الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البنيان آية الإنسان

البنيان آية الإنسان
30 مارس 2011 20:10
عند تجولك في أي مدينة عريقة من مدن العالم تستوقفك؛ تلك الصروح التي شيّدها الإنسان، والتي أصبحت مع مرور الزمن تمثل جزءاً من الميراث الإنساني، باعتبارها نتاج التفاعل الفكري بين الإنسان ومجتمعه بمتغيراته المادية والروحية والتي تشكل الهوية الشخصية والحضارية لأي شعب. إنها محصلة تعبر عن عمق تجربة الإبداع الفكري لحقبة من الزمن، يجعل اكتشافها أو إعادة اكتشافها عنصراً مكوناً لحاضر الإنسان المعاصر انطلاقاً من ماضيه. وبعبارة أخرى، فإن التراث العمراني هو ما يعكس كافة الظروف الثقافية والبيئية والاجتماعية للإنسان في الماضي. في الإمارات سيحظى المتجول، مواطناً كان أو سائحاً، بفرصة للتمتع برؤية موروثات معمارية نادرة ملهمة ومتعددة بشكل فريد، بما تمتلكه من رؤية معمارية تزخر بقيم جمالية إلى جانب الوظيفة التي تم تشييدها من أجلها. وحسب ما ذكر في الموقع الإلكتروني لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، فقد تم الكشف في المحمية الطبيعية (جزيرة مروح) في إمارة أبوظبي عن “بقايا أساسات ثلاث مستعمرات سكنية عل الأقل تعود الى العصر الحجري الحديث، قبل ما يناهز 7500 عام قبل الميلاد، أي قبل عصر الفراعنة المصريين الأول”. وفي تعريف تفصيلي لتلك المستعمرات، يذكر الموقع: “وقد كشفت الحفريات التي تمت على المنازل جدراناً تمتد على طول متر واحد تقريبا وسُمك نصف متر، وهي جدران مزدوجة الأسطح داخلية وخارجية مبنية بحجارة عريضة وجوفها بمواد بناء أصغر حجماً، وهي أول مثال معروف محليا من الجدران المزدوجة الأسطح تعود الى هذه الفترة”. إن إجمالي المباني التراثية في الدولة والمسجل من قبل جمعية التراث العمراني يساوي 3100 مبنى تاريخي، والتي تنوعت بين (بيوت سكنية، قلاع وأبراج دفاعية، مدارس، مساجد، أسواق وغيرها كلأسوار والأبار). ومن دواعي السرور أن الجهات المعنية تعمل بجهود حثيثة للمحافظة على هذه المباني التاريخية في جميع إمارات الدولة من خلال عمليات الترميم وبنفس المواد المتستخدمة في الماضي، وذلك لتحويل العديد منها الي وجهات سياحية جذابة. المناخ والجغرافيا وبالتعمق في عمارتنا التراثية نجد أن لها أنواعاً وأشكالاً مختلفة الطرز وذلك حسب الطبيعة الجغرافية والمناخية للمناطق التجمعات العمرانية وطبيعة أستخدامها. ومن هذا؛ نجد أن العامل المناخي كان له أثر كبير في عملية تخطيط التجمعات العمرانية التقليدية حيث تقاربت المباني من بعضها والذي ساعد على زيادة مسطحات الظلال على الواجهات والممرات غير المنتظمة بين هذه التجمعات وهو ما يعرف بـ(السكيك أو داعوس)، والذي ساعد على زيادة سرعة الهواء في الفراغات بين هذه التجمعات. كما يحقق هذا التعرج والضيق الخصوصية الإجتماعية المطلوبة داخل الحي الواحد ومحليا يطلق عليه (الفريج)، وأشهر الأمثلة على ذلك: النمط العمراني لمنطقة البستكية بدبي. كما استخدم نظام الفناء الأوسط أو الجانبي المكشوف المعروف باسم (الحوش أو الحوى) والذي كان يوفر خصوصية للساكن وغالباً كان يأخذ شكل المربع تطل عليه كافة الغرف الانتفاعية بالمبنى من خلال ممرات شبه مكشوفة والذي استخدم كمنظم مناخي للتحكم في درجات الحرارة وحركة الرياح داخل المبنى. ومن ناحية جغرافية، نجد أن أهل الساحل كانت تجمعاتهم على الامتداد الشريطي على الساحل والمرتبط بالنشاط التجاري، ومثل نقطة اتصال وتمازج بين الثقافات والحضارات المختلفة. لذا تأثرت العمارة في الساحل بهذه الثقافات وطبيعة الجو البحري، فتميزت بشموخ ملاقف الهواء وتسمى “البراجيل” وله شكلان رئيسيان: المربع والمستطيل، ويعتقد أن نماذجه انتقلت إلى منطقة الخليج من إيران. ومثلت تلك البراجيل عنصراً رئيسياً في تشكيل خط السماء بالمدينة. ويسهم ارتفاعه في جلب الهواء الذي يهب في السطح عن طريق مرورة عبر فتحات البرجيل إلى الداخل بينما يرتفع الهواء الساخن إلى الأعلى وبالتالي تلطيف الجو داخل الغرف بالبيت. ويسمى النوع الأول من هذه البراجيل باسم (باراجيل اليواني) وتميز بقلة تكلفتها وسهولة صنعها ولذا انتشر عند أغلبية الناس العاديين. كان ينصب فوق بيت العريش بشكل مؤقت في فصل الصيف ويبنى من سعف النخيل، وهو عبارة عن 4 مربعات أو أعمدة، وكان يحاط من الداخل والخارج بقماش الأشرعة والطربال مع تشبيك سعف النخيل واحاطته بالحصير والسجاد وتثبيته بأوتاد من كل الأطراف ليتماسك ويصمد في وجه التيارات الهوائية، ويزود بسقف من سعف النخيل “الدعون” على شكل مظلة تقي من أشعة الشمس الحارة. وهناك برجيل من الجص على شكل برج، والتي كانت تخص بيوت الوجهاء والتجار يصنع من الطين أو الصاروج، تخرج منه أخشاب دائرية لتزينه، كما وجد فيها الكثير من المميزات الجمالية مأخوذة من أشكال هندسية ونباتية. وما زال بعضها موجودا حتى الآن خاصة في منطقتي الفهيدي والبستكية التاريخية بدبي ومنطقة التراث بالشارقة. أسس وتكوينات أما أبناء المناطق البرية والجبلية، فقد ارتبطت المواضع العمرانية عندهم بوجود الينابيع ووجود الآبار، وبالتالي ارتبط العمران مكانياً بأماكن تواجد الواحات وتوفر المواد المستخدمة للبناء وهي بشكل حلقي مركزي متقارب على أساس القرابة والانتماء الأسري. وكانت المباني تتميز ببساطتها ووضوح الكتلة العامة للمباني. ومن الظواهر المميزة لديهم ضخامة البناء الخاص برئيس القبيلة كدلالة رمزية على المكانة. من ناحية أخرى، نجد أن القلاع والحصون إلى جوار المسجد أسست على أساس الأمن الداخلي وهي تمثل نواة التكوين العمراني لمعظم التجمعات الحضرية التقليدية وهو ما يمكن أن نسميه (بالعمارة الدفاعية) والمرتبط بمقر الحكم. كانت هذه الحصون بها أبراج تشمل على عدة طبقات بمدخل مرتفع وتوزع على جدرانة الخارجية فتحات الرماية، وينتهي بشرفات علوية مسننة أو مدببة للحماية والدفاع، والتي تدل على مدى تمسك أهل الإمارات بالأرض والدفاع عنها وبذل الغالي والنفيس في سبيل حمايتها. هذا بالإضافة أنها مثلت مكاناً يحل فيه الحاكم المشاكل بين القبائل إن وجدت، وقد استخدمت كسجون في بعض الأحيان. واليوم تحول معظمها إلى متاحف أو أمكنة مفتوحاً للزائرين والسواح. وتجلت الحصون بروائع القلاع الدائرية والمربعة والمستطيلة، وعند تتبع الزخارف ودقة النسب الجمالية المشتقة من الأبعاد الهندسية (الدائرة والمربع والمستطيل والمثلث) نجد أن أهل الماضي على درجة عالية من المهارة والخبرة والإلمام بدقة التشييد، واهتمامهم بالأشكال الفنية التي كان لها قدر وأهمية خاصة لديهم. وقد اعتمدت العمارة التقليدية على جماليات الكتلة لا جماليات الوحدة حيث وزعة الفتحات من خلال تناغم شكلي اختلف من مبنى إلى آخر مع عدم تثبيت مقاييس طرازية محددة كما هو الحال في العمارة الكلاسكية. كما لا يمكن أن نغفل تأثر تلك العمارة بالعمارة الإسلامية ولا سيما في بناء المساجد، كذلك تأثرت بالزراعة من خلال عمارة الأفلاج والأبار حيث حرص الانسان آن ذاك بالبحث عن مصادر المياة وكيفية المحافظة عليها لشحها. وغالباً ما تحدد المناطق الزراعية بتلك التجمعات بأسوار متوسطة الارتفاع بارتفاع متر ونصف المتر من الطين وذلك للفصل بين ممتلكات القبائل. إن موقع البناء والمواد المستخدمة وحجم البناء وبساطة الطابع المعماري وزخارفه، يجعلنا بصدد رحلة استكشافية قديمة جداً، وحصيلة تراثية لا تقدر بثمن فيها من الفنون والخطوط الهندسية والزخرفية ما يستحق أن نتعرف إليه. إنها شواهد الماضي التي تسر وتأسر من ينظر لها، وخصائص لا يمكن إغفالها للإنسان المبدع في ذلك الزمان. وقد تنوعت المواد المستخدمة في البناء بين مكان وآخر، لآخربين فأهل الصحراء لهم من معطيات بيئتهم ما يساعدهم في تشييد أبنيتهم، وكذلك الحال مع سكان الجبال وأهل الساحل. المدر والدعون أخذ أهل الريف والصحراء من الوديان والواحات (المدر) أو ما يعرف بالطين وذلك بعد إضافة الماء عليه وكان يترك لمدة تقارب العشرين يوماً تحت الشمس لكي يتخمر، ثم تصنع قوالب خشبية ليوضع فيها ليتشكل ما يعرف (بالطوب الطيني) لبناء الجدران. كما يستخدم المدر بعد خلطة مع القش المقطع (التبن) لتثبيت الطوب ولتكسية المباني. كذلك اعتمد السكان على مواد مستخرجة من النخيل، فالنخلة التي كانت ومازالت أهم شجرة لأهل الإمارات، أخذوا منها (الدعون) وهو ما يطلق على مجموعة أو حزمة من الجريد، و(الخوص) وهو سعف النخيل في التغطية الخاصة للأسقف. أما جذوع النخيل فاستخدمت في بناء الأعمدة الجانبية ولتدعيم الأسقف والتي توضع بشكل مائل، كما استخدموا هذه الجذوع في (المزراب) كمجرى مائي لتصريف مياه الأمطار من الأسطح بعد نحتها من الداخل، فقد شكل المزراب عنصراً تشكيلياً أساسياً في تشكيل واجهات العمارة التقليدية. (البعو) و(البيم) أما أهل الساحل فقد استخدموا الحجر الرملي والأحجار البحرية مثل: (البعو) وهو نوع من أنواع الأصداف البحرية، و( الشبو) وهو بعض ما يلفظة البحر، بالإضافة إلى صخور المرجان البحري وتعرف باسم (البيم) والذي خصص لبناء الواجهات بشكل أساسي بعد أن يتم تقطيعة الي قطع وبسطها على الأرض لمدة تقارب الستة شهور لتجف وتزداد صلابة ولكي تقلل محتوى الملح فيها. وقد كانوا يبنون الجدارمن الطوب باستخدام النوع الأول من الجص وهو (الجص البحري) والذي يصنع بحرق خليط أحجار المرجان والمحار ثم سحقها لتمثل مسحوقاً متجانساً مع (الجبس) لتثبيت الطوب، ثم يأتي دور “البيم” ليوضع بشكل عامودي بزاوية مائلة علي شكل (V) لتمثل جيوب هوائية تعمل كنظام عزل للهذه الجدران، ثم يطلى مرة أخرى باستخدام الجص بغرض تغطية الجدران وإعطائها الشكل النهائي. وهناك نوع ثاني من الجص يستخدم لنفس الغاية ولعمل الزخارف التشكيلية وهو ما كان يستخرج من حجر كبيريتات الكالسيوم من مناطق عدة مثل منطقة جبل علي، ويتم تكسر هذه الكتل الحجرية إلى قطع صغيرة ثم تجمع فوق بعضها وتوضع في قبو مغلق يطلق عليه (الكورة) للبدء بعميلة الحرق المتواصل لمدة مستمرة تتراوح ما بين 24 ـ 48 ساعة للحصول على الجص الطبيعي. وكان أهل الساحل ـ بصفة خاصة ـ يستعملون الأخشاب في العمارة وخاصة في الأسقف ومنها ما هو محلي مثل: الأخشاب المستخرجة من أشجار القرم “المنغروف” التي تنتشر بالقرب من الجزر. ومنها أنواع مستوردة مثل: (الشندل أو الجندل، البيمو، الساج، التيك والمربعة وهو خشب بشكل مربع)، وكان (الشندل) عنصراً أساسياً في البناء التقليدي وقد كان يجلب من شرق أفريقيا، فهي العوارض الطويلة الأعمدة التي توضع كدعائم للسقف وترص على مسافات متساوية للتدعيمة حيث يعلوها طبقات من جريد النخيل (الدعن) وطبقات من من المدر والطين. كذلك استخدمت (كمزراب) كمجرى لتصريف المياه بعد نحتها من الداخل. قد كانت هذه الأخشاب تجلب من الهند ومن جنوب وشرق أفريقيا، وهذا سببه التفاعل والتبادل الثقافي والاقتباس من الحضارات المناظرة من خلال الانتعاش الذي كانت تشهده حركة التجارة والهجرة المستمرة، مما أعطى المرونة للطابع المعماري للهذه المباني. أما سكان المناطق الجبلية، فقد استخدموا في بناء منازلهم الأحجار الجبلية في المنطقة الشرقية من الإمارات، وهذه الصخور هي صخور نارية صلبة وأحجار جيرية ورملية. مواد مشتركة لكن ما لاحظه الدارسون والآثاريون، هو إن أهل الداهل وأهل الساحل في الإمارات، قد اشتركوا في استخدام مواد متماثلة في خلطات البناء مثل: التبن: وهو القش مخلوطاً بالطين. الصاروج: والذي يتكون من طين (صلصال) الأحمر المحلي، وهو شديد النقاوة لأنه لا يحتوي على أجزاء رملية ويتم خلطه مع روث الأبقار ليصبح أشد مقاومة وأكثر تماسكاً بعد تعرضه للجفاف في الشمس وحرقة في حفر خاصة تحت الأرض ويسحق الناتج ويستخدم بعد خلطه بالماء كمادة تستخدم في الأساسات، وكمادة لاصقة تستخدم لتغطية سقوف المنازل بغرض التأمين عليها عند نزول المطر، لتمبزها بخاصية مقاومتها للماء. النورة: تستخرج من الحجر الجيري بطرق مشابهة لصناعة (الجص) وتطلى بها الجدران بدلا من الجص وأحياناً تخلط معه لطلاء الجدران لإعطائه صلابة أكثر ولإضفاء اللون عليها. الجبس الطبيعي: ويعرف باللهجة المحلية (جص) ويعد من المواد الرابط الأساسية التي استخدمت بشكل واسع في أغلب المباني للأغراض الزخرفية من خلال عملية النقش. الأخشاب: استخدمت كما سبق ذكره في المنازل الساحلية بالأخص إلا أنها استخدمت في صناعة الأبواب والنوافذ في جميع المساكن والقلاع والمساجد. النخيل: الجريد “دعن” في الأسقف كما ذكر سابقا. تقنيات ووسائل وتبيّن الدراسات أن سكان الإمارات قد استخدموا تقنيات متميزة في بناء جدران بيوتهم، سواء كانت من المدر أو البيمة، فمن حيث العرض زاد عرضها كلما زاد ارتفاع المبنى، والجدران كانت تبنى عادة بعرض ثلاث إلى أربع طوبات، أي بعرض يبدأ من نحو 65 سم، أما الأبراج فيصل عرضها إلى خمس طوبات، والطوبة كان عرضها 25 سم مربع وعمق 10 سم. وكان لاستخدام حوائط سميكة أثر رئيسي في حماية وتقليل معدلات الانعكاس الحراري من الخارج للداخل. كما كان لوجود فتحات صغيرة علوية دور رئيسي في عملية التهوية وتقليل الحرارة داخل هذه المباني. أما بالنسبة إلى الزينة على الجدران، فقد كانت الجدران تترك عارية من الزينة سوى وجود بعض البروزات تشكل هندسة جمالية خاصة، وتكون خشنة وغير مستوية بسبب طبيعة المواد المستخدمة الخشنة والبارزة نوعاً ما، وهي طبقة من خلطة الجص أو خلطة المدر. أما الألوان المستخدمة في هذه الشواهد فقد كانت تأخذ ألونها من ألوان تربة الصحراء أو ألوان تربة البحر عند أهل الساحل ولون الصخور في المناطق الجبلية. المراجع: ـ العمران التقليدي في دبي ـ إصدار بلدية دبي، قسم المباني التاريخية، الطبعة الأولى 2006 ـ مجلة الظفرة العدد (41)، 1 سبتمبر 2010م. ـ مدخل في علم الزخارف الجصية وأساليب ترميمها ـ أشرف طنطاوي ـ قصر الحصن – ريم طارق المتولي 2007
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©