الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مهمات رسولية في حضارة مادية

مهمات رسولية في حضارة مادية
18 يناير 2008 22:19
يتناول الكاتب والناقد السعودي الدكتور سعد البازعي، أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن في ''جامعة الملك سعود'' بالرياض، في دراسة له عنوانها (المكوِّن اليهودي في الحضارة الغربية)، الدور الذي لعبه عدد من المفكرين والشعراء والفلاسفة اليهود في تاريخ الحضارة الغربية ابتداءً من القرن السابع عشر حتى اليوم، أولئك الذين لم يفقدوا ولاءهم العرقي والديني· ضمن هذا الإطار أبرزت الدراسة التأثير المتعاظم لدور الجماعات اليهودية في مختلف مناطق أوروبا وأمريكا الشمالية على مستويات ثقافية مختلفة، متناولة أعمال عدد من المفكِّرين والعُلماء والمبدعين الذين تركوا أثراً بالغاً في تطوُّر الحضارة الغربية وصار ـ هذا التأثير ـ جزءاً من نسيجها في الوقت الذي عبَّرت أعمالهم عن هموم وتطلُّعات الجماعات اليهودية التي ينتمون إليها· وعبر نماذج وردت في ثنايا الدراسة نقرأ على ألسنة بعض المثقَّفين والمبدعين والعلماء اليهود هذه الاقتباسات: يقول الشاعر الألماني هاينريش هاينه: ''إن اليهود هم بالفعل مخلوقون مما خلقت منه الآلهة، تراهم اليوم يداسون بالأقدام وغداً يُعبدون، وبينما يزحف بعضهم في أكثر طين التجارة قذارة، يسمو البعض الآخر إلى قمم الإنسانية''· أما الروائي ورئيس الوزراء البريطاني في القرن التاسع عشر بنجامين دزرائيلي، فيقول : ''وفي هذه اللحظة، ومما لقيه من تحقير على مدى القرون، على مدى عشرات القرون، يمارس العقل اليهودي تأثيراً واسعاً في شؤون أوروبا، إنني لا أتحدَّث عن قوانينهم التي ما زلتم تطيعون، أو أدبهم الذي تشربته أذهانكم ولكن عن العقل العبري الحي''· بينما يذهب عالم النفس النمساوي الشهير سيغموند فرويد إلى القول: ''لأنني يهودي وجدتُ نفسي متحرراً من الكثير من التحيُّزات التي ضيقت على الآخرين وحدَّت من قدراتهم على استعمال عقولهم، وبوصفي يهودياً كنت مهيئاً للمعارضة، وللعمل من دون موافقة الأكثرية المتضامنة''· هذا يعني أنه كان من اليهود في أوروبا كان الشاعر والعالِم والفيلسوف ورئيس وزراء، وكان لكل واحد منهم حضوره اللافت، ففي الاقتباس الأول يتحدث بنجامين دزرائيلي بلسان شخصية رئيسة في روايته ''كوننغزبي'' عن التأثير الواسع الذي استطاع اليهود تحقيقه بعد عشرات القرون من التحقير، ونلاحظ أن ذلك التأثير ليس مقصوراً على مجالات فكرية أو عقلية، وإنما هو منتشر ليشمل مختلف شؤون الحياة الفكرية والدينية في أوروبا· أما ما يتعلَّق بكارل ماركس المولود في بروسيا ''ألمانيا حالياً''، فإن بعض المفكِّرين والنقاد يرون كما يورد الدكتور البازعي أنه اتكأ على الموروث اليهودي في بعض أعماله، حيث كان ماركس مسكوناً بهاجس الإصلاح الرَّسولي، أي مسؤولاً عن إصلاح البشرية جمعاء، وهذه في تقدير الناقد الأمريكي شتاينر سمة لليهود الذين أنتجوا رُسلاً كثيرين يهدفون إلى إصلاح العالم، وقد ناضل ماركس وزميله إنجلز من أجل إصلاح عالم يسوده الظلم الطبقي، ورسما معالم عالم جديد يؤدي فيه ذلك الظلم وما يتصل به من صراع حتمي إلى سيطرة الطبقة العاملة ''البروليتاريا''، وتحقيق العدالة للمظلومين، وملاحظة شتاينر حول الطابع الرَّسولي الغاضب ذي الجذور اليهودية في الماركسية، أبداها أحد المؤرِّخين في القرن العشرين ذلك هو أرنولد تويني في كتابه الشهير ''دراسة التاريخ'' حيث يقول: يتمثل الإلهام الديني اليهودي المميز للماركسية في الكشف الرؤيوي عن ثورة عنيفة محتَّمة ستقلب الأدوار الحالية للبروليتاريا والأقلية المهيمنة قلباً عنيفاً يحمل الشعب المختار، بقفزة واحدة، من أسفل السلَّم إلى أعلاه في مملكة هذا العالم، لقد اتخذ ماركس الحتمية التاريخية محل يهوه لتكون إلاهته المهيمنة، ومملكته الرَّسولية تشكل ديكتاتورية البروليتاريا''· أما صاحب نظرية التحليل النفسي فرويد فقد ولد لعائلة يهودية هاجرت لأسباب اقتصادية من مورافيا الواقعة في تشيكيا واستقرت في فينا عاصمة النمسا، وحسب رؤية فرويد لقضية الانتماء اليهودي فإنه لم يتردد في الإشارة إلى ذلك الانتماء في فترات ومواضع مختلفة، وهو واضح في بعض تلك الإشارات، كما في تقديمه لنفسه في سيرته الذاتية: ''كان والدايَّ يهوديين، ولقد بقيت أنا يهودياً''· ونجد نصوصاً أخرى مهمة للتعرُّف على طبيعة الانتماء اليهودي لعالم النفس الشهير عبر رسالة بعث بها إلى أحد أصدقائه عام 1926 حيث يقول: ''لستُ متأكداً من صحة نظرتك إلى التحليل النفسي بوصفه نتاجاً مباشراً للعقل اليهودي، ولكن إذا كان ذلك فلن أشعر بالخجل، فعلى الرغم من أنني اغتربت عن دين أسلافي لزمن طويل، فإنني لم أفقد تضامني مع شعبي وأدرك بارتياح أنك تعد نفسك تلميذاً لرجل من العرق الذي أنتمي إليه''· يتضح مما سبق أن إحدى السمات الرئيسة المحركة والضابطة للهوية اليهودية هي الشعور بالاختلاف، اختلاف اليهودي عن غيره من الأغيار، ولم يكن ذلك الشعور حيادياً أو ديمقراطياً بطبيعة الحال، فقد كان يصحبه في الغالب الشعور بالتفوُّق أو التميز علماً بأن ذلك لم يخل لفترات طويلة من الشعور بالتأزم، وهو شعور إن أفضى حيناً إلى الدُّونية، فإنه أدى، في أحيان كثيرة، إلى مزيد من الشعور بالتفوُّق·
المصدر: الرياض
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©