أدى قرار صادر من الحكومة الفرنسية برئاسة رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان إلى خلق مليوني فرصة عمل جديدة. ومع ذلك، كما أظهر كاهوك وزيلبربيرج، لم تكن هناك أي إشارة في ذلك العدد إلى الكتابات التي دبجت حول هذا الموضوع. كما توصلت ثلاث دراسات رئيسية عن ألمانيا وكندا وكيبيك، إلى نفس النتيجة، وهي: إن تقليل ساعات العمل لا يؤدي بالضرورة إلى توفير المزيد من فرص العمل. يقودنا هذا بالطبع إلى نتيجة مؤداها، أنه حتى الإجماع الثابت بين خبراء الاقتصاد يمكن أن يعتريه الخطأ. لكن ما يحدث في الواقع هو أن العديد من الاقتصاديين الذين يصوغون نظريات غير تقليدية للغاية، يفعلون ذلك دون أي تدقيق تقريباً. وهؤلاء الاقتصاديون يتجنبون في صياغاتهم النظرية الأساليب البحثية الثابتة في هذه المهنة. فهم، مثلا، لا ينشرون مثل هذه النظريات في المجلات المنافسة، بحجة أنها عادة ما تكون متحيزة ضد أعمالهم. والحقيقة أن حقل الاقتصاد بشكل عام أكثر انفتاحاً على مجموعة متنوعة من وجهات النظر، أكثر مما يقره منتقدوه، بيد أن الانفتاح هذا يعني في الوقت ذاته، ضرورة إخضاعهم لدرجة من الصرامة عند مناقشة نظرياتهم، لا يبدو معظم هؤلاء العلماء المنشقين مستعدين لتحملها. وزيادة كم الآراء الاقتصادية، المتسرعة، والمشكوك فيها، والتي لا تقوم على دليل، لن يكون أمراً أقل إثارة للقلق، إذا ما اقتصر تداول مثل هذه الآراء، على النقاش الفكري العام فحسب، ولم تدخل حيز التنفيذ. فالحقيقة هي أن هذه الآراء لم تعد كذلك. فعلى سبيل المثال، نجد أن الرئيس دونالد ترامب، قد بدأ حرباً تجارية مع الصين، بعد نصيحة تلقاها من «بيتر نافارو»، الرئيس القوي لمجلس التجارة القومي بالبيت الأبيض. وفي حين أن نافارو خبير اقتصادي حقيقي حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاقتصاد من جامعة هارفارد، ونشرت أعماله في المجلات الأكاديمية المتخصصة وخضعت لما يعرف بعملية «مراجعة الأقران» لمراجعة عالم أو أكثر من العلماء المتخصصين في نفس المجال –إلا أن الحقيقة هي أن معظم إنتاجه العلمي يتعلق بموضوعات مثل اقتصاديات الطاقة، وهو موضوع ليس له علاقة بموضوع التجارة الذي يقدم عنه المشورة للرئيس. وبطبيعة الحال، يقوم الاقتصاديون بإخبار صناع السياسة بشكل روتيني بالموضوعات التي لم ينشروها. لكن بما أن نظريات «نافارو» تعارض بشكل جذري الجزء الأعظم مما تدافع عنه المهنة، فإنه ربما كان من الأفضل والأكثر ملاءمة له لو كان قد نشر بعض النتائج التجريبية لنظرياته في مجلة علمية، قبل تطبيقها على العالم الحقيقي. والاقتصاد المزيف، يحقق تقدماً في أوروبا أيضاً. ففي إيطاليا مثلا، وهي الدولة التي نشر كل من كاهوك وزيلبربيرج كتابهما المشار إليه آنفاً فيها، نجد أن حركة «النجوم الخمس» وحزب «رابطة الشمال»، وهما حزبان شعبيان فازا بما يقرب من نصف الأصوات في الانتخابات العامة الأخيرة، باتا يجتذبان خبراتهما الاقتصادية من الأصوات المناهضة للمؤسسة: أحد مستشاري حزب «رابطة الشمال» مثلا، جادل بأنه إذا تركت إيطاليا اليورو، فستحتاج فقط إلى إغلاق البنوك لبضعة أيام، وهي فكرة يجدها معظم الاقتصاديين مضحكة نظراً للحاجة إلى فرض ضوابط رأسمالية عديدة، لتجنب حدوث انهيار في البنوك، في مثل هذه الحالة. والحقيقة أن التيار الرئيسي في علم الاقتصاد، قد استجاب بشكل أفضل مما يعتقده الكثيرون، لاتهامات ما بعد الأزمة. فمثلا نجد أن البنوك أصبحت تظهر بشكل بارز في الدراسات الأكاديمية، أكثر مما كانت تفعل قبل عقد واحد فقط من الزمن. وفي الحالات التي لم يغير فيها الاقتصاديون أساليبهم، فإن ذلك كان يحدث عادة لأسباب مناقضة تماماً لم كان يفترضه العديد من النقاد: فالتخلص من بعض التقديرات، أو الافتراضات، يتطلب صيغاً أكثر تعقيداً، مما نراه في المجلات الأكاديمية هذه الأيام، ما يعني أن الاقتصاد كان سيصبح أكثر ميلاً نحو علم الرياضيات وليس أقل. إذن ما الذي يجب فعله لإيقاف توجه العالم نحو علم الاقتصاد السيئ؟ يقول كاهوك وزيلبيربيرج، إن وسائل الإعلام لها دور حاسم يمكن أن تلعبه في التمييز بين الباحثين المؤهلين أكاديمياً، وبين المجادلين الذين لا يملكون إلا القليل من الخبرات التي يمكن أن تدعم أفكارهم، وأن الصحفيين يجب أن يتأكدوا عندما يتحدثون مع اقتصاديين حول موضوع ما، أنهم يتحدثون مع خبراء «حقيقيين». ليس هناك شك أيضاً، في أن وسائل الإعلام يمكن أن تلعب دوراً أفضل في التمييز بين النظريات الاقتصادية، التي تمت تجربتها واختبارها، وبين التكهنات التي تستند على القليل من الأسس الأكاديمية. مع كل ذلك، يجب على التيار الرئيسي من الاقتصاديين، بذل المزيد من الجهد للدفاع عن مهنتهم في ساحة النقاش العام. بداية، يجب على هؤلاء الاقتصاديين أن يكونوا أكثر وضوحاً حول ما يمكن أن تقوله النظريات الأكاديمية، وما لا يمكنها قوله. إن التنبؤ بالاقتصاد الكلي أمر صعب للغاية، لأن النماذج عادة ما تكون أقل قدرة على التنبؤ، مما يجرؤ الاقتصاديون على الاعتراف به. وحينما تكون الأفكار قوية، فإن الاتصالات تغدو أمراً في غاية الأهمية: ففي حين تحتاج معادلة اقتصادية إلى ألف كلمة في ورقة أكاديمية، فإن التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، يتطلب عادة مقاربة أقل تقنية بكثير. الأهم من ذلك، ينبغي أن يواصل التيار الرئيسي من الاقتصاديين العمل، من أجل تحسين علم الاقتصاد، من أجل استعادة ثقة الجمهور. فليست هناك طريقة لإسكات المنتقدين، أفضل من التوصل إلى نظريات قادرة على النجاح في الواقع العملي. *كاتب أميركي متخصص في شؤون الاقتصاد الأوروبي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©