الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حين أكتبُ اسمكَ بشكلٍ خاطئ

حين أكتبُ اسمكَ بشكلٍ خاطئ
23 مايو 2017 19:10
في الثامن من شهر أكتوبر العام 1993 في جزيرة واهيكي في نيوزيلندا، أنهى شاعرٌ موهوبٌ حياةَ زوجتِه بوحشية مستخدماً فأساً، ثم أنهى حياته بالانتحار شنقاً. كان «قو تشنغ» وزوجته الشاعرة «شِيا يي» قد تقابلا في القطار العام 1979، وتبادلا رسائل قبل زواجهما. كانت الرسائل في متنها بسيطة، إلَّا أنها عبَّرت عن عواطف جياشة بين الحبيبين، بحيث تجعلنا نتعجب من مصيرهما، القتل والانتحار. يُعتبر الشاعر «قو تشنغ»، الذي وُلِدَ في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر العام 1956 في بكين، من أهم الشعراء الصينيين المعاصرين، ومن جيل الشعراء الذين تأثروا بأساليب الشعر الغربي وشعرائه كبودلير وريلكه وغيرهما، وهو أحد مجموعة الشباب الذين ظهروا في الثمانينيات، وأطلقوا على أنفسهم اسم «الشعراء الضبابيون»، ومثَّلهم الشاعر الصيني «بي داو» الذي رُشح لجائزة نوبل للآداب، ومع تأسيس مجلة «اليوم» أُتيحت للشاعر «قو تشنغ» فرصة السفر والتجول في أوروبا ليستقر في النهاية في جزيرة واهيكي في نيوزيلندا العام 1988. قبل ذلك وفي العام 1969، نُفي والده إلى الريف أثناء الثورة الثقافية لمدة خمس سنوات كنوعٍ من إعادة التأهيل، حيث عاش الشاعر في عالم وتجربة مختلفين، ولعلَّ تجربته تلك كانت السبب الذي دفعه إلى كتابة الشِّعر، وقد بدأ كتابته في سن السابعة عشرة. في الثامن من أكتوبر العام 1993 بلغت مأساة الشاعر «قو تشنغ» ذروتها، حين قتل زوجته «شِيَا يي» بفأس، ثم هرع إلى منزل أخته وأخبرها بما اقترفه، وبعدها شنق نفسه على شجرة. أما زوجته فقد وُلِدت العام 1958، وهي من بكين، وكانت محبة للأدب، وتكتب الشعر والنثر. الزوجان المنتحر والمقتولة، تبادلا قبل زواجهما سبعةَ عشرَ رسالة، أترجم هنا ستَ رسائل منها، وإن صح التعبير أو التأويل، فإن هذه الرسائل، تحمل نوعاً من استباق المصائر بالحديثِ عنها، حتى أنَّ «شِيَا يي» تصف «قو تشنغ» قائلة: إنَّك شخصٌ غريب. الرسالة الأولى (من قو تشنغ إلى شِيَا يي) لم أنتبه لوجودك حين كنتُ أشتري التذاكر، لكنِّي أظنُّ أننا كنا قريبين للغاية لأنَّ مقعدينا متجاوران. هل رأيتُكِ حين انطلقَ القطار؟ لقد كنتُ أتحدثُ مع أحدهم، وكأنني أهربُ من فراغ، من امتدادِ أشجارٍ منعشة. وحين وصلنا إلى محطة بكين الجنوبية جلسَ شخصٌ ما في مقعدِك، لكنكِ ظللتِ ساكتة، ووقفتِ إلى جانبي، فأحسستُ فجأةً بغرابة، وربما فكَّرتُ أن أقف، لكنِّي وقفتُ ثم ما لبثتُ أن جلستُ مرَّةً أخرى. بدأتُ الإحساسَ بكِ، بشعركِ الخفيفِ الهفهاف عند مؤخرةِ عنقِك. أمسكتُ القلمَ وشرعتُ في الرسم، رسمتُ شيخاً وطفلاً، زوجاً وزوجة، عاملَ مصنعٍ شاباً يجلسُ قبالتي وجهه مُفعمٌ بالبؤس، رسمتُ كلَّ شخصٍ حولك، لكنِّي لم أرسمْك. أشعرُ أنَّ عينيكِ برَّاقتان، تجعلان نظراتي غيرَ ساكنة. ابتسمتِ إلى شخصٍ ما، وتحدثتِ بلهجةِ شنغهاي، وظننتُ أنَّ كلَّ مَن حولكِ أقرباؤك؛ أختكِ، عمتكِ، أو شقيقك الأكبر، لم أكن أعلم تحديداً. غطَّ الجميع مساءً في النوم، وأنتِ إلى جانبي لم تنعسي، ولا أذكر مطلقاً كيف بدأنا الحديث، لكني أذكر أنكِ أجبتني بلهجة بكينية واضحة، وعيناكِ واسعتان جميلتان، عميقتان كأسماك خيالية، وخطُّ أنفك وطرف فمكِ لهما لمعانٌ كمعدن، لم أكن أعلم ما ينبغي عليَّ قوله، فقرأت لكِ شعراً، وتحدثتُ عن أفلامِ وعن أحداثٍ في طفولتي. نظرتِ إليّ، وأجبتني، كان ثمة صدى لكل خطوة، ونسيتُ تماماً أننا كنا في ساعات قليلة ماضية غرباء تماماً، حتى أننا لم نحيِّ بعضنا، لكني أسمع صوتكِ، أعبر العالمَ الرقيق إلى صوتكِ، وأتبع عينيك، لكني أعود إلى تلك اللحظة، وكنتُ لا أزال أتأملُ الشعرَ الخفيفَ في مؤخرة عنقك. مضى القطار في رحلته حتى الفجر، وارتفعت الشمس متمايلة على نهر خاي، وبدا وكأنني أفقتُ، مدركاً أن تلك اللحظات تتلاشى وتُفقَدُ الآن، وستصبحين وهماً خالداً بعد قليل. أما أنتِ فظللتِ مبتسمة، فغضبتُ منكِ، كنت أرى أنكِ الشخص الوحيد الحي في هذا العالم، أنكِ كبرتِ لتكوني أكثر حقيقةً مني. دوَّنتُ عنواني على قصاصة ورقية، وحين وصل القطار المحطة جمعتِ حقائبكِ في هدوء، ومشينا في الممر كلٌّ على جانب، ثم أعطيتكِ القصاصةَ ونزلتُ من القطار. قو تشنغ ــ يوليو 1979 *** الرسالة الثانية (من شِيا يي إلى قو تشنغ) إنّكَ شخصٌ غريب، أو كما يقول والدي: ربما شخصٌ مخادع، فحين دسست القصاصةَ في يدي، كانت تبدو عليك علاماتُ التهذيب والغضب، وقد فكرتُ في أسباب كثيرة لأراك، وسرتُ في طريق طويل على جانبيه أشجار الحور الأبيض، وطرقتُ بابك بخفة، وكانت والدتك مَن استقبلني، وبدت وكأنها تعلم أنني الطارقة، لذا رمقتني بنظرات متفحصة. من ثم خرجتَ أنت، وبدوتَ وكأنك لم تفق من نومك، وقلم الحبر الأسود معُلقٌ في جيبك، ولا ينبغي عليك أن تحدثني عن الفلسفة، فمنظر الملابس الملطخة بالحبر يثير الضحك، أردتُ أن أنبهك، لكني اكتشفت أن الجيب الآخر مُلطّخ كذلك، ففهمت أن تلك عادتك. تركتُ لك عنواني، وأخبرتك بطيش شديد عن موعدِ مغادرتي، وأوصلتني في ذلك اليوم، ولكننا لم نتحدث، كنا نعلم أن تلك هي البداية وليست الوداع. هل ستكتبُ لي؟ قلت سأكتُبْ. كم ستكتب؟ فأشرت بيدكَ، ما يعادل روايتين طويلتين. شياو1 يي ــ يوليو 1979 *** الرسالة الثالثة (من قو تشنغ إلى شِيا يي) شياو يي: استلمتُ صورتكِ على الجبل أثناء الإجازة الصيفية، كنتُ فرحاً، فرحاً للغاية، ونادماً، لِمَ لَمْ أذهب معكِ إلى تشيندي؟ الغروب على الباغودا2 المزخرفة مفعمٌ بالحكمة، ويهب الكثير من الحيوات، وفي المغيب تغرق الطيور التي لا تعد ولا تحصى، وكأن العالم المضطرب ينتهي في تلك اللحظة، ولا يبقى غير الطبيعة، التاريخ الساكن، والأرواح الحرة. عيناكِ مفعمتان ببريق غروب الشمس، مثل اسمكِ، مثل سماء صحوةٍ، سأتأملكِ في صمت، لتشرق الحياة بالنور. أقف عند مدخل تيان قوه مين، وأشعر بشيء من الذعر، تلك المرة الأولى التي تعلمني فيها الحياة الحذر، أما الحماس، فقد دفع بالشجاعةِ إلى دمي. لقد تقابلنا في محطة القطار، فهل ستظن والدتُك أنني شخص سيئ؟ قو تشنغ ــ أغسطس 1979 *** الرسالة الرابعة (من شِيَا يي إلى قو تشنغ) قو تشنغ: أشعرُ أنَّ مزاجي جيد اليوم، وفي إمكاني أن أخبرك الآن أنني كنت مريضة، أصابتني الحمى بدوار لعدة أيام، إلا أنني أفضل حالاً اليوم. كنت أقرأ أو بالأحرى كنت أسمعُ خطاباتك حين كنتُ طريحةَ الفراش، أو ربما أخذتُ روحكَ معي، أحياناً تتقمص هيئتك، وتقرأ لي قصائدك، وكأنني صبية تعيش قرب البحر، وتسمع غناءَ الحصى في أعماقه. دفعتني رسائلك إلى رؤية المستقبل، ويا له من مستقبل! لم لا نستطيع رؤية المستقبل معاً؟ أشعر وكأن السحب ارتفعت من أشجار الصنوبر، وأنت تصعد خطوة خطوة على سلم وأنا إلى جانبك، وأثق تماماً، أن هذا هو القدر، فالوقت الذي نمضيه معاً قصيرٌ للغاية، أمَّا القدر لا متناهٍ. في تلك اللحظة ستهب الريح، وستبعثر شعري، وكأنها ستنفخُ روحي أيضاً لتحلق إلى السماء، كنتُ فرحة للغاية، وتَعِبة. أراكُ كلما أغمضتُ عيني، تبدو كأخ عزيز يقف أمامي، تأخذني بلباقة ونسير في الطريق، تقرأ لي أندرسن، وتقصُّ عليَّ حكايات جان هنري فابر، وتخبرني كيف تنمو الأعشاب على جانبي الطريق، وكم بقعةً على جسم الخنفساء، كنت تسير بحيوية، وكأن الشمال كله ملكٌ لكَ، أو ربما، تود العودة إلى حيث كنت ترعى الخنازير في صغركَ، وتسير في دروبٍ نصلتها مياه الأمطار، وتظهر الأحجارُ البِيضُ بصورةٍ جميلة، وعيناكَ تتأملها، تخترق السماء الهائلة، إلى الشرق، وتغسل دموعك المُرّة الأرضَ القاحلة، ويغمرُ الأرجاءَ مدىً من بياض، كالثلج، كالشتاء، هناك بالضبط كنتَ تسير، وتبتعد شيئاً فشيئاً، لأنك لا زلت تثق أن هناك شاطئ خلاص، تلمع أرضه بإشراقة حين يُلقي الفجر بنوره، أرض متعرجة، تعشش داخل التواءاتها طيور وإوز، تحتضن رؤوسها تحت أجنحتها وتنام، أنت تنتمي إليها، بإمكانك التحليق، والعالم منعكسٌ في عينيك، أما أنا فلا يسعني إلا أن أستلقي، أستلقي مريضة على الرمال الحارة. لا أريدكَ أن تنأى بعيداً، وقد خطر ببالي أن أغطي عينيك بيدي، ولا أفكر بفعل ذلك الآن، فقد يبعثُ في نفسي الارتباك والسأم. لم يقل أحد إنك شخصٌ سيئ، القطارات تروح وتجيء محملة بالناس، منهم الصالح والسيئ، لكنك لست هذا أو ذاك، بل أنتَ شخصٌ فريدٌ من نوعه. شِيَاو يي ــ أغسطس 1979 الرسالة الخامسة (من قو تشنغ إلى شِيَا يي) شياو يي: فقدتُ السيطرةَ ما إن لمست يدي خطابَكِ، وأحاطني نغمُ غَيْمٍ دافئ، وكان العالمُ يشبه كاتدرائية يتردد صداها من بعيد، وأنت تطفين، وتقتربين قليلاً. استيقظتُ مشحوناً بكراهية، كراهية تجاه نفسي، تجاه جسدي الضئيل البائس الذي جُذِبَ إلى الأرض، والتصقَ بإحكامٍ في شباكِ عنكبوت، ومهما كرهتِ الصراعَ والواقع، لا بد أن يقتربا منكِ، يجذبانِك، ويجعلانك تنأين عن أحلامك. قو تشنغ ــ منتصف أغسطس 1979 *** الرسالة السادسة (من شِيَا يي إلى قو تشنغ) قو تشنغ.. تغمرني سعادة لا أدري سببها حين أكتبُ اسمكَ بشكلٍ خاطئ. بدأتَ تتحدث عن الحياة، تتحدثَ عنها بنبرةٍ كئيبة، وإذ أعلم أنَّ الحياةَ لا تخضع لإرادتنا، إلَّا أنني لستُ خائفة، لأنَّ ثمة قوة ما تُولد من الألم تدفعني إلى رفضه، وإلى أن أوصد البابَ بشدة، بالطبع، أتمنى ألَّا تكون خلف هذا الباب. أنا لا أصدق الواقع على الإطلاق، بل أصدقك أنت، ويداهمني شعور أنني أفهمك أكثر بقليل ممَّا أفهم نفسي. هل تفهمني؟ هل أفهمني؟ لقد راودتني تلك الأفكار وأربكتني ذلك اليوم في محطةِ بكين للقطارات. والآن أمد يدي لكَ. شياو يي ـ أغسطس 1979
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©