الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتابة وفتنة الموت

الكتابة وفتنة الموت
3 يناير 2008 00:27
الكتابة والغياب صنوان· عندما أتكلّم أنفي وجود ما أقول، لكنني أنفي وجودي أيضاً''· هكذا يحدثنا موريس بلانشو معبّراً عن وعيه الحادّ بأن التسمية محو وارتماء في أحضان الغياب· فالكلمة تنوب عن الواقع لكنها ليست الواقع· إنها بديله الذي يبعدنا عنه· وبذلك تصبح الإقامة في عالم الكلمات منفى· فما بين عالم الكلمات وعالم الموجودات ثمّة فراغ مدوّخ· هذا ما يجعل من الكتابة هجرة من عالم الموجود إلى عالم المتصوّرات الذهنية· وهذا ما يحوّل الكتابة الإبداعية إلى ترحال بمحاذاة الفراغ والعدم· أن تكتب معناه أن ترتمي في أحضان الغياب وتراود حتفك، لأن للكلمات فتنةً لا تعادلها عنفاً إلا فتنة الموت· داخل هذه المنطقة الموحشة ستفتتح الكتابة لدى بلانشو مجراها· منذ شبابه المبكّر سينشر كتاب ''الأدب وحقّنا في الموت''· وسيحدّث عن الكتابة باعتبارها صنو الانتحار البطيء· ومثلما عاش باطاي مأخوذاً بفكرة الجنون· قضى بلانشو العمر كلّه مفتوناً بفكرة الغياب والموت· فلقد ولد سنة ·1907 ومنذ أبصرت عيناه النور صار الموت رفيق دربه· كان معتلاّ دائماً يحيا في منطقة الخطر وبمحاذاة الموت· وهو يحدّث عن الموت باعتباره رفيق الدرب الأمين· فيكتب: ''لا يكون الموت قريباً أبداً· إنه دائماً بعيد أبعد ما يكون· إنه التجربة المستحيلة· لذلك يضفي الموت هشاشة لا متناهية على الكاتب· فوحده الكاتب يعاشره كرفيق درب''· غير أن الموت سيمهل بلانشو طويلاً· فلقد توفي سنة 2003 بعد أن بلغ 95 سنة بالتمام· حتى لكأن المفكّر الذي فتنه الموت نجح في تدجينه وإرجائه إلى حين· لكن الموت كان دوماً حاضراً يتخطّف رفاق دربه من أمثال باطاي، وآرطو، وليفيناس، وشار، وآرغون، وفوكو الذين شيّعهم جميعاً ورأى في رحيلهم الموت ضارياً· وسواء قرأنا رواياته ومنها: ''توماس الغامض''، و''الأكثر علوّاً''، أو قرأنا كتبه النظرية ومنها: ''نصيب اللهب''، و''الفضاء الأدبي''، و''كتاب المستقبل''، و''كتابة الكارثة''، فإننا سنجدها مأهولة بهذا البرق: دفع الكلمات والفكر والعلاقة بينهما إلى النهايات، هناك حيث تستدرج الكلمات الكاتب إلى منطقة الغياب· وهذا ما يجسّده المقطع التالي من رواية ''توماس الغامض'': ''يجلس توماس مستغرقاً في القراءة· الذين دخلوا ورأوا كتابه مفتوحاً دائماً في الصفحات ذاتها ظنوا أنه يتظاهر بالقراءة·· كان كل منهما ينظر إلى الآخر: الكلمات الخارجة من الكتاب تلبّست بقوة هائلة وصارت تمارس على بصر توماس جذباً لطيفاً مسالماً· كان كلّ منهما مثل عين نصف مغمضة· كان يستمتع برؤية نفسه في تلك العين التي تنظر إليه·· أدرك وقتها وحشية أن تراقبك كلمة كما يراقبك كائن حيّ· لم تكن كلمة واحدة هي التي ترمقه، بل كل الكلمات المتراصّة في تلك الكلمة· وهي بدورها تحتوي على كلمات أخرى مثل سرب لا متناه من ملائكة تتجلّى· رفض أن يشيح بوجهه معتقداً أنه مازال يقرأ في حين كانت الكلمات قد استولت عليه وشرعت في قراءته''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©