الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أفول ما بعد الحداثة

أفول ما بعد الحداثة
1 يناير 2014 21:31
يكاد يتفق جميع النقاد الثقافيين والمؤرخين على أن اللحظة الحاسمة لظهور ما بعد الحداثة ارتبطت بطريقة أو بأخرى بظهور المجتمع ما بعد الصناعي. لقد اكتسب هذا المصطلح أهمية استثنائية منذ أن ظهر لأول مرة في كتاب المفكر المحافظ دانييل بيل (المجتمع ما بعد الصناعي القادم)، يشرح فيه بيل، أن التغير حدث في التحول من مجتمع الإنتاج والبضائع إلى مجتمع الخدمات وقطاع الاتصالات والمواصلات في النصف الثاني من القرن العشرين، ويقول: «إن ما يهم في المجتمع ما بعد الصناعي هو السلطة والسيطرة وليس ملكية وسائل الإنتاج». ويمكن وصف معظم اقتصادات الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية باقتصاد مجتمع ما بعد الصناعي، وذلك لأنها أصبحت تعتمد وبشكل متزايد على قطاع الخدمات ووسائل الاتصال والمواصلات والشركات المالية. ويلاحظ توزيع الشركات الصناعية الكبرى لمصانعها خارج الأراضي الأوروبية والأميركية في آسيا وأفريقيا واعتماد نمط الصناعات التجميعية. بينما ترتبط أعلى مراحل الحداثة من الناحية الصناعية والاقتصادية بـ (الفوردية) نسبة إلى شركة فورد، يرتبط مجتمع ما بعد الحداثة بـ (ما بعد الفوردية)، وهو تعريف آخر للمجتمع ما بعد الصناعي. وفي هذا السياق يؤكد الباحث كريشان كومار أن المجتمعات الغربية انتقلت في الثلث الأخير من القرن الماضي من المجتمعات الـ ما بعد الصناعية إلى مجتمعات المعلومات والمعرفة والتكنولوجيا. ويؤشر ظهور مجتمع المعلومات بالسعي إلى أتمتة مكاتب العمل التي أصبحت خالية من الأوراق ومجهزة بأجهزة الحاسوب المتطورة والشبكات الداخلية وشبكات الإنترنت، كما تمت أتمتة المصانع وتناقص الحاجة إلى أعداد كبيرة من العمال في الخطوط الإنتاجية. ويشير الباحث في مجال وسائل الإعلام الحديثة روبرت حسن إلى أن من أهم مظاهر التحول من المجتمع ما بعد الصناعي إلى مجتمع المعرفة والتكنولوجيا والمعلومات هي السرعة الفائقة. ويوضح حسن أننا نعيش في لحظة تاريخية أصبح فيها التغيير سريعاً جداً إلى درجة أننا لا نكاد ندرك الحاضر إلا بعد أن يختفي ويصبح ماضياً. كما أن السرعة التي أخذت تتحول فيها الابتكارات في مجال تكنولوجيا المعلومات من مجرد فكرة إلى جزء أساسي من حياتنا اليومية أصبح لها أثرها العميق على تجربتنا للزمان والمكان. سؤال المجتمع كان لانتقال المجتمع الغربي من مرحلة التصنيع إلى المجتمع ما بعد الصناعي الأثر الحاسم في ظهور ما بعد الحداثة وانتشارها الواسع. وها هو التقدم التكنولوجي الحاصل على صعيد وسائل الاتصال الجماهيري والإنترنت والنشاطات التفاعلية التواصلية، يسهم في إسدال الستار على ما بعد الحداثة ويعلن عن نهايتها. يؤكد الباحث آين آنج في كتابه (حروب غرفة المعيشة) الصادر عام 1996 على أن انتشار التلفزيون كان من المؤشرات المهمة على مرحلة ما بعد الحداثة. فقد وظفت البرامج التي تعرض من خلال شاشة التلفزيون جميع خصائص وتقانات ما بعد الحداثة مثل: التنوع والاختلاف والتعددية والتناص والمعارضة الأدبية و النوستالجيا واللامركزية والإبهار البصري والنزعة الاستهلاكية والتسليعية. ويمكن عدّ التلفزيون التجسيد الأكثر وضوحاً وحضوراً، في التجربة الحياتية للفرد في مرحلة ما بعد الحداثة، لمقولات بودريلار عن المحاكاة والواقعية الفائقة، حيث يتلاشى الواقعي شيئاً فشيئاً، ويتم استبداله بتيار من الصور والرموز التي لا تحيل إلا على نفسها ولا ترتبط باشتراطات الواقع الخارجي. ومثلما ارتبط التلفزيون والقنوات الفضائية بمرحلة ما بعد الحداثة، ارتبطت التطورات التكنولوجية الهائلة في مجال الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية بنهاية مرحلة ما بعد الحداثة وبداية مرحلة جديدة أطلق عليها الناقد الثقافي البارز (آلن كيربي) اسم (الحداثة الرقمية)، بينما وصفها الباحث روبرت صموئيل (بالحداثية الآلية أو التلقائية). ويتفق الباحثان على أن الثورة الكبيرة التي شهدتها مجالات التكنولوجيا الرقمية قد ساهمت في التغيير الراديكالي للعالم الذي نحيا فيه، كما أنها لعبت دوراً حاسماً في الطريقة التي نتفاعل بها مع هذا العالم من حولنا ومع بعضنا بعضاً كذلك. منحت تلك التكنولوجيا قدراً أكبر من الاستقلالية والسيطرة للفرد، وغيرت من تصورنا لمفاهيم أساسية مثل الزمان والمكان، وبذلك تغيرت أنماط تمثيل ذلك الواقع عما كانت عليه في مرحلة ما بعد الحداثة. لقد أتاح الإنترنت إمكانيات تفاعلية غير محدودة سمحت بظهور نمط جديد من الصحافة والشبكات الإخبارية أصبح يعرف بـ (صحافة المواطن). يشير الباحث (دان غيلمور) في كتابه (نحن الإعلام) الصادر عام 2004 إلى أن صحافة المواطن تتيح للفرد العادي والذي لا يعمل في مجال الصحافة والإعلام بالتحول إلى مراسل حر يقوم بنقل الخبر من خلال الوسائل التفاعلية المكتوبة، أو المسموعة أو المرئية دون الحاجة إلى الانتماء إلى مؤسسات إخبارية وإصدار هوية التعريف وتراخيص التصوير أو نقل الحدث. تحول المتلقي العادي من مستهلك للصور والرموز إلى مستهلك ومنتج في الوقت ذاته، من خلال ما يعرف بالمدونات ورفع تسجيلات الفيديو القصيرة على مواقع متخصصة، مثل (اليوتيوب). كما ساعد الفضاء الافتراضي للإنترنت على تحقيق فكرة هابرماس عن (الفضاء العمومي) وتجسيدها على صعيد الممارسة الحياتية الفعلية. خلقت مواقع التواصل الاجتماعي فضاء تفاعلياً واسعاً يلتقي فيه الفاعلون للتحاور والنقاش وتبادل الآراء بالاعتماد على بلاغة الإقناع واستراتيجيات المحاججة والبرهان بعيداً عن الممارسات الخطابية التي تهيمن على الفضاء الاجتماعي التقليدي، والتي تقوم على علاقات القوة والسلطة مقابل المعرفة، كما وصفها فوكو، يلتقي الأفراد بشكل حر تماماً على شبكة الإنترنت ويدخلون في علاقات تفاعلية لا تقيم للخلفية الاجتماعية ولا لمحددات الجنس والعرق والدين والطبقة وزناً يذكر. سؤال الفرد والهوية كان لتبدل الهياكل الاجتماعية التقليدية وتغيير نمط العيش في المجتمعات الغربية أثره الكبير على الفرد والهوية الفردي، وطبيعة الإدراك للتجربة الإنسانية داخل إطار الزمان والمكان. يشرح جيمسون في دراسته الشهيرة (ما بعد الحداثة والمجتمع الاستهلاكي) التأثيرات الهائلة التي تركتها التحولات الجذرية في البنية الاجتماعية، بعد الحرب العالمية الثانية على الفرد، حيث يشير إلى أن مفهوم الفاعل الفرد قد انتهى. فهو يقول: «كان هناك شيء، كالتميز الفردي والفاعل الفرد، أما اليوم، وفي عصر الرأسمالية المتحدة والبيروقراطية في العمل، وعصر الانفجار السكاني، فلا وجود لذلك الفاعل الفرد البرجوازي القديم الذي كان». لقد أعلنت ما بعد الحداثة موت الإنسان بوصفه ذاتاً عاقلة وفاعلة ومنتجة تتمتع بالوعي الذاتي وبالسيطرة والإرادة. محيت الهوية الفردية أمام القوة الهائلة للاستهلاك في المجتمع ما بعد الحديث. أصبح الاستهلاك مدعوماً بماكينة إعلانية وإعلامية ضخمة، حتى أن بودريلار في كتابه (نظام الأشياء) أصر على أن الاستهلاك أصبح من أهم خصائص النظام الجديد. ويرى روجيه غارودي أن الاستهلاك أصبح تعويضاً وهمياً عن تلاشي الحياة الواقعية وفوضى التجربة الإنسانية في المجتمع ما بعد الحديث، وتفريغ لما يولده العمل في المجتمع المعاصر من إنهاك جسدي ونفسي شديد. نجح الإعلام عبر النشاطات الإعلانية والدعائية في ربط مفهوم الهوية الفردية والموقع الاجتماعي ووسائل الإدراك الذاتي بقيم الاستهلاك والإنفاق، ولم يعد ما يميز الفرد من مقومات شخصية، مثل الإنجاز والقدرات الشخصية، مهماً بقدر «الصورة الاجتماعية» للفرد داخل الجماعة، وقد تمكن الإعلام من الإمساك بمحددات تلك «الصورة الاجتماعية» التي يسعى الفرد للوصول إليها وتقمصها لاكتساب مكانة أو سلطة مادية أو معنوية معينة، وصار قادراً على ابتكار وتحديد تلك «الصورة» من خلال آليات الموضة والذوق العام، بما يتلاءم واستراتيجيات التسويق الاستهلاكي. وهذا ما يذب إليه بودريلار، عندما يتحدث عن الكيفية التي أصبح من خلالها النشاط الاستهلاكي يلعب الدور الأبرز في تحديد الهوية الفردية داخل المجتمع أكثر من الطبقة الاجتماعية، وهكذا حلت النشاطات الاستهلاكية محل الطبقة في تحديد هوية الأفراد في المجتمع بعد الحديث. بدأ المجتمع ما بعد الحداثي في تداول «صورة مزيفة» عن الذات والهوية الفردية مرتبطة بالسلعة وبالقدرة الشرائية. وأصبحت القوة والسلطة داخل الفضاء الاجتماعي تُعرف بوصفها القدرة على الإنفاق الفائق وتقمص نمط حياة معين من خلال شراء السلع الاستهلاكية المرتبطة بأسلوب الحياة تلك عبر عمليات التزييف الصوري. ودخلت في عملية التزييف هذه منظومة كاملة من المفاهيم والتصورات المرتبطة بالفرد وتحقيق الذات، مثل السعادة والجمال والقوة والترفيه والمغامرة وتغيير الواقع والحرية. ولم يعد الاستهلاك مرتبطاً بوظيفة أو فائدة أو القيمة الحقيقية للسلعة الاستهلاكية، وإنما بالصورة التخيلية التي يضفيها امتلاك السلعة على الهوية الفردية وطريقة نظرة الآخرين ضمن الفضاء الاجتماعي المشترك. يقلب الناقد الثقافي نايجل واطسون المقولة الديكارتية الشهيرة «أنا أفكر، إذن أنا موجود» والتي شكلت الأساس الذي قامت عليه الحداثة الفكرية والفلسفية في الغرب، إلى «أنا أتسوق، إذن أنا موجود». يشرح عالم الاجتماع البولندي البارز زيغمونت باومان بشيء من التفصيل مواصفات الفرد المستهلك في حضارة ما بعد الحداثة فيرى أنه فرد قليل الصبر وسريع الإحساس بالملل، لا يتمسك بشيء لفترة طويلة، يتنقل بين الأشياء والسلع بسرعة كبيرة، يربطه بالسلعة نوع من الالتزام المؤقت والذي سرعان ما يزول. لقد حلت الرغبة في الاستهلاك محل الحاجة الحقيقية للسلعة في نفسه. ويقول باومان أن على السلعة إشباع رغبة المستهلك، ولكن يجب أن يكون هذا الإشباع مؤقتاً وسريعاً، لتتكون داخل المستهلك رغبة تجاه سلعة جديدة. وهكذا ينتهي الفرد في مرحلة ما بعد الحداثة فصامياً فاقداً للمصداقية والشعور بالصدق، تائهاً بلا هدف وممزق الشخصية في عالم سطحي يدور حوله متخماً بالصور المعادة والجديدة، ومحروماً من الوي التاريخي والإدراك التفسيري، لديه حنين قوي للماضي، ولكن لا سبيل أمامه لاستعادته إلا بوصفه معارضة أدبية، أو من خلال عبث عشوائي كما يحدث في عالم الموضة والأفلام الهوليودية. سؤال اللغة والمعنى يقول دي سوسير بوجود نظام داخلي في كل لغة ينظم عملية التفاعل بين عناصر وأجزاء تلك اللغة. يمكن فهم آليات التواصل البشري اللغوي من خلال الثنائية المتقابلة اللغة/ الكلام. ويقوم نظام اللغة على مفهوم العلامة، حيث تتكون العلامة من الدال/ الكلمة والمدلول/ المفهوم أو التصور الذهني، والذي يشير بدوره إلى الشيء في الخارج. ويعد ارتباط الدال بالمدلول في النظام اللغوي عشوائياً يتم التواطؤ والاتفاق عليه داخل المجتمع اللغوي. ويعمل هذا الاتفاق الضمني الاجتماعي على وضع مجموعة من القواعد والمعايير لتوظيف اللغة لضمان تحقق عملية الفهم والتواصل وعدم الوقوع في العشوائية المطلقة. وبذلك يتحقق نوع من الاستقرار النسبي للغة ولعمليات إنتاج وتداول المعنى. وتنظر البنيوية إلى اللغة بوصفها نظاماً من العلامات يعمل على توفير ردود أفعال يمكن التنبؤ بها داخل المجتمع اللغوي الواحد. ما رفضته ما بعد البنيوية هو الانغلاق والصرامة النظرية للبنيوية، حيث إن لكل ظاهرة نظاما، ولكل نظام قواعد محددة وصارمة لا تتغير بتغير الزمن أو السياق التاريخي. فبالنسبة لليي شتراوس وفلاديمير بروب ورولان بارت، في مرحلته البنيوية، لا يوجد عنصر اعتباطي داخل النظام. وتنتقد ما بعد البنيوية نزعة البنيوية الوثوقية وعدم أخذها بعين الاعتبار إمكانية الصدفة والإبداع وغير المتوقع. وفي هذا السياق، يأتي مشروع دريدا التفكيكي الساعي نحو الكشف عن لا استقرارية اللغة والنظام بصورة عامة، ورفض فكرة أنه يمكننا السيطرة على النظام، وعلى الطبيعة ككل تبعاً لذلك، فلا يمكننا، حسب دريدا، التنبؤ بنشاط العلامة، ولا يوجد أي ارتباط نهائي قار وثابت لضمان إشكاليات التواصل من خلال اللغة. فزلات اللسان والأخطاء تحدث دائماً، وللكلمات تاريخ وظلال من المعاني والسياقات السابقة التي وُظفت فيها، وحتى على المستوى الصوتي هناك بعض الأصوات التي تحمل إيحاءات مختلفة لمتلقين مختلفين. طرح دريدا مفاهيم مثل الاختلاف والتأجيل والإرجاء بدلاً من المفاهيم البنيوية المتعلقة بالثبات والاستقرار والتكرار اللانهائي للنمط. فدريدا يؤكد وجود لا نهائية ولا تحديد في موروث المعنى. وهكذا تكتسب اللغة، كما يقول دريدا، طاقات لا نهائية لتوليد المعاني الجديدة وللإبداع. ويتلاشى المعنى المحدد والمستقر في اللحظة التي يتم فيها إنتاج الخطاب سواء عن طريق التلفظ أو الكتابة، ويأخذ بالتحول في كل مرة يُوظف فيها ذلك الخطاب وعند كل متلق جديد، ينتقد دريدا الفلسفة الغربية لاعتقادها بإمكانية (حضور) المعنى كاملاً ونهائياً في عقل المتكلم، وأن هذا المعنى ينتقل ليستقر في (الخطاب) وينتقل كما هو إلى المتلقي. وهذا ما يدعوه دريدا (بميتافيزيقيا الحضور). يرفض دريدا فكرة ميتافيزيقيا الحضور، ويذهب إلى أن إنكار وجود نوع من الإزاحة في المعنى ما هو إلا محض وهم نميل إلى الأخذ به بتأثير الثقافة الإنسانية. ذلك أن الاختلاف والتأخير دائماً ما يقع للمعنى ويعطل الحضور الكلي. وبذلك أصبح التأكيد على الاختلاف والتأجيل والمعنى غير القابل للتحديد والاكتمال داخل النظام من المبادئ الأساسية لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. ومن هذا المنطلق صدر الفيلسوف البراغماتي الأميركي البارز ريتشارد رورتي، متأثراً بمقولات دريدا التفكيكية، في طرح تصوره للنشاط التأويلي الذي يمارسه المتلقي على النصوص. فعلى العكس من مقولات الفيلسوف السيميائي الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو المتعلقة بوجود ضوابط جمالية وتأويلية يفرضها النص على المؤول، يأخذ رورتي بالفلسفة التفكيكية. وهكذا يصبح المعنى الحقيقي للنص هو لا معناه، أو هو فراغه من المعنى. وتصبح مهمة التأويل الكشف عن حقيقة أن النص ليس إلا مكاناً لالتقاء المتضادات لأنه لا يستطيع أن يؤكد معنى ما دون أن يناقض نفسه. ويرى رولان بارت أن المعنى يظل في عملية انزلاق إلى ما لا نهاية، ولن يكون بإمكاننا سوى التمتع بما يثيره النص في خيلتنا من إيحاءات ومن تداعيات. ولذلك يؤكد تزفتان تودوروف على أن التأويل هو (نزهة) في النص. شن دريدا في كتابه الشهير (النحوية) الصادر عام 1967، هجوماً على كل من دي سوسير وهوسرل ومقولاتهم المتعلقة باللغة، يؤكد دريدا أنهما يسلمان بشكل مسبق بفلسفة الحضور، ولذلك فإن تصوراتهما عن اللغة ترتبط بالتركيز على الكلام، ينقل دريدا الكتابة من الهامش إلى المركز ويقصي الكلام من مركزيته في تاريخ الفكر الغربي. وبغياب الذات المتكلمة يمكن نقض مفهوم الوحدة والتماسك والوضوح، لتتحول النصوص من خلال عملية الكتابة إلى نصوص مفتوحة بلا نهايات محددة لها تعوم الدوال وتتحرر من الربط القسري الميتافيزيقي بمدلولات محددة وثابتة. وبذلك يتجاوز دريدا فينومينولوجيا هوسرل، أو بعبارة أخرى يدفع بها إلى حدودها القصوى. مأزق ما بعد الحداثة مع بدايات التسعينيات من القرن العشرين بدأ يظهر بوضوح التململ من النموذج الثقافي لما بعد الحداثة، فقد طرح ذلك التيار الفكري والثقافي الراديكالي من الإشكاليات أكثر بكثير مما استطاع تقديمه من حلول لمأزق الحداثة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وتراكمت التناقضات التي أفرزتها ما بعد الحداثة لتصل إلى نقطة حرجة أصبح معها من البديهي إقامة الحلقات النقاشية والمؤتمرات العلمية واستطلاعات الرأي بين المثقفين والباحثين والمختصين في محاولة لوضع بعض الحلول الاجتماعية والثقافية للمشكلات التي برزت في تلك اللحظة التاريخية من الرأسمالية المتأخرة. أن الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والكوارث الطبيعية التي توالت في العقدين الأخيرين من الرقن العشرين، وما نتج عنها من هجرات جماعية وتغيرات ديموغرافية كبيرة، والتطورات الهائلة في مجالات العلوم وتكنولوجيا الاتصالات، جعلت ما بعد الحداثة جزءاً من المشكلة نفسها، وليست وسيلة للحلول وتجاوز الأزمات. ونتيجة لكل تلك التداعيات تنامى الشعور باليأس والإحباط من ما بعد الحداثة، وبدأ السعي الاجتماعي والثقافي لتجاوزها والمضي قدماً. في عام 1990 نشر الباحث وليام تي فولمان مقالاً قصيراً بعنوان (الكتابة في أميركا اليوم: تشخيص المرض) ذكر فيه أن الألعاب اللغوية والتقانات التي روجت لها ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية أدت بالنتيجة إلى إفراغ الكتابة السردية من أي قيمة أو وزن يذكر. ومثلما عد النقاد والمعلقون الثقافيون المؤتمر الذي أقامته جامعة جون هوبكنز بالتيمور في أميركا عام 1966 تحت عنوان (لغات النقد وعلوم الإنسان) وحضره كل من لوسيان غولدمان وتودوروف وجاك لاكان وجاك دريداً، اللحظة الحاسمة لانطلاقة التفكيكية على وجه الخصوص، وما بعد البنيوية على وجه العموم، اتفق الجميع على أن اللحظة الحاسمة التي تؤشر الانعطافة نحو بعد ما بعد الحداثة تمثلت في المؤتمر الذي دعت له الباحثة البارزة (هايدي زيغلر) والذي عقد في (أغسطس) من عام 1991 في مدينة شتوتغارت في ألمانيا تحت عنوان (نهاية ما بعد الحداثة). تضمن المؤتمر سلسلة من الحلقات النقاشية حضرها إيهاب حسن ومالكوم برادبري وريموند فيدرمان وجون بارث ووليام غاس. ونشرت الأوراق المقدمة إلى المؤتمر في كتاب حمل عنوان (موت ما بعد الحداثة: اتجاهات جديدة) صدر عام 1993، كان الهدف من المؤتمر القيام بمراجعة أخيرة لما بعد الحداثة من أجل تجاوزها نهائياً وإلى الأبد. وقبل مؤتمر شتوتجارت صدر عام 1990 كتاب للبروفيسور البارز (وليام سبانوس) بعنوان (الحداثة/ ما بعد الحداثة: دراسة في الفن والأفكار في القرن العشرين) تساءل في: «ألم يحن الوقت بعد للسؤال عن ماذا كانت ما بعد الحداثة؟». وفي عام 1993 أجرى الروائي والناقد الأميركي ريموند فيدرمان استطلاعاً شمل عشرين كاتباً وروائياً أميركياً ما بعد حداثي اتفقوا جميعهم على أن الثقافة الغربية المعاصرة قد تجاوزت نهائياً مرحلة ما بعد الحداثة. في عام 1996 صدر كتاب الناقد الفني البارز (هال فوستر) بعنوان (عودة الواقعي: الطليعية عند منعطف القرن) كشف فيه عن نهاية ما بعد الحداثة وتراجعها بوصفها حركة راديكالية في الثقافة والأدب والفن. وبعدها توالت الدراسات والكتب والمؤتمرات التي سعت إلى الكشف عن ملامح المرحلة الجديدة القادمة والتأكيد على أن ما بعد الحداثة لم تعد تعبر عن الواقع الثقافي والاجتماعي المعاصر. كان من أبرز أسباب نهاية ما بعد الحداثة وتجاوزها منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين استهلاك تقاناتها وجمالياتها، والتي كانت تعد طليعية ومغايرة وصادمة، من قبل الثقافة الشعبية ونمط الحياة اليومي ووسائل الإعلام والإعلان. فقد أكد الناقد ريموند فيدرمان على أن ما بعد الحداثة قد لاقت حتفها على يد نفس المجتمع الاستهلاكي الذي بشرت به وسعت إلى خلقه. وشخصت الباحثة الألمانية زيغلر السبب وراء نهاية ما بعد الحداثة في أنها لم تعد تمثل أو تعبر عن سياسات الاختلاف والتي حظيت بمكانة محورية بارزة في فكر تلك الحركة، وذلك لأن المجتمع المعاصر كان قد تحول بالكامل إلى مجتمع ما بعد حديث بسبب النزعة الاستهلاكية ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيري. لقد أصبحت الحداثة الجديدة الطليعية هي الاختلاف والتمايز عن ما هو سائد وشعبي. لم تستطع ما بعد الحداثة تجاوز ذاتها وانكفأت على نفسها من خلال النزعة الانعكاسية الذاتية والنرجسية المفرطة والنوستالجيا الذي حولت التاريخ إلى سلسلة من الذكريات المشتتة والغير مترابطة. إذ عندما يعيش الإنسان في الماضي لا يعود له مستقبل. ويتساءل البروفيسور سبانوس عن المدى الذي استطاعت فيه ما بعد الحداثة بانعكاسيتها وإحالاتها الذاتية وتناصاتها ومساءلتها للأنماط والأنظمة التقليدية التحرك لتحدث أثراً أو تغيراً في العالم الواقعي. ويضيف سبانوس، لقد تحولت ما بعد الحداثة إلى سلعة تجارية يتم تسويقها وتوزيعها لغرض الربح المادي والتجاري، وذلك من خلال وسائل الإعلام والجامعات ومراكز البحوث التي أنتجت أعداداً كبيرة جداً من الكتب حول هذه الظاهرة. وفي النهاية أصبحت هناك مؤسسة كبيرة جداً في المجتمع تدعى ما بعد الحداثة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©