الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حسن شريف يبحث عن معنى المعنى

حسن شريف يبحث عن معنى المعنى
30 مارس 2011 20:13
الفنان المختلف، هو المبدع الذي لا يجاري أحداً، إنه المبدع الذي يخلق مدرسته الخاصة، مدرسته التي هي مزيج من رؤى ومدارس عدة، لا تشعر به ينتمي لإحداها، بل هو نتاج طبيعي لجميع ما توصلت إليه تلك المدارس. الفنان المختلف، هو المبدع الذي يشعرني كمتلقٍ بأنني أرى شيئاً لم أره من قبل، شيئاً يعيد لي تشكيل العالم الذي عشته ورأيته كل يوم، لكنني أراه اليوم في شكل ومعطى جديدين. الفنان المختلف، هو المبدع الذي يستدعي الماضي في الشكل الفني الحاضر، وكأنه يصوغ قلادة تحمل عطر الماضي مبثوثاً على ثياب الحاضر، حتى وكأننا نحس بالتناغم بين تشكل الماضي في حاضر يعيش فيه. الفنان المختلف، هو المبدع الذي يحكي لك حكاية عمرك، كل جزئيات حياتك بدون أن تدري، ينبهك الى أشياء صغيرة مضت، غير أنها حين تستعاد هنا في لوحة أو جسد فني، تستعيد معها جزءاً كبيراً من ذكرياتك عن عالم عشته بشفافية. تحدثت عن الفنان المختلف، وأعني تماماً به، الفنان الذي تجسد في أعمال حسن شريف، عندما قدم خلاصة رؤيته للعالم في معرضه الذي أقيم في أبوظبي بتنظيم من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث تحت عنوان “تجارب وأشياء 1979 ـ 2011” والذي لا يزال معروضاً في قاعة حي قصر الحصن الثقافي بأبوظبي. هنا لابد لنا أن نؤكد حقيقة أن أعمال الفنان التشكيلي حسن شريف ولأهميتها التاريخية والفنية والتجريبية سوف لن تحقق مدياتها الفكرية بالتأثير على المتلقي في حال قدمت بشكل عشوائي، بعيداً عن التنظيم الذي يهدف الى غاية التأثير، ولهذا السبب أجد حقاً أن ترسيم المعرض والتعامل مع غاية أي عمل جزئي وكيفية عرضه وتقييمه وتنظيمه داخل فضاء قاعة العرض صار من الضرورة بمكان بحيث يعد جزءاً من بنية العرض وجسده الكلي. أسهم الفنان التشكيلي الإماراتي محمد كاظم والأكاديمية الفرنسية كاترين ديفيد في صياغة طريقة لعرض أعمال حسن شريف كونهما مقيمين عالميين جعلت تلك الأعمال تحكي حكاية. لنفصل في مفهوم “تحكي حكاية” كما أرادها كاظم وديفيد، لقد حاول هذان الفنانان أن يقرآن أعمال حسن شريف قراءة مختلفة، فوجدا أن هذه الأعمال تنقسم الى قسمين ـ كما أرى ـ القسم الأول يعنى بالشكل الهندسي وأبعاده ودلالاته وتأثيره على حياتنا اليومية، حيث خاض فيه حسن شريف تجربته المؤسسة فاحتل هذا القسم لديهما جزء أو نصف فضاء قاعة العرض، أما القسم الثاني فهو يتضمن تجريبيات حسن شريف المفهومية، والتقاطاته الماضوية، وتجسيداته التجريبية واستعاداته لأجزاء مندثرة من حياة المجتمع والفرد والفكر. في هذا الإطار صرنا نقرأ الحكاية التي يحكيها لنا حسن شريف عبر هذا النسق الذي قدمه محمد كاظم وكاترين ديفيد، ولولا صياغة هذا النسق التتابعي لما استطعنا أن نفهم أو نلم بعالم حسن شريف المفاهيمي المجرد. المعرض خلاصة تجارب حسن شريف الأولى بما في ذلك عدد من النماذج والأشياء المشكلة بالإضافة الى سلسلة من لوحاته المفاهيمية وأعماله المنهجية الأخرى. لقد شرح المعرض المفاهيم الفنية التي تبناها حسن شريف طوال أكثر من 35 عاماً، باعتباره أول معرض حصري كبير لفنان حاول أن يقدم قراءة مختلفة للعالم من خلال التجريب الذي زخرت به أعماله ونتاجاته. حداثة مفرطة وقد نتساءل قبل أن نقرأ أعمال معرض حسن شريف عملاً تلو الآخر، ماذا أراد أن يقول، وبكل بساطة نقول “إن حسن شريف أراد أن يلخص في أعماله التجريبية من إبداعات ورقية وقطع مشكلة من أواخر السبعينيات مجالاً خصباً للتعرف على الحداثة في هذا الفن الذي أسهم في صياغته”. هذا العالم الذي قدمه حسن شريف لا يزال يمتلك حداثيته المفرطة عبر امتلاكه بعداً تجريدياً مدهشاً، إذ أن الفنان يخلق من الشيء معطى لمعنى المعنى وليس المعنى فقط، وأعني بمعنى المعنى، بالمفهوم البلاغي للشكل التجريبي حيث تمحل كل لوحة معنى خاصاً بها، وهذا المعنى الخاص يولد عند المتلقي معنى مغايراً اسميه “معنى المعنى” بتحفيز من المعنى الأول. وكي أقرب الصورة، حسناً لننظر الى عمل حسن شريف الذي أطلق عليه “دفاتر البقال” نجد أن المعنى كامن في الجسم التمثيلي، وهذا ما يوحي به الشكل، أما معنى المعنى فهو ما يتولد خارج الشكل، في ذات المتلقي، هو الإحالة الى شيء ما، حدث ما، إذ وجدت أن “دفاتر البقال” تحيل المتلقي الى اسمه المدون في بقالة الحي الذي يسكن فيه، أو ربما الى ديون لا تزال معلقة في تلك الدفاتر، يتذكرها المتلقي الآن. إن معرض حسن شريف قد وفر لنا إمكانية التعرف على التطورات والتحولات التي طرأت على هذا الفن من حيث كيفية التعامل مع الخامات المهملة والهامشية والأشياء اللامنظورة واللامركزية في حياتنا وما هي بصيرة الفنان المبدع الذي يلتفت الى ما لا نبصره نحن في الأشياء حولنا حيث تتحول تلك الأشياء الى مركزيتها ومنطقتها البؤرية في قدرتها على التعبير عما يريد قوله الفنان من معنى، لما يريد أن يكون عنصراً فاعلاً في خطابه التشكيلي. المهمل والمهمش حقاً لقد كانت انتباهات حسن شريف للمهمل والمهمش في عالمنا تثير الاستغراب حينما تتحول هذه الأشياء في عالمنا الى الفن، كي يفسر من خلالها حسن شريف سلوك البنية الاجتماعية ورؤية الناس الى الأشياء وشغفهم بالحياة وردود أفعالهم إزاء ما يدور حولهم. كانت الطبيعة هي منبع خاماته الأولية حيث الأشياء تأتي منها لتتشكل على يديه في أجساد وأشياء تعود الى الطبيعة نفسها، لقد بدأ يدمج مع ذلك العالم الطبيعي مواد أخرى منها البلاستيك الملون وبعض وسائل التغليف وأدوات أخرى مستوردة مثل الأكواب والملاعب وصواني المقاصف وملصقات الطرود وغيرها من أشياء الحياة اليومية. ومن هنا تأتي فرادة حسن شريف من تلك الأشياء التي نهملها ونرى أنها لم تعد تصلح لشيء، والتي من خلالها يركب حسن شريف جسداً يستطيع تأويل أفكار مجردة نمطية الى موقف ورؤية. القسم الأول في نصف القاعة الأول عرض حسن شريف في البدء 12 صورة للأداء الحركي مؤشرة بمكان (حتا ـ دبي) وبزمان 1983، وفي ذلك عودة للماضوية وهي مجموعة من الحركات التعبيرية التي أداها حسن شريف والتقطت له فوتوغرافيا من أجل التوثيق لهذا الأداء الحركي، ثم علق عليها بملاحظات كتابية وأرفقها برسومات تحضيرية له لا تزال محفوظة وموثقة، وفي أواخر الثمانينيات تم تثبيتها على ورق مقوى وتم تأطيرها في ترتيب تسلسلي. هذه الصور الضوئية حملت 8 عناوين فرعية وهي “ماشي” و”غسل الدهليز” و”فريق العمل” و”مربع” و”ظل شجرة اللوز” و”تدوين الأحجار” و”الوقوف في حفرة” و”المكتبة” و”أرجوحة”. تكمل صور أخرى للأداء الحركي أيضاً ما ابتدأ به حسن شريف، حيث تكشف لنا اللوحات الأخرى وهي من أعمال 1983 و2006 وحملت عناوين “جسدي في المخزن” و”المخزن” و”كتابة” و”صوت العقل” و”طاولة الطعام”، و”عد السيارات في شارع الضيافة بدبي” 1982، و”أشياء في غرفتي” 1982. ومن خلال التجريد المحض يخلق حسن شريف أجساماً، يمكن تأويلها الى معاني، أي أن التجريد لديه يصبح ذات معنى، فمن الواحد والاثنين الرقمين المجردين تتحول الأشكال الى معاني ومواقف. يرى حسن شريف في هذين الرقمين أنهما يمتلكان أثراً في توجيه الفعل العقلي واللعب الحسابي حيث يقول معلق على استخدامه لها “(الرقمان 1 و2) يمكن استخدامهما لإنتاج العديد من الرسومات المختلفة عن طريق وضع أحدهما بجانب الآخر أو إجراء عملية حسابية بطريقة متعمدة أو عشوائية للحصول على مسافات مختلفة، فارغة بينهما”.هذا التعليق جاء مكتوباً بجوار إحدى لوحاته التي تمثلت الـ (1 و2) في تكوين المعنى المفهومي للوحة. صياغة الماضي هناك 8 لوحات أخرى استخدم فيها حسن شريف اللونين الأسود والأبيض وخطوطا مستطيلة، متوازية، ومنحرفة، ومتقابلة على أرضية صفراء إلا أنها ليست متقاطعة، هذه الخطوط تمتلك خطاباً مفهومياً توزع نصفين خطاب مفهومي مكثف في القسم العلوي وخطاب مفهومي نحيف في القسم السفلي وكأنه يفترض عالمين، هما عالم علوي مكثف يستند الى عالم سفلي نحيف، بإشارة واضحة الى هشاشة القواعد. نتحول في هذا القسم من قاعة العرض الى صور لحسن شريف التقطت له عام 1979 في لندن حيث حي لمنجتون آسبا، وهي خمس صور شخصية له بالأبيض والأسود مصحوبة برسومات أولية بالقلم الرصاص للحي الذي كان يعيش فيه آنذاك، مع خارطة تمثل مكان المنطقة بأكملها وموقع الحي فيها. في نصف القاعة هذه نرى عملاً تصويرياً وتخطيطاً من عام 1985 لمجموعة من البراميل وقد وضعت في يناير من ذلك العام على جانبي الطريق المؤقت المؤدي بين دبي والشارقة، كي تمنع وقوع الحوادث، إلا أن حسن شريف يستوحي من هذه البراميل فكرة وعملاً استثنائياً يعيد المهمش الى المركز والعادي الى استثنائي مع تعليقات له ورسومات وتوزيعات عددية عبر جداول توضح مجاميع البراميل المصفوفة على جانبي الطريق يميناً ويساراً وكأنه يصوغ الماضي من جديد. القسم الثاني يشتغل حسن شريف على تجريبات ظاهراتية عبر تقديمه أعمالاً مفهومية منها “جبل النعل” وسط القاعة و”الملاعق الملتوية 2008” من الفولاذ والنحاس بمساحة 45X60X230 سم، وكتب وعلب وأشكال لرموز في أعمال موسوعية مفتوحة ذات طابع خيالي شعري تخضع فيه الكلمات والرموز والأشياء والخامات والألوان الى نوع من بعض النظام وشبه النظام أو الى لغة مشفرة. أشياء متدلية، خيوط وورق مقوى لبيوت، أغلفة كتب، محافظ وحقائب صغيرة ملونة، صناديق معلقة وأرضية تجانسها، مطارق، عوالم متشابكة، ومغربة قوارب متدثرة، أشياء محنطة، تتعدد الرموز في عالم حسن شريف لتؤكد: 1 - مقبرة الأشياء. 2 - اندحار العالم. 3 - انكسار الزمن وهو الدلالة الأعمق. الأشياء تمتلك ذواتاً، مثل الإنسان، تتشكل، تولد، تحيا، تموت، وما بعد موتها يعيدها حسن شريف الى الحياة ثانية وهذا هو الشيء الذي لا نستطيع القيام به نحن ولهذا السبب يمتلك حسن شريف تفرده من خلالها. كرسي، وملاعق مبعثرة، ملتوية، وسطل أزرق للغسيل تخرج الأشياء منه الزمن يتكسر ويحطم كل الأشياء، تضمحل معاني الأشياء، اللامعنى الوجودي يتمثل في هذه الأشياء حيث تبحث عن معناها. شباك الصيد ورحلة الصياد، رحلته في البحر والبر، خوص النخل، وتكدس الحبال، ودفاتر البقال القديمة، وحساباته المؤشرة بالخطوط المتوازية إيقونات وعلامات إشارية لمعنى، الديون الميتة والأخرى التي استوفيت، أقراص لملابس معلقة، دفاتر الملحوظات للأيام والشهور والسنوات، كلها تصوير لانكسار الزمن وضياعه. لم يكتف حسن شريف بذلك، بل دخل عوالمنا جزءا جزءا من خلال الأوراق المحفوظة في ملف والقفل النحاسي المفتوح، وفرشاة الشعر القديمة والمناشف المعروضة. يغرب حسن شريف الإنسان في خضم مفهوم السوق حيث تتغرب الذات من خلال “جبل النعل” الملونة المكدسة وسط القاعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©