الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ماذا فعلت بنا الأصابع الصغيرة؟

ماذا فعلت بنا الأصابع الصغيرة؟
25 مايو 2017 20:19
يحدّثنا أطفال الديجيتال من عمق الشاشة العنكبوتية كما من قلب أطلس جديد. لكنّنا لا نتقن الإنصات إليهم دوما، وربّما ليست لنا بعدُ الآذان المناسبة لأصواتهم. هم الذين يفضّلون المكوث حذو حواسيبهم بدلاً من السهر حذونا، هم الذين تؤنسهم الألعاب الافتراضية بدلاً من حكايا الجدّات حيث ترعرعنا، نحن آباؤهم وأمّهاتهم، الذين لا يكفّون عن الشكوى ممّا آل إليه أبناؤهم المدمنون على الحاسوب. لكنّ أبناءنا ليسوا أبناءنا، إنّهم أبناء الحياة، هكذا قال جبران خليل جبران يوما. نمط جديد من البشر يولد أمام أعيننا وفي بيوتنا ومن أرحامنا، نحن الذين نتأرجح بين منظومة تقليدية منهوكة، وعالم جديد متمرّد على قيمنا وأذواقنا، هو عالم أبنائنا. نعم، هم أبناؤنا، أطفال عالم الديجيتال، أطفال افتراضيّون لا أحد قادر على أن يمارس عليهم وصايته القديمة، هم الذين اتّخذوا من الحاسوب دماغا جديدا عوّض كلّ أشكال التفكير التقليدية، ذاك الصندوق الإلكتروني الذي قد يجعل سلطة الآباء وبيداغوجيا الأستاذ والكتاب في شكله الكلاسيكي، وطقوسنا الدينيّة أمورا مثيرة للضحك في المستقبل القريب. لكن من هم أبناؤنا؟ لماذا لا يشبهوننا في أذواقنا وفي قيمنا وفي أحلامنا؟ يبدو أنّنا لم نفكّر بعدُ بما يناسب في هذا التحوّل العميق الذي هو بصدد الحدوث على ماهية الإنسان نفسه، إنسان المستقبل، الذي قد لا يحتاج أفكارنا عن الله ولا عن الدولة ولا عن الحبّ والجنس. ولادة «الإصبع الصغيرة» هذا النمط الجديد من الإنسان ينبّهنا إلى ضرورة التفكير فيه الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال سار في كتاب صغير له (2012)، ترجمه إلى العربية د. عبد الرحمان بو علي، تحت عنوان «الإصبع الصغيرة». والإصبع الصغيرة أو الإبهام الصغير، رمز لهويّة مجهولة، فلانيّة، فرديّة وعالميّة، سريّة حميميّة وتواصليّة مشتركة في آن معا. كيف ولد هذا النمط الجديد من البشر؟ بأيّ عالم يحلم؟ وبِمَ يُحدّثنا؟ لقد دخلنا عالما جديدا كلّ شيء فيه تغيّر. لقد كنّا نعيش في القرى، فتحوّلت أريافنا إلى أماكن لقضاء العطل، فصارت القرى فارغة في حين تعجّ المدن بالسكّان. لقد امتلأ العالم فجأة فقفز النموّ السكّاني من مليارين إلى سبعة مليارات. لم يعد هذا النمط الجديد من البشر يتألّم كما نتألّم، ولا هو سيموت كما كنا نموت. إنّه يستفيد من كل الثورات الطبية ومن مسكّنات الألم ومن إمكانيات الموت الناعم أيضا. والسؤال الذي كان من المفروض الانتباه إليه هو « قبل أن نعلّم أيّ شيء لأيّ شخص، يجب ــ على الأقلّ ــ معرفته. فمن ذا الذي يتقدّم اليوم إلى المدرسة الإعدادية، الثانوية، أو الجامعية؟». إذن بدلا من الاستمرار في خطابات التشكّي من التلميذ الجديد، الذي لم يعد يطالع الروايات كما كنّا، ولم يعد يخاف من الأستاذ كما خفنا، ولم يعد منضبطا طيّعا كما انضبطنا، علينا الانتباه إلى هذا العالم الجديد الذي دخلناه: عالم الإنترنت بوصفه ثورة معرفية ووجوديّة عميقة لا أحد منّا بوسعه التنبّؤ بشكل المستقبل الذي تحمله لأطفالنا. من هو إنسان السبّابة الصغرى؟ هي «السبابة» أو هو «الإبهام»، كي نحافظ على الاختلاف الجنسي كما يصرّ على ذلك الفيلسوف عمدا، «لم يعودا يسكنان الزمن نفسه، بل أصبحا يعيشان قصّة أخرى». هما وقع تشكيلهما تحت مجهر التكنولوجيات الحديثة منذ أن كان كلّ منهما في رحم أمّه إلى أن أصبح إزاء صور يوميّة للجثث، بحيث «منذ سنّ الثانية عشرة، يقوم هؤلاء الكبار على إجبارهم على رؤية أكثر من عشرين ألف جريمة». هما وقع صنع العالم أمامهما عن طريق الإشهار، بحيث يهمّش الإعلام المدرسة والجامعة، ونتحوّل إلى مجتمع مشهدي قائم على زمن جديد: ليس زمن متعة المطالعة أو التفكير أو الاكتشاف، بل هو زمن المشاهدة والاستمتاع والإغراء والنجاعة والبضاعة.. هذا النوع الجديد من الإنسان، «إنسان السبابة وإنسان الإبهام» هما، بتوصيف ميشال سار، «لا يملكان الرأس نفسه.. إنّهما لا يعيشان في المساحة نفسها.. ولم يعد لديهما الجسم نفسه، والعمر المتوقّع نفسه، ولا يتواصلان بالطريقة نفسها، ولا يريان العالم نفسه..». ما الذي حدث؟ ما حدث هو أنّ إنسان الإبهام الصغير لم يولد كما كنّا قد وُلدنا، في شكل من الصدفة البيولوجية العمياء، بحيث بعضنا لم يكن مرغوبا في ولادته، في حين أنّ ولادة إنسان «السبابة الصغيرة» هي ولادة مبرمجة، وهو أو هي مرغوب في ولادته ومحتفى بها. هو نوع من الهديّة ونحن بعضنا كان قد وُلد كما لو كان زائدا على اللزوم في نظر بعض من آبائنا. لم نولد بنفس الطريقة، ولن نموت بالطريقة نفسها، لذلك نحن لا نتكلّم اللغة نفسها ولا نسكن نفس العالم . «السبّابة الصغيرة» تحمل رأسها بين يديها. تتنقّل حيثما شاءت بلمسة لطيفة لأزرار الحاسوب. تفتح حاسوبها، وهي تضع رأسها أمامها وتمسك بخلايا الذكاء البشري بين يديها. إنّها تملك رأسا مليئة بمعطيات ومعارف لا تحصى. وهنا يستعيد ميشال سار أسطورة قديمة للأسقف المسيحي القديس «دنيس» الذي حمل رأسه المقطوعة بين يديه إلى أعلى التلّة بعد أن قُطعت من طرف الجنود الفرنسيين في منتصف الطريق. يقول: «في الآونة الأخيرة، أصبح جميعنا سان دنيس، مثلنا مثله..بين أيدينا مربّع الحاسوب..ذاكرة أقوى ألف مرّة من ذاكرتنا، وخيال مليء بملايين الأيقونات..لقد تمّ طرح رؤوسنا في هذا الصندوق المعرفيّ المجسّد». ثورة جديدة هي الإنترنت علينا التأريخ لها جيّدا. شهدت الإنسانية ثلاث ثورات معرفية: الكتابة ثمّ الطباعة ثمّ الإنترنت. واذا كانت الكتابة قد أعفت البشر من حفظ كل شيء، واذا كانت الطباعة قد ساهمت في صنع دماغ جيّد، فإنّ الإنترنت قد جعلت المعرفة في متناول الجميع. فكيف يمكن اليوم أن نعلّم أبناءنا وهم يملكون كل المعارف، وبإشارة إبهام واحد يمكن للمدرسة والجامعة والمكتبة أن تتحوّل إلى متحف قديم للزيارة وللذكرى؟ هكذا لم تعد «رأس الإصبع الصغيرة «مطالبة بأن تشتغل كثيرا كي تحصّل المعرفة، فكل المعارف متوفّرة أمامها في دماغ الحاسوب، وكل معطيات الذكاء البشري مطروحة بين يديها، مجمّعة ومجسّدة و ومنظّمة وموصولة. والسؤال الذي يحرجنا نحن الجيل الذي قضّى حياته في تحصيل شاقّ ومملّ للمعارف، هو «هل تحتفي الإصبع الصغيرة بنهاية عصر المعرفة؟». ماذا فعلوا بنا؟ لقد تغيّرت كل المفاهيم والخرائط على يد هذا الإنسان الجديد : الحدود بين الصعب والسهل، المرور من الصفحة إلى الشاشة، وتغيّر مكان المعرفة، وبالتالي لقد أصبحنا أمام «شيء مغاير غير الكتاب»، وربّما لن يحتاج أبناؤنا إلى مكتباتنا القديمة، ولا إلى كتبنا التي تتحوّل يوميّا في عالمهم إلى مجرّد طعام مناسب للغبار. وهو ما يعلن على ولادة «اقتصاد جديد، اقتصاد جذري هذه المرّة: فلا أحد يحتاج إلى التفكير في المكان(الذي نضع فيه الكتاب)، فمحرّك بحث يتكفّل بذلك». نحن «أطفال الكتاب وأحفاد الكتابة» لن يكون بوسعنا ربّما مصاحبة هذه الأصابع الصغيرة التي أصبحت تكتب بأصابعها العشرة وتحرّرت من «الشكل الفضائي الذي يعكسه كل من الكتاب والصفحة». ماذا تبقى فوق الأعناق المقطوعة؟ يبدو أنّ الرأس التي قُطعت هي رأس قديمة استنفدت معارفها وآن الأوان لدماغها أن يستقيل من باحة صناعة الذكاء البشري. أمّا عن الرأس الجديدة التي بوسع الجميع اللعب معها وبها وفي باحتها الافتراضية الوسيعة، فهي رأس فارغة، لأنّها لا تحتاج إلى أن تكون ممتلئة (حفظا) ولا إلى أن تكون جيّدة الصنع (عصر الطباعة)، هي رأس لا تخشى الفراغ، بل يمتعها التحليق فيه «بصراحتها الفارغة البيضاء». لم تعد هذه الرأس المقطوعة، المحلّقة في عمق هذا الصندوق الإلكتروني العجيب تؤمن بالكوجيطو، فهي لا تحتاج إلى الوضوح المنهجي، بل فقط إلى السرعة، سرعة المحرّك في استحضار المعرفة. مكان جديد متحرّك حيويّ وطافر، هو مكان افتراضي لا يحتاج إلى أساطيرنا ولا إلى لاهوتنا القديم كي يضمن استمراريّته، لأنّ هذا المكان لا يستمرّ بل يصير على الدوام،إنّه زمن الصيرورة بدلاً من زمن الخلق أو زمن الكينونة، إنّه «زمن الضوء الشفّاف المنبثق عن الانفصال أي عن اللاشيء». «إنّها نهاية عصر المعرفة»، والدخول في عالم التواصل والاتصال. نعم هو نمط جديد من البشر لا يحتاج إلى دعاة ولا إلى ساسة ولا إلى جامعات، إذ بإصبع واحد بوسع هذا الإنسان أن يتواصل مع أيّ إنسان آخر في العالم، و بوسعه أيضا ادراك ما يرغب في معرفته حول تاريخ الأرض أو مستقبل الدين أو امكانية السكن في المرّيخ. «إنّها نهاية عصر صانع القرار». بحيث لم يعد أطفال الديجيتال في حاجة إلى منظومتنا البيداغوجية والتربويّة. لقد وقع تحرير الجسم من سلطة المعرفة القديمة المناظرة لملوك الحق الإلهي التي كانت تقتضي «الإذلال من الأجسام»، من المحكمة إلى المسرح، ومن الكنيسة إلى المذبح. وعليه تمّ الافراج عن الجسم وصارت الإصبع الصغيرة تملك «جيوبا مليئة بالمعرفة». وربّما لن يكون أطفالنا في حاجة إلى الأستاذ القديم، بل «لقد مات فصل الأمس.. ولقد تحرّرت الأصابع الصغيرة من سلاسل الكهف..التي كانت تربطها، جامدة وصامتة، في مكانها، بأفواه مخيطة ومؤخّرات مسمّرة فوق الكراسي». وانطلقت الأصابع الصغيرة تسطو على كلّ الفضاءات : الجميع يأخذ الكلمة و يملك المعرفة ويشارك في سياسة ما يحدث : «فلا كهنة في مكان المعبد، فالمعبد قد امتلأ بالمتعبّدين، ولا وجود للمعلّمين في المدرجات، هناك، وحيثما ولّيت وجهك هناك الأساتذة..» . ماذا تقول لنا الأصابع الصغيرة؟ أوّلاً: إن كنتم تعيبون عليّ فرديّتي وأنانيّتي فمن علّمني إيّاها غيركم ؟ وأنتم هل استطعتم أن تشكّلوا فريقا أو أن تعيشوا حتى أزواجا؟ لقد اندثرت في عالمكم كل الانتماءات القديمة (الأخوة،الرعايا، الأوطان..) لا شيء تبقى غير زراعة الأحقاد وصناعة القتل المتوحّش. أنتم الذين تسخرون من الشبكات الاجتماعية، يكفينا فخرا أنّ كلمة «صديق» تمكّننا من جمع مجموعات هائلة قد يقترب عددها من عدد البشريّة. ثانيا : ضدّ الانتماءات القديمة المتعطّشة إلى الدماء، إنّ الفضاء الافتراضي أفضل لأنّه «لا يطلب الموت من أحد» ، فنحن « لانبني أيّة مجموعة بذبحنا مجموعة أخرى». ثالثا: إنّ إنسان الأصابع الصغيرة ينتمي إلى أنواع متعدّدة من التهجين الإنساني، إلى هذه الخلائط الإنسانية التي تسيل مثلما تسيل الأنهار، إنّه يسكن نسيجا مركّبا، مشهد بصريّ ثريّ وفوضى غامضة من الأصوات والمعاني التي تنبئ بانقلابات جديدة. وختاما، ربّما يكون أطفالنا قد اخترعوا بعدُ لأنفسهم وجهة مغايرة لانتماءاتنا الضيّقة، فلنترك لهم باحة المستقبل لأنّنا لا نملك منه غير أوهامنا ومخاوفنا الكسولة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©