الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خيول الريح ·· بحث عن الهوية على شواطئ الخليج

خيول الريح ·· بحث عن الهوية على شواطئ الخليج
17 يوليو 2008 02:41
المسرح له اشتراطاته وقوانينه ومدارسه ونظرياته، وكلها تشتغل على اللامألوف أو المألوف الذي يصبح لا مألوفاً· هنا تنهض الحكاية بكل رموزها لتقدم مصحوبة بديكور وسينوغرافيا تضيف لأجواء تلك الحكاية تمثلاً لتجعلها قريبة من المتخيل· نعم إنها لعبة المتخيل لكي يكون حقيقة، وربما يشعر الجميع، الممثلون، الجمهور والكادر الآخر المختفي من فنيين وإدارة إنتاج أنها لعبة كان قد اتفق على قواعدها· يقول عبدالفتاح كليطو في مقالة مشهورة له اسمها ''لعبة القوانين السردية'' إن لاعبي الشطرنج، وشرطي المرور وسائق الحافلة والمشاة، ولاعبي كرة القدم والحكم والجمهور، جميع هؤلاء يلعبون لعبة سردية تمتلك قوانينها التي يعرفها لاعبوها والمتفرجون عليها حتى أن تلك القوانين متى ما اخترقت يتعالى الاحتجاج·· وباختصار، ما يريد تأكيده عبدالفتاح كليطو أن للسرد قوانينه، فالتالي لا يصح تقديمه والمتقدم لا يصح تأخيره، ومن هذه الرؤية النقدية الذكية لقوانين السرد لا بد أن نفترض أن ساحة الكرة، وساحة الشطرنج وساحة الإشارات الضوئية وساحة المسرح مجال للعبة اتفق على قوانينها من أراد أن يشارك أو يشاهد صنعها· سلمان كاصد ما المقنع في هذه الألعاب جميعاً· نعم نحن بقدر التزامنا بهذه القوانين التي تتحكم في كل لعبة تمارس ضمن ساحة معينة فإن كسر تلك القوانين هو لذة النص· من هنا يعمد ومن داخل هذه القوانين لاعب الكرة أن يخرج عنها وهو فيها بمهارته، وكذلك لاعب الشطرنج أن يخرج عنها وهو فيها بمهارته، والسائق البارع الذي يضبط توهج الإشارة الضوئية ويتحفز للانقضاض عليها وهو محكوم فيها، كذلك الممثل البارع والمخرج الماهر الذي يلعب مع جمهوره وفق كذبة افترضها فجعلها واقعاً، وفي نهاية اللعبة يخاطب جمهوره عندما يعود بين أحضانهم ليقول لهم إنها مجرد لعبة سردية اتفقنا على قوانينها ولا بد لها أن تنتهي في هكذا تصور· افتراضات ساحة المسرح تحتمل افتراضات كثيرة لكن أن يقدم المخرج الكويتي ناصر كرماني لعبة داخل لعبة في مسرحيته ''خيول الريح'' على مسرح أبوظبي في كاسر الأمواج باستضافة نادي تراث الإمارات مع فرقة مسرح خورفكان للفنون لهي دليل على افتراض حدثين معاً وفي زمانين مختلفين، الزمان الأول هو الماضي والآخر هو الحاضر وأما الحدثان فأولهما ما يشكل الحقيقة والآخر ما يشكل التخيل والوهم· ''خيول الريح'' مسرحية أجاد في تقديمها ثلاثة مبدعين من الإمارات وهم عبدالله سعيد بدور ''مهدلي'' صاحب المقهى وراوي الحكايات الجميلة، وجمال الجسمي بدور المؤلف الذي يبحث عن قصة يكتبها، ومحمد الصم الحكيم الذي يمتلك مفاتيح قصة ما تربطه مع المؤلف عبر والد الأخير· نص ''خيول الريح''، من تأليف وإخراج ناصر كرماني وهو مأخوذ عن قصة للقاص العراقي محمد خضير بعنوان ''ساعات كالخيول''··· وتدور أحداثها في مدينة الفاو جنوب العراق·· أما خيول الريح ولبراعة كرماني غيب المكان فجعله في أي بقعة من ساحل الخليج الممتد، كما يردد الممثلون في النص المسرحي من البصرة حتى مسندم· بلا ديكور المسرح خال من الديكور تماماً، ثمة عمق له في الداخل وظاهر له في الخارج عند حافته وما بينهما خط أبيض فاصل ''عتبة طويلة من أقصى اليسار حتى أقصى اليمين''·· يخرج الممثلون الثلاثة ''مهدلي والمؤلف والحكيم مع الجوقة من الممثلين منصور فهد ومحمد بن راشد المزروعي ويوسف أحمد النقبي وعبدالله حليس وخميس أحمد فرج ومشاري محمد الحمادي وصلاح رمضان بصحبة عازفين على الطبول و''الهبان - القربة'' وهم هيثم إبراهيم الحوسني ومحمد سعيد سالم ومصطفى اسماعيل ويحيى البلوشي وعبدالرحمن البلوشي رافعين الأعلام من خلف الجمهور هابطين درجات المسرح مخترقين مقاعد الجمهور من الوسط متوجهين نحو خشبة المسرح ليؤدوا ''لعبة داخل لعبة''·· وفي كسر الجدار الرابع محاولة لتماهي الحكاية بين الجمهور والنص على الخشبة· القصة كما يقول عبدالله لـ ''الاتحاد الثقافي'' حين التقت به قبل بدء العرض: تجسد حكاية رحلة البحث عن الهوية لأبناء الخليج وخاصة بعد ظهور النفط وتقييد حرية تنقل أبناء الخليج بين الشواطئ بعد أن كانوا كالخيول تدور حول شواطئ الخليج كالريح، كل ذلك تغير فجأة بعد البترول عندما وضعت بين تلك الشواطئ ما يسمى بالحدود· ويضيف عبدالله سعيد: يلعب جمال الجسمي دور المؤلف الذي يبحث عن قصة ليقدمها للناس، ولكنه يفاجأ بأن الحكيم ''محمد الصم'' يروي للجسمي حكاية أبيه الذي كان عاشقاً لموسيقى الخليج ولموانئها ويكتشف المؤلف أن أباه أحد فرسان خيول الخليج الجامحة الذين جابوا الخليج من أدناه الى أقصاه حاملاً معه تاريخ وطن وحكايات شعب الشواطئ وموسيقاهم· مفاتيح الحكيم في البدء تسرد قصص كثيرة حتى نصل الى القصة الأخيرة التي تهم سردنا النصي المسرحي وهي قصة الأب الذي نحاول أن نصل الى ما أراد· إلا أن هذه الحكاية لا بد أن تنتهي وهي في نهايتها تقدم مأساة بفقدان الأمل إذ لا يمكن حتماً أن يعود الخليج الى ما كان من تلاعب الموجة بين شواطئه· كان دور ''محمد الصم'' حكيماً يمتلك مفاتيح قصة الأب، تاريخ رجل تنقل بين شواطئ الخليج حاملاً معه القصص والحكايات· يقول الحكيم إنه كان يسمع رحلة الأب من الناس فيتمثل ملامح تلك الشخصية بكل عنفوانها وعذوبتها، حينها يكتشف المؤلف أن حكاية الرجل ما هي إلا حكاية أبيه·· فيسرداها معاً للوصول الى النهاية· 7 شباب من زمننا هذا تجلبهم وتستهويهم حكايات المقهى الهزلية التي كان يرويها ''مهدلي'' صاحب المقهى الساخر، وبالرغم من أنهم ذاهبون الى حفلة عرس في القرية إلا أنهم عندما يسمعون الحكايات ينشدون إليها ويجدون حينها أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من هذه الحكايات· إنها حكايات البحث عن الجذور التي بدأت تخفت قليلاً· 15 ممثلاً الممثلون الرئيسيون الثلاثة وممثلو الحكايات السبعة والعازفون الخمسة يهبطون من خلف الجمهور، أولهم يحمل علماً والثاني بخوراً والثالث يعزف بالقربة ''الهبان'' والآخرون يعزفون على الطبول وراقصون يتقدمون بأغان خليجية مصحوبة بأصوات الأكف التقليدية، والمسرح فضاء مفتوح سوى شاشة بيضاء يجتمع أمامها الجميع في العمق· هنا تنشأ ''المقهى'' الافتراضية· حينها يخرج الممثلان الجسمي والصم الى ظاهر المسرح عند حافته وبلغة بسيطة يعلنان أنها قصة خيالية فتتداخل اللعبة في عمق اللعبة، الأولى لعبة مسرحية أبطالها الممثلون والثانية لعبة المشاهدين وهي لعبة الحياة الحقيقية· يخرج عامل المقهى ''مهدلي'' عبدالله سعيد وينضم الى زميليه لنفهم تماماً أن المسرح انشطر الى جزءين وهما المسرح خارج وداخل، أما الخارج فهو المسرحية وأما الداخل فهو لعبة المسرح· بين الماضي والحاضر في الحوار الثلاثي الذي نشأ فجأة نراه يقودنا الى زمن ماضٍ لأنه خارج المقهى، وعندما يريد أحدهم أن يعود ليجلس في المقهى فإنه يرتد الى زمن الحاضر· ولكن ولبراعة ناصر كرماني فإنه وظف كل إمكانياته الإخراجية في الاعتماد على جسد الممثل وحركة المجموعة الراقصة هذا بالإضافة الى القص ''الحكي'' الذي شغل النص المؤدى· الأسماء لم تتغير في البدء فظلت أسماء الممثلين كما هي في محاولة لخلق حالة تغريبية· لكن ما ساعد على تمثل الحكاية برمتها أن الحوار كان يدور حول الزمن بمفهومه المجرد والساعة بمفهومها الواقعي ـ هكذا أراد محمد خضير من نصه الأصل ''ساعات كالخيول'' ـ ساعة ورثها المؤلف عن أبيه حسين بن عبدالله الشخصية اللاممسرحة والذي مات في البحرين أو ربما القطيف وكان قد عاش في البصرة والبحرين ومسقط، فجميعها بلدانه التي تنقل فيها وإليها· فالبحر يمتد بخليجه الآسر من البصرة حتى مسندم·· ساعة قديمة بسلسلة فضية، ربما نهبت من الأتراك يوم سقوط البصرة، هنا يدخل الحوار في تشعبات تعرض تاريخ الخليج يوم سكنه اليهود في البحرين والذين رحلوا في بدايات القرن العشرين· الحكايات ويبقى الهاجس هو البحث عن حكاية ما، فتبدأ حوارات مفادها البحث عما يريد المؤلف، والشباب يستمعون الى حكايات مهدلي مصحوبة بالموسيقى والغناء والتصفيق، منها حكاية ''كومار'' الهندي، هنا يخرج من المقهى عمق/ داخل المسرح شاب ليؤدي دوره عند ظاهر/ خارج المسرح· يروي الشاب حكايته مع رب العمل حيث كان يتعرض للضرب المبرح منه ولا يعطيه معاشاً وينام في ''الجاخور''· هنا تظهر اللعبة داخل اللعبة، الراوي ''مهدلي'' داخل المسرح، المسرود عنه ''الشاب'' يؤدي دوره خارج المسرح وبعد أن بقي كومار سنة تزوج من امرأة فصار غنياً·· ومهدلي يروي حكاية ابن خاله ''كومار'' وبعد أن تنتهي القصة الصغرى يدخل كومار الى المقهى منسحباً ليتحول الى شخصية أخرى، فالحاضر هو الداخل والماضي هو الخارج وكل ذلك يأتي مصحوباً بأغانٍ هندية وبتوقيعات خليجية على الأكف· وعند انتهاء تلك الحكاية الأولى تأتي حكاية ثانية فيخرج الممثلون الثلاثة عبدالله سعيد والجسمي والصم ليؤدوا دوراً ماضوياً بينما الراقصون لا يزالون في المقهى/ الداخل/ الحاضر· تروى في الحكاية الثانية قصة مضارب بني عبس ويدور حوار بين القاضي والمؤلف حيث يمارسان لعبة تمثيل المشهد الجديد، وهي قصة محب يبحث عن حبيبته فطومة ''بديلاً لعبلة حبيبة عنترة بن شداد'' ويرافق ذلك استشهاد بأبيات للشاعر، تخرج فطومة الى المسرح ''يتقمص شخصيتها عبدالله سعيد الفنان البارع الذي أدى أدواراً مختلفة ليترك دور مهدلي للحظات، يتقابل المحب ومحبوبته حيث يلبس المحب إكليل العرس وتلبس المحبوبة بشت الرجل ''لعب على الواقع'' ما دام النص محكوماً بلعبة الخيال والواقع وتداخلهما· وفي هذه الحكاية ينهض المغزى وهو زواج بنات البلد والأبناء ويستفيد المؤلف من نصوص أخرى معروفة ''زواج فطومة من عتريس باطل''· وتنتهي الحكاية الثانية بعودة الممثلين الى عمق المسرح/ المقهى/ الحاضر، كل ذلك محكوم بالوهم بأن ما يؤدى هو الوهم بعينه إلا أنهم ''الممثلون'' يفترضون أيضاً أن ما يقدم هو الحقيقة· كرسيان وبحر عندما ندخل في حكاية حسين بن عبدالله الأب، فارس البحر، عاشق الصيد والموسيقى والغناء يستغل المؤلف/ المخرج كرماني كرسيين فقط ليقف عليهما المؤلف والحكيم حين يتحولان الى قبطانين يحدقان في البحر فيروي الحكيم قصة الأب حسين وعشقه للبحر وماذا حصل له، هنا تبدأ الجوقة والموسيقيون بالغناء ''يا ماي'' فيتحول الكرسيان من زاوية المسرح اليسرى الى زاويته اليمنى دلالة على تنقل السفينة في البحر و8 راقصين خلفهم يجذفون· ومن عمق المسرح/ الداخل، أو لنقل داخل الإطار يخرج شاب ليؤدي دور الرجل الإنجليزي الذي كان يشتري الخيول الأصيلة من العرب ويصدرها الى بومباي ثم الى أوروبا· الإنجليزي (الصاحب) يحكي حكايته فيدخل الممثلون الى العمق، هنا يبدأ استبدال المكان والحكاية معاً ولكن يظل المؤلف والحكيم معه فقط· الحكيم يروي قصة ''جثة فرس'' وكيف ارتطمت بالبحر ويروي حكاية الساعة التي اشتراها من الإنجليزي وينهض حزناً على موت الفرس وفجأة يختفي الإنجليزي الذي هرب بالخيول ولكن الخيول تغرق في الخليج فترجف عقارب الساعة وينظر الممثلون الى الخيول في البحر، تراجيديا عالية بمنظر مأساوي فينكفئ الجميع الى الداخل بحزن شديد وينتهي النص، حينها يخرج الممثلون الـ (15) جميعاً من داخل الإطار/ عمق المسرح وينزلون الى الجمهور ويشقون طريقهم صاعدين مدرجات المسرح بين مقاعد الجمهور الى قمته، مثل ما ابتدئ بالنص وكأن الاختفاء كالظهور تماماً· نص مسرحي يتلاعب بقوانين السرد المسرحي بالرغم من حفاظهم عليها، إلا أن حقهم باللعب على القوانين يجيزها لهم الفن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©