الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

25 عاما من الغياب

25 عاما من الغياب
17 يوليو 2008 02:49
لم يكن أمل دنقل، ذلك القادم من الصعيد الأعلى بمصر، وما يحمله ذلك الصعيد من أثقال عنفٍ وثأر، وبدايات تقدّم ملتبسة·· لم يكن إلا بداية صدى ذلك الصعيد ورجْعه وحنينه وصدقه حدّ عري النصل ومضائه· والذي سيكون رافداً من روافد الشعر المصري والعربي، تأسيساً على تلك الخصائص والمناحي ذات النزوع الحرّ، الكاشف والحاد؛ رغم تمركزه في جملة وايقاع تفعيلييّن، ذلك الايقاع المتاخم لأفق النثر والمخترق لرحاب حريته المتعدّدة المشارب والمصبّات· فليس ثمة وقار الوزن ونصاب نظامه المسبق المتداول؛ هناك لعب من نوع آخر، مفتوح على الحياة بأشلائها وحطامها اليومي والرمزي في هذا الشعر· لم يكن أمل دنقل بعدّته تلك، وهواجسه وانفلاته أمام إيقاع المدينة القاهري المتراكم والمقولب في نواح شتى، منذ أزمنة بعيدة في الكتابة والذاكرة، لم يكن، في ظل المناخ الثقافي والشعري المهيمن، أن ينصاع، ويتبنى عناصر ذلك المناخ وأجوائه ومعطياته، كان عليه بالضرورة العضويّة وبطبيعة تكوينه وأصالته الابداعية والفطريّة، أن ينشقّ ويمرق عن مركب الثقافة الرسميّة وغير الرسميّة، ويكون ذلك الصعلوك النموذجي الصاخب حتى في صمته، وهو يجول في ليل هذه المدينة المتموّج بالجمال والأصدقاء والتناقضات والأحلام المجهضة، التي بدأت تأخذ شكلاً آخر في مخيّلته ووجدانه·· وهو إذ يذرع ليل القاهرة مع يحيى الطاهر عبدالله ونجيب سرور وغيرهم من ذلك الجيل المنكوب بالألم الاجتماعي والوجودي··· أستطيع الآن، أن أتبيّنهم في الضوء الخافت للغياب، مع رفاق لهم يحتلون أرصفة العالم في آصرة روحيّة، أن أتبيّن أحذيتهم وهي تفركش ليل المدن بالرفض والسخرية والتدمير؛ متأملين الجمال ونقيضه والقيم التي بدأت تعممها عهود الانحطاط العربي· وذلك الصدق الخبيئ المتواري خلف حجاب الألم والمعاناة اليوميّة للبسطاء والهامشيّين· كان أمل دنقل يحاول الغَرْف من طين المدينة ودخانها ومخلوقاتها، ومن ذاكرته الصعيديّة الشرسة ومن التاريخ، طبيعة ''مشروعه'' الشعري الذي سيكونه لاحقاً·· لم يكن دنقل في رحلته من الصعيد الأعلى إلى القاهرة على قلة أدواته الثقافية والمعرفيّة، في ذلك العمر المبكر والذي سيقصفه الموتُ على نحو مبكّر أيضا، مصدوماً بهذه المدينة المدهشة كما جرت العادة عند كثيرين، وإنما اتخذ منذ البداية موقفاً صِداميا يصل حدّ العدوانيّة، رابطاً قيم المدينة وعناصرها المتغيّرة بأبعادها المصريّة والعربيّة، رائياً عبر أقنعته وأساطيره ما سيؤول إليه الوضع العربي، من رعب وانحدار تتواضع أمامه أعتى المآسي في التاريخ وأكثرها هولاً؛ والتي لم تكن فترة (أمل) إلا النُّذر الأولى إن لم نذهب بعيداً في التاريخ، لهذا الدَّرْك الذي وصلت إلى قعره هذه الأوضاع بتشعباتها وأماكنها المختلفة· كان الواقع واستشراف القادم، يضغطان على أعصابه وخياله، أكثر من أي شيء آخر؛ فكان ديوانه الأول عبر قصيدته الشهيرة ''زرقاء اليمامة'' بما يشبه الصرخة الشعريّة الأولى: ''أيتها العراّفة المقدّسة جئت إليك مثخناً بالطعنات والدماء أزحف في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدّسة مكسر السيف مغبّر الجبين والأعضاء''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©