الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مفهوم جون لوك للتسامح تغير أكثر من مرة

مفهوم جون لوك للتسامح تغير أكثر من مرة
30 مارس 2011 20:08
عرف الفيلسوف الانجليزي “جون لوك” بين الدارسين العرب من خلال دراسته “رسالة في التسامح” وكانت هذه الرسالة من واقع ظروف وأحوال المجتمع الانجليزي في القرن السابع عشر، الذي شهد صراعا حادا بين البروتستانت والكاثوليك، لكن الرسالة فيها ما يتجاوز ذلك الواقع وتلك الظروف وصولا الى ما هو إنساني عام. وصدرت لهذه الرسالة اكثر من ترجمة باللغة العربية، لكن تبقى ترجمة د.عبدالرحمن بدوي لها نكهة خاصة، فهي عن الأصل اللاتيني، فضلا عن مقدمة مستفيضة تقترب في حجمها من صفحات الرسالة الأصلية. هذه الرسالة كانت تتويجا لموقف جون لوك من هذه القضية وهو موقف تطور عبر سنوات حياته ففي عامي 1661-1662 كتب رسالتين عن التسامح انتهى فيهما الى أن كل الأفعال، مهما كان نوعها، تقع تحت سلطة من وكل اليه التصرف في حرية وحياة كل فرد من أفراد الرعية. والمقصود هنا هو الحاكم المدني، ولذا يمنح هذا الحاكم سلطة مطلقة على كل أفعال الناس في المجتمع. وعليهم ان يطيعوا القوانين التي يسنها الحاكم حتى لو كانت خاطئة. ويحذر لوك في هذه المرحلة من المطالبة بحرية الضمير وحرية الفعل، لانها تؤدي الى مخالفة الحاكم وإشاعة الاضطراب ونشر الفوضى، ولا يتردد لوك في المطالبة باستعمال العقوبات والقوة القاهرة ضد المخالفين فالقهر يرغم المخالف على الخضوع والإذعان. والتسامح في هاتين الرسالتين هو المرادف للعصيان وللفوضى وللخروج على الحاكم. بعد خمس سنوات يعاود لوك النظر في موقفه السابق من التسامح، حيث يكتب “مقالا في التسامح” وبدأ يميل فيه فعلا الى التسامح ويقال إن السبب في ذلك انه ترك انجلترا الى ألمانيا وأقام بها عدة شهور في مدينة كلف، كان في مهمة دبلوماسية وقد وجد جو المدينة الألمانية مختلفا عما اعتاده في انجلترا بلده، ومن هناك بعث برسالة الى صديقه يقول انه رأى الكاثوليك والبروتستانت وغيرهما يمارسون طقوسهم وعباداتهم بحرية تامة وان كلا منهم يتقبل الآخر ويحتمله وان كل واحد منهم يسمع للآخر في هدوء. وقال: لم ألاحظ اي نزاع أو عداوة بينهم في أمور الدين. انهم يرون اراء مختلفة من دون أن يعتلج في نفوسهم أي بغض أو حقد. وفي هذا البحث يميل الى الحد من سلطان الحاكم المدني على الناس، اذ يقول “لا يجوز للحاكم المدني ان يتدخل إلا فيما يؤمن السلام المدني وممتلكات رعيته”. ويتقدم خطوة اخرى بهذا الاتجاه مطالبا الحاكم بألا يتدخل نهائيا في أي أمر يتعلق بالدين، لانها مسألة تتعلق بالإنسان وربه و”ليس من المعقول ان يطلب الناس من الحاكم المدني ان يختار لهم الطريق الى النجاة، إنها مسألة خطيرة لا يمكن التساهل فيها” ويصف لوك المخالفين في الرأي وفي العقيدة بانهم أفراد يتبعون ضمائرهم وقناعاتهم بإخلاص ولا مجال في هذه الحالة لاستخدام القوة القاهرة كي يغيروا اراءهم ولكن علينا ان نحاول إقناعهم بأن يصيروا اصدقاء للدولة. وان لم يكونوا أبناء الكنيسة السائدة في المجتمع. وفي مرحلة ثالثة سنة 1679 يدون لوك مذكرة جديدة بعنوان “التسامح” يواصل فيها النزوع نحو التسامح ويقول مثلا: “ليس لأي انسان السلطة في ان يفرض على انسان اخر ما يجب عليه ان يؤمن به أو ان يفعله لأجل نجاة روحه هو، لان هذه المسألة شأن خاص ولا تعني أي انسان آخر. إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي إنسان ولا لأي جماعة، ولا يمكن لأي انسان أن يعطيها لآخر”. وآخر مرحلة لتطور فكر لوك في هذا الصدد، رسالته التي بين ايدينا، التي طبعت لأول مرة في هولندا سنة 1689 من دون ان يذكر اسمه عليها كمؤلف، وهي حوالي ستين صفحة من القطع المتوسط، لكنها تقدم موقفا فكريا متكاملا وواضحا، يقوم على الفصل التام بين الدولة والكنيسة، أو الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية وفي الرسالة يصبح التسامح واجبا ليس على الأفراد فقط، بل على المؤسسة الدينية نفسها، أي الكنيسة ومن أفكاره في هذا الصدد، ان الكنيسة ليست ملزمة بالتسامح مع عضو يصر على هتك قوانينها بل لها الحق في طرده، لكن هذا لا ينبغي أن يؤدي الى حرمانه من اي حق من حقوقه المدنية، ويجب على رجال الدين الامتناع عن اضطهاد الاخرين، سواء من رعاياهم أو من مخالفيهم، وعليهم كذلك ان يحثوا اتباعهم على ان يكونوا متسامحين. ويصل التسامح عنده الى ان يقول: ليس للحاكم المدني ان يمنع من استعمال اي شعائر أو مراسم مقررة، بما في ذلك الوثنية. ويؤكد أن حرية الضمير حق طبيعي لكل انسان وان لكل انسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين والعقيدة. ويحمل جون لوك في رسالته على رجال الدين، خاصة، في لجوئهم الى السلطة المدنية في أمور العقيدة لأن ذلك يكشف أطماعهم في السيطرة الدنيوية وهم بهذا يساندون نوازع الطغيان لدى الحاكم والملاحظ على مدى التاريخ ان تحالف الحاكم مع رجال الدين كان دائما لصالح استبداد الحاكم وطغيانه فهو الأقدر على التأثير فيهم واغرائهم بينما هم ليسوا قادرين على تقويم دوره إلى السبيل الصحيح، ان هو جنح إلى الظلم والاستبداد بالمواطنين. ويسخر جون لوك في رسالته من اتهام المخالفين للمذهب السائد في الدولة بانهم بؤر لتفريخ الفتن وألوان العصيان، والسبب في دواعي الفتنة عند المخالفين هو ما يعانونه من اضطهاد المذهب السائد لهم، واذا تم التعامل معهم بتسامح فسوق تزول أسباب الفتنة والعصيان، باختصار نوقف ما يتعرض له المخالف من اضطهاد وتعذيب فتهدأ الفتنة. ويبلغ التسامح مداه عنده في الدولة التي يجب ان تسمح للمخالفين بممارسة حياتهم العادية “لا يجوز استبعاد وثني أو مسلم أو يهودي من الدولة بسبب دينه. والانجيل لا يأمر بشيء كهذا، والكنيسة، وهي لا تحكم على من هو خارجها لا تريد هذا. والدولة، وهي تقتل الناس بوصفهم ناسا طالما كانوا امناء مسالمين مجتهدين لا تحتاج الى هذا”. وهو يطالب بالتسامح مع المسيحي الذي يترك دينه ويعتنق الاسلام، يقول “ان المسلم لا يمكن ان يعد منشقا بالنسبة الى المسيحي، واذا تحول امرؤ من الدين المسيحي الى الاسلام فانه لا يصير بهذا هرطيقا وانما يعد مرتدا” ثم يقول “وهكذا يتبين أن الناس المختلفي الأديان لا يمكن ان يعدوا منشقين بعضهم بالنسبة الى بعض”. وله في ذلك شرح مطول وموسع بالرسالة. ولكن نلاحظ في الرسالة ان هناك مجموعتين من البشر لم يتسامح معهما هم الكاثوليك أو البابويون كما يطلق عليهم والملحدون. نشر هذه الرسالة الآن مهم، فهو يقدم للقارئ العربي رأيا في قضية مازالت مطروحة عليه، خاصة أن مجتمعاتنا مازالت تعج بالخلافات الفكرية والمذهبية وتفتقد التسامح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©