الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معمر القذافي في خورفكان

معمر القذافي في خورفكان
30 مارس 2011 20:13
أدّعي بأنني أعرف كل من يسكن خورفكان، خاصة أولئك الذين يسكنونها منذ فترة طويلة، لهذا فحين رأيت صورته في الجريدة أحسست بأنني أعرفه أو كأني أعرفه. إنه السوداني معمر القذافي محمد محمد النور، هكذا اسمه في الوثائق الرسمية، وعلى حسب قوله فلقد سماه أبوه معمر القذافي، ولم يكد يمر على ما يُسمَّى بثورة “الفاتح” ضد النظام الملكي أكثر من عام، ويقول كذلك بأن الرجل ـ أي القذافي ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب ـ كان “آنذاك مصدر فخر وإعجاب لمعظم العرب (لكونه) شخصية مختلفة وداعمة للوحدة العربية والأفريقية”. ولاشك أن “القذافي” “شخصية مختلفة” جداً، فلقد أثبتت الأحداث ذلك، أما عن كونه “شخصية داعمة” فهذا التوصيف حمّال أوجه. لقد أحدث القذافي انقلابه المشؤوم (على الأقل بالنسبة لليبيين) في فورة أحدثتها حركة انقلابية هي الأخرى، ونقصد هنا حركة الضباط الأحرار في مصر، ولم يبق مكان مديني أو قصي في العالم العربي لم تحدث فيه تلك الحركة تأثيراً، من مقاهي طنجة، وحتى ذلك الرجل من الشارقة الذي حلف باليمين بأنه لو زار عبدالناصر “الساحل”، فسيذبح ابنه تحت الرولة احتفالاً باستقباله. حماسة استسلم فيها الناس ـ كما ننظر لها نحن الآن ـ لتلك الشعارات القومية المجوفة التي تسابق أولئك الانقلابيون إلى إلهاب المشاعر الوطنية والقومية بها، ولم تكد تمر ثلاثة عقود على خطاباتهم الأولى، حتى رأى الناس بعين المعيش، كما بعين الواقع، كيف حوّل هؤلاء “الانقلابيين” الحياة إلى جحيم. “الضباط الأحرار” في مصر يتحولون بعد موت عبدالناصر إلى عبيد سلطة، أو بمعنى أصبح تتحول مصر إلى خشبة مسرح يُمثِّل عليها محمد أنور السادات دوره الحياتي، وهو الذي جاء من الصعيد كي يمثل في إحدى الفرق المسرحية، ولكن تلك الفرق لم تقدر طاقاته التمثيلية مع الأسف. وفي العراق وسوريا، جرت تركة “الضباط الأحرار” على هذين البلدين الكبيرين، ما جرت من صنوف العذاب، حتى أن شعوبها التي كانت مستقرة دوماً، وفي العراق خصيصاً، صارت تتسابق على ماراثون لا نهائي في الهجرة. ليبيا الكبيرة، ولكنها المجهولة، أو التي عمل القذافي على جعلها مجهولة كي يستفرد بها، ومنذ انقلابه “المشؤوم” ذاك، ولأنه أحس بأنه انقلب على “شرعية” ما، قام يحفر لنفسه أقبية أمان، ضد من تسول نفسه فعل ما فعل هو، ضد كل انقلاب محتمل، أي انقلاب كي يقع، فالانقلابات مسبحة، وبذكائه الفصامي أدرك ذلك، وسوَّر حياته بالجدران السويسرية الذكية، أو التي تُُظن كذلك، ومعزراً في خيمة “تأمله” الكبيرة والمكيفة، مزيداً من انفصاله وانفصامه عن العالم والشعب وكل شيء. لقد كان في تقديري عند الانقلاب، يحس بأنه “أنا” ضابط صغير، حانت لها الفرصة كي تصعد، وعندما حانت لم يصعد ذلك الضابط كي يغيِّر أناه، وإنما صعد كي تتشقق أناه وتنفصم أكثر، مؤثثة بمليارات الدولارات التي استولى عليها مما تنتجه الأرض الليبية الغنية برساميل الطاقة، ربما أكثر من سواها، يلتظون من بؤس الاحتياج. إنه وصل إلى الجنون بهذه الهبة الإلهية التي يقدمها القدر أحياناً لمن لا يستحقون، ولكن القدر خدّاع كذلك، وبقدر ما يرفع أحد إلى أعلى عليين، بقدر ما يمكنه رميه في سلة المهملات، وكانت ورقة محارم نظفت أنف مصاب بزكام الإشعاع النووي. وهو الآن وكأي من أمثاله في ذمة السقوط ويقول له كثير من الليبيين وكثير من البشر كفى. لقد تحملوا أكثر من ثلاثة عقود، فقط لأنهم آمنوا ومن ثم خدعوا بدعاوى “الضباط الأحرار” القومية والاستقلالية. أكثر من ثلاثة عقود، وهم لا يدفعون ثمن ذلك “الإيمان” المرحلي فحسب، وإنما يعانون الأمرين من أولئك “الضباط”، وقد استفردوا ودوما من أجل مواجهة إسرائيل والاستعمار، بالسلطة، يوزعون ثروات بلدانهم على عائلاتهم وحاشياتهم وعصاباتهم ومرتزقيهم، منقلبين كل مرة على انقلابهم، وذاهبين بأفق الحياة نحو “الإمارة” و”الملكية” ـ كأنماط من السلطات البدائية ـ من جديد، عبر تخيلهم توريث أبنائهم، أو حتى أحفادهم، من يدري، فهم بالتأكيد لا يعترفون بالحقائق الإنسانية البسيطة، وعلى الأخص: حقيقة الموت. ولكنني أدعي بأنني أعرفه، أو كأنني، أقصد معمر القذافي السوداني، الساكن خورفكان، كأنني أعرفه، أو حتى كأنني صادفته يمشي في قريتي الجميلة تلك. ومعمر السوداني، وبعدما كبر ذهب ـ يا للصدفة ـ للدراسة في الأكاديمية البحرية الليبية، وبقي هناك ما يقرب من الست سنوات متدرباً على العمل في البواخر وناقلات النفط، ثم بعد ذلك أكمل دراسته في الأكاديمية العربية بالإسكندرية مدة سنتين، ومن ثم عاد إلى السودان ليعمل في الخطوط البحرية السودانية، وظل فيها إلى أن عمل بوظيفته الحالية في إحدى شركات الملاحة بالإمارات، ومازال يعمل بوظيفة مرشد سفن ومشرف بحري. ترك القذافي السوداني “البحار” ليبيا عند عام 1995، ويتذكر أنه وفي “فترة دراسته في ليبيا عاش في سكن للعسكريين واندمج مع المجتمع الليبي، وعلاقته بهم طيبة، وكان من بين زملاء الدراسة ابن الزعيم معمر القذافي هانيبال” ـ عاشت الأسماء ـ لافتاً إلى أنه “لم يكن يعاقب على سلوكه ـ المشاكس ـ لأنه يحمل اسم الزعيم الليبي”. وعلى الأرجح فإن أخينا القذافي السوداني لم يتح لنفسه فرصة كي يُلاحظ ذلك التميز الذي يتحلى به السلطوي العربي، وفارضه على المجتمع ومتخطياً به كل الدساتير والقوانين وحتى التموضعات الاجتماعية، كما لا يذكر لنا القذافي شيئاً عن زميله هانيبال، فالسكوت حول مثل هؤلاء الزملاء قد يكون أفضل وأنجح وأرحم. ولعل ذلك يعود إلى الحب، فالحب أعمى كما يقولون، ولقد أحب القذافي السوداني في السابق الزعيم الليبي، وكان يتمنى لو أخلص في حبه طوال العمر ـ الإخلاص مهم يا جماعة ـ لكن ما يحدث في ليبيا أمر لا يُحتمل” على حد وصفه (المصدر دوماً: الإمارات اليوم 2-3-2011)، وتابع: “كنت أفخر بالاسم وأقلد صاحبه حتى في تسريحة شعره، وأدافع عنه لإيماني بأنه عربي أصيل، لكن ما جرى، خصوصاً حين وصف شعبه بـ”الجرذان” وراح يواجه المتظاهرين العزل بالطائرات والدبابات، كان كفيلاً بقلب كل تلك الانطباعات، بل إنني بت أشعر بأن هذا الاسم أصبح لعنة يجب التخلص منها”. وأضاف القذافي السوداني أن “والدته وشقيقته وأصدقاءه يطلبون منه بإلحاح تغيير اسمه، ولا يترددون في وصف الزعيم الليبي بأنه مجرم حرب، وكان يتظاهر بالديمقراطية في حين يمارس الديكتاتورية والبطش بشعبه”. ومن كلام القذافي السوداني عن حبه السابق لمعمر القذافي، وإخلاصه، بدأت أفهم كيف أن الكثيرين في العالم قد استطاع القذافي إيهامهم وكأنه مايكل جاكسون صحراء الفزان، وأنه وكما رقص جاكسون على القمر رقصته الشهيرة، فإن جاكسون الصحراء كان يمكنه الرقص على قمر التاريخ، فليس القذافي السوداني وحده هو من كان يقلد تسريحة معمر، فكثيرون من أمثاله وقعوا في هذا الحب. وقد نقول بأن الحب أعمى، ولكن ليس لهذه الدرجة المريرة، ولكن معمر جاكسون القذافي وجد ولدواعي عديدة من يمرح في ظلال تقليعاته، وليس آخرهن البغايا الإيطاليات اللواتي جلبهن في رمضان الماضي، كي يعلمهن القرآن. وكان بإمكان القذافي أن يستمر في رقصه ذاك على القمر، لولا هذه السنة الكبيسة، والتي أقامت الرمل على مرايا الأنوات المغلقة، وفتحت للهواء الطلق قنينة السكوت المعتقة، وأطلقت الحرية كالنيران تسعى لكي تأكل كل ما يُسمى خشباً، وكل قمر من صدأ، وكل رقصة على صدور البشر. يا لها من سنة لعينة، يقولها معمر القذافي، ولكن يقولها أيضاً المحب الفاشل القذافي السوداني، والذي أتخيله حين يمر على أصدقائه في خورفكان يسألونه: - ها شو يا معمر؟ بعدك ما سقطت. تراك عذبتنا يا معمر، وعذبت الشعب الليبي. اسقط يا أخي. ارحم الشعب الليبي وارحمنا. فحتى خورفكان لا تقبل معمر القذافي، ولا تقبل أمثاله. حتى خورفكان. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©