الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العيدية بدأت ذهباً وانتهت ورقاً في مصر

العيدية بدأت ذهباً وانتهت ورقاً في مصر
23 سبتمبر 2009 00:32
عندما تثبث رؤية هلال شوال تحمل أول أيام عيد الفطر فرحة للصائمين وغبطة العيدية النقدية للأطفال، الذين يحرصون على أخذها من الآباء والأجداد والأقارب، وتلك العيدية واحدة من العادات التي رسختها التقاليد والمظاهر الفاطمية، ولم يستطع مرور الأيام وتغيرات النقود النيل منها أو القضاء عليها. وتدين العيدية بظهورها كحق لموظفي الدواوين لسياسة الخليفة الفاطمي، المعز لدين الله، في الترغيب والترهيب والمعروفة في التاريخ بذهب المعز وسيفه. فعندما كثر اللغط حول حقيقة انتساب خلفاء الفاطميين الى بيت النبوة، وكثر الطعن في نسبهم، قرر الخليفة المعز أول خلفاء الفاطميين بعد انتقالهم الى مصر أن يواجه المشككين في صحة نسبه، فعمد الى جمع من المصريين في جامع عمرو بن العاص، وخطب فيهم طالباً من كل فرد ألا يتدخل فيما لا يعنيه، وأن يتوقف عن القيل والقال، ثم عرج الى قضية نسبه لآل البيت، وعوضاً عن أن يجادل الذين كتبوا رقعة له يسألونه فيها أن ينسب نفسه الى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يدخل في النسب الواسع الى آدم وحواء، أخرج المعز لدين الله في يده اليمنى حفنة من الدنانير الذهبية ونثرها فوق رؤوس الحضور قائلاً: هذا حسبي، ثم أخرج سيفه من غمده، ورفعه فوق رأسه صائحاً: وهذا نسبي. وقد أثبتت الأحداث التاريخية أن الفاطميين بمصر أحسنوا استخدام ذهب المعز بأكثر مما استخدموا سياسة السيف، إذ لم يدعوا مناسبة دينية تمر الا وجعلوا لها رسماً توزع معه الأعطيات النقدية تارة، والعينية تارة أخرى، بما في ذلك المناسبات الدينية لأقباط مصر. ففي عيد الفطر كان الخلفاء يوزعون على الفقهاء وقراء القرآن الكريم بمناسبة ختم القرآن ليلة العيد مقادير مختلفة من الدراهم الفضية، مع كسوة العيد التي توزع على أرباب الوظائف بالدولة، ومعها مبالغ من دنانير الذهب، تختلف بحسب رتبهم الوظيفية، وتعرف تلك النقود الذهبية باسم العيدية نظراً لارتباط الحصول عليها بالعيد. والاهتمام الأكبر بالعيدية كان في عيد الأضحى، لأنَّ عيد الفطر كان يعرف لدى الفاطميين بعيد الحلل أو الكسوة، وقد رصدت لرسوم العيدية في عام 515هـ وخلال خلافة الأمر بأحكام الله، ووزيره المأمون البطائحي، ثلاثة آلاف وثلاثمئة وسبعة من الدنانير الذهبية. وكان «ذهب المعز» حاضراً أيضا عندما يذهب الناس الى قصر الخليفة الفاطمي صبيحة العيد للتهنئة، إذ كان الخليفة يطل عليهم من منظرة بأعلى باب القصر لينثر عليهم الدراهم الفضية والدنانير الذهبية، وهناك دنانير ذهبية كانت الدولة الفاطمية تضربها عند رأس كل سنة هجرية وتعرف في الوثائق الفاطمية باسم دنانير الغرة «غرة العام»، وهي دنانير كاملة الاستدارة وتضرب بحجم أكبر ووزن واف باعتبارها نقوداً تذكارية يحصل عليها كبار رجال الإدارة على سبيل التشريف، إذ لم تكن مخصصة للتعامل بها في الأسواق. أما في خميس العهد أو العدس، وهو أحد أعياد الأقباط في مصر، التي كان المصريون جميعا يحتفلون بها كمناسبة قومية، فكانت الدولة الفاطمية تضرب قطعاً ذهبية صغيرة تعرف باسم الخراريب، ومفردها الخروبة وتزن أقل من 2 من عشرة من الجرام، وقد جرت العادة على ان توزع الخراريب على موظفي الدولة والأمراء بلا تمييز، وهو ما يعني أن هذه العيدية من العملات التذكارية المختلفة وكانت لأعياد المسلمين والنصارى على حد سواء. وقد نجحت الخلافة الفاطمية في تنفيذ سياسة «ذهب المعز» بفضل سيطرتها على طرق تجارة الذهب مع غرب افريقيا، وتذكر المصادر التاريخية أن المعز لدين الله عندما غادر تونس باتجاه القاهرة في عام 361هـ حمل في رحلته من المهدية، الى جانب توابيت أجداده، ثروة ذهبية هائلة سبكها على هيئة رحى الطواحين الضخمة لتوضع على رواحل الجمال. والى جانب الذهب الافريقي توسع الفاطميون في استغلال المصادر المحلية المتاحة للحصول على الذهب في مصر، فأعادوا افتتاح مناجم الذهب القديمة في وادي العلاقي والصحراء الشرقية ووادي الطميلات، ونظموا عمليات التنقيب في مقابر الفراعنة بحثا عن الذهب، أو ضبط أنشطة المغامرين الذين عرفوا آنذاك بالمطالبين، فعينوا لهم مشرفا من قبل الدولة عرف باسم أمير المطالبين وكانت مهمته مراقبة أعمال التنقيب التي ينبغي الحصول على ترخيص مسبق بها نظير التعهد بدفع الخمس «20 في المئة» مما يعثر عليه من ذهب لدار الضرب. وكان أمير المطالبين من وجوه الدولة وبلغ من ثرائه أنه كلف بتجيهز حملة عسكرية شاملة تحركت لاستعادة سيطرة الفاطميين على مدينة حلب. وقد أتاحت هذه الكميات الكبيرة من معدن الذهب للدولة الفاطمية أن تلتزم بدفع الرسوم أو العيديات في أوقاتها، ولم تتوقف عن ذلك الا في أخريات أيامها عندما اضطربت الأحوال الداخلية بسبب الغزو الصليبي لبلاد الشام وأطراف مصر الشرقية، ونتيجة للنزاعات الداخلية بين الوزراء وقادة العسكر من المغاربة والسودان والأتراك. وجاءت خاتمة الفاطميين بمصر على يد صلاح الدين الأيوبي لينهي دور «الدولة» في توفير وصرف العيدية أو الرسوم لأرباب الوظائف المدنية، واكتفت الدولتان الأيوبية والمملوكية بصرفها للجنود من المماليك وبصفة خاصة في عيد الأضحى مثلما كان الحال في زمن الفاطميين. وكثيرا ما تعرض بعض سلاطين المماليك لاعتداءات الجند بسبب قلة أو تأخر نفقة العيد، وربما أدى تذمر المماليك الى عزل السلطان عند عجزه عن إرضاء رغبات مماليكه. وحافظت الأوقاف على تقليد العيدية بحكم العادة التي ألفها المجتمع المصري منذ عهد الفاطميين فكانت وثائق أوقاف المدارس والمساجد تنص على زيادة رواتب العاملين بتلك المنشآت من مدرسين وأئمة وقراء ومؤذنين في العيدين، أي عيد الفطر وعيد الأضحى. فيما يعرف بالتفرقة أو التوسعة بل إن بعض المدارس كانت شروط الواقف بها توفر جعلا ماليا للطلاب في العيدين وان لم يعرف هذا الجعل باسم العيدية. أما النقود التي كانت تصرف بها العيدية فكانت محصورة في ثلاثة أنواع هي الدنانير الذهبية والدراهم الفضية ولها أجزاء من الأنصاف والأرباع وأخيرا الفلوس النحاسية. واعتبر المسلمون تقليدياً أن الدنانير والدراهم هي وحدها النقود الشرعية المعتبرة، بينما كانوا ينظرون الى الفلوس النحاسية باعتبارها عملات مساعدة تستخدم فقط لشراء التوافه من الأشياء، ولا يصح التعويل عليها كنقد شرعي نظراً للفارق الكبير بين قيمتها الاسمية وقيمتها الجوهرية كنحاس محتقر. الا ان مجموعة من الكوارث والمحن ألمت بمصر في عهد الفاطميين أدت الى ارتفاع الأسعار وانهيار قيمة العملات أكثر من مرة، مما دفع بالقادرين الى اكتناز الذهب وصحت بالتالي قاعدة جريشام التي تقول إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول، إذ طردت الدراهم الفضية دنانير الذهب من التعامل اليومي الى الاكتناز في قصور الأثرياء. وقبل أن ينتصف عمر دولة المماليك فعل الفلس النحاسي بالدرهم نفس الفعلة فكان الجزاء من جنس العمل، فاختفت الدراهم الفضية وصارت الفلوس النحاسية هي السائدة في التعامل حتى أن الشخص الذي كان يقع في يده دينار من الذهب الأحمر، كان حسبما يقول المقريزي، كمن جاءته البشارة بالجنة، وبهذه الفلوس النحاسية كانت تدفع «التوسعة» أو العيدية في أيام المماليك. وأخيرا حمل القرن التاسع عشر الى مصر النقود الورقية التي قوبلت في بداية الأمر بقدر من التشكك رغم أنها بدأت كصكوك ورقية يمكن تحويلها الى دنانير ذهبية في أي وقت بضمان بنك بريطاني هو البنك الأهلى المصري. وتركت «العيدية» الفاطمية أثرها بدرجة أو بأخرى على المجتمع المصري عبر الأزمان حتى استقر الأمر على ان يتحمل المسؤولون عن الأسر الكبيرة والصغيرة أعباء دفع العيدية للصغار لإدخال البهجة إلى قلوبهم في عيد الفطر، واللافت للنظر أن البنك المركزي المصري يحرص قبل العيدين على تزويد منافذه بأوراق البنكنوت الجديدة والتي يزدحم المصريون عليها لابدال الأوراق النقدية القديمة بأخرى جديدة لا لشيء سوى لدفع العيديات بهذا الأوراق الجديدة لعل ذلك يعوض حقيقة قيمتها المادية الضئيلة بقيمة معنوية مستمدة من جدة الأوراق ورائحة حبر المطبعة بها.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©