السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فيوض ضوئية.. تضمر وتفصح

فيوض ضوئية.. تضمر وتفصح
16 سبتمبر 2009 23:02
إنّه فيض من «الصور» الباهرة.. فيض من النور الباهر هذا الذي يبثه يومياً مهرجان الفنون الإسلامية فلك الفسيسفاء منذ افتتاحه في الشارقة مساء الثاني والعشرين من أغسطس الماضي، إلى حدّ أنّ من العسير على المرء أنْ يلاحظ ويدرك الصور كلها في معانيها التي تحتاج إلى تأمل في أحيان كثيرة ووقفات تسمح للناظر إليها بتقليبها على أوجه الـتأويل. بهذا المعنى فالمهرجان أشبه بورشة كبيرة متعددة الأوجه وينتج عنها الكثير من الأنشطة والفعاليات التي قد لا تتكرر ثانية وهي في أغلبها قد جرى توجيهها بحيث تستهدف جمهوراً متعدد الثقافات يريد أن يصل إليه المهرجان عبر الوسائل المختلفة وفي أماكنه المختلفة في إمارة الشارقة. يُضاف ذلك إلى حضور «المقدس» بتجلياته المختلفة وبتعبيراته الكثيرة التي ما زال هذا الدين يعبّر بها عن نفسه وعن موقفه الجمالي الإيجابي من العالم ومن المعرفة. وهذا الأمر، لا يتعلق بشهر رمضان الفضيل وحده، بل أنجز من أجل عرضه في المهرجان أو كان منجزاً أصلاً وتمّ عرضه، سيبقى في جوهره أثراً فنياً يحمل طابعه الخاص به وبصاحبه الفنان فضلاً عن أنه إحدى التجليات الروحية لثقافة سكنت عميقاً في نفوس الناس ووجدان المنطقة العربية وامتداد قوسها الحضاري الإسلامي في العالم. ولعل هذه هي الرسالة والأثر الأبلغ الذي يتركه هذا الفعل الثقافي ممثلاً بالمهرجان، عندما يتيح إنتاج هذا الكمّ الكبير من الآثار الفنية التي ستبقى من بعد أصحابها آثاراً فنية بطابعها الإسلامي أو التي تتميز بثقافتها العربية والإسلامية، وبما أنها كذلك فهي ستبقى، في أرقى نماذجها، على ما هي عليه فيما تقدم فنّاً هو، بحدّ ذاته اقتراح جمالي، يحمل «بصمة» ثقافة الناس ها هنا على ما هي عليه بكل مكوناتها وخصوصيتها وعناصر هويتها الأخرى. أيضاً، وفي الوقت نفسه، فإنّ إنتاج الأثر الفني في هذا السياق ليس على صلة بالتراث الفني الإسلامي وحده، أو بما كان ينتجه الآباء والأجداد وفقا للموازين الخاصة بعصورهم وبالطرائق والأساليب ذاتها لكي تقوم بإنتاج معانٍ بعينها كانت تجعل من الفن العربي ذا طابع وظيفي وحمّال رسالة فحسب من دون أخذ حاجة الفرد إلى التعبير عن نفسه إبداعياً ومعرفياً ـ جمالياً. لقد اتسعت الدائرة كثيراً في العصر الحديث والمعاصر، بل إن الكثير من الفنانين المشاركين بأعمالهم في معارض مهرجان الفنون الإسلامية قد قدموا لوحات وحروفيات وصوراً فوتوغرافية تنتمي، بالفعل، إلى الحداثة وما بعدها، على المستويين الرؤيوي والتقني، وجرى توظيف العديد من التقنيات الرقمية الحديثة المعقدة لإنتاج أعمال فنية قد تطرح إشكاليات خاصة بمعنى الفن إجمالاً ودوره والتحولات الجارية عليهما «الآن، وهنا». ما يعني أن هذا الأثر الفني الذي يحمل عناصر من التراث العربي والإسلامي في جانب منه هو في الوقت نفسه يعيش راهنه ويتنفس في عصره ويتصل بما يستجد في العالم من تيارات واتجاهات فنية معاصرة. الشغف بالنور ولعل دليل ذلك هما المعرضان: «طاقة الأبعاد» لعزيز شفشوني و»نظرات» لنور الدين الغماري و«همسات فاس» لجاسم ربيع العوضي الذي افتتح في بيت السركال إلى جوار معارض فوتوغرافية ثلاثة أخرى هي: «جوانيات» للفنان راشد النقبي و»لقاءات ـ محاولة لفهم الإسلام» للفنان النمساوي إيميلو جانوت و»نداء المآذن» الذي هو نتاج مسابقة «عماد الدين» التي أجرتها جمعية الإمارات للتصوير الضوئي. في «همسات فاس» تكاد تكون الصور بالأبيض والأسود مع أنّها ملوّنة تماما. هذا هو الإغواء الأول الذي يقترحه العوضي في الصورة، ثم لتكتشف العين على نحو تدريجي أن «واقعية» الفنان شغوفة باللون، أي بالنور، كما هي شغوفة بالتفاصيل. إن تفصيلاً جمالياً في باب، كأنْ يكون عبارة عن تشققات في أخشابه، ليست معزولة عن انتباهة الفنان إلى أنت تكون جزءاً من يتبادل فيه النور والظل إحداث الأثر في الآخر وبالتالي في عين المناظر إلى العمل ومشاعره أيضاً. إنّ المدينة هذه القديمة بكل ما تحمله عمارتها من مضامين تاريخية، قد بدت بيضاء من «عين» العوضي، أبرزها كذلك بأسلوبه وتقنياته، وقبل ذلك بخبراته المتراكمة في التقاط المساحات الواسعة كمشاهد الصحراء والجبال، إلى حدّ أنه هنا كما لو يكثف تلك الخبرات في هذا المكان الضيق والملهِم، فيلتقط ذلك العادي في ما هو عادي تماما لكن هو الذي بوسعه أن يجعل منه غير عادي عند ظهور النتائج الأخيرة للتجربة الواحدة، ذلك أن المصور ربما كان من النوع الذي لا يكتفي بزاوية نظر واحدة للتفصيل أو المكان ولا بالتقاطه واحدة. وتلك هي مفارقته الشعرية، إذا جاز التوصيف، التي يقدمها الفنان للناظر إلى أعماله. وتقريبا، لا وجود ملموسا لبشر في «فاس» جاسم ربيع العوضي، بل هي العناصر المعمارية للمكان وطبيعة تكويناتها وعلاقاتها الجمالية ببعضها بعضاً الأمر الذي يحقق متعة بصرية للعين ومريحة تماماً لخوض تجربة جمالية مع الصور تقوم على أساس أن الفنان بسعيه هذا وراء تفاصيل جماليات العمارة في «فاس» كأنما يلاحق مكاناً آخر في ذاكرته أو في خيالاته، فلا فرق. ربما لذلك كثرت الصور التي كان يلتقط فيها المصور الأزقة، فكأنما هو يركّب من تفاصيل هذا المكان مكاناً آخر، ومن هنا يغدو المكان بواقعيته الحميمة فرصة لاختبار تجربة ما بل وربما يكون ذريعته، أيضاً، ليقول لنا ما يريد أنْ يقول. وفي الوقت نفسه، للصور جاذبية خاصة أخرى يكتشفها المرء في المعرض بوصفه يتناول مكاناً تاريخياً، حيث بوسع الناظر إلى «همسات فاس» أن يتذكر تجوالاً شخصياً في دمشق القديمة مثلا أو القيروان أو القدس مع البعض من التعديلات التي قد تجريها الذاكرة الفردية ها هنا أو هناك، وفي هذا التفصيل أو ذاك، بدافع من مشاعر فردية استيقظت للتو وأقامت تصالحاً بين تلك الذاكرة والمكان الذي في صورة العوضي قبالته تماما على الجدار. أليس هذا إحساسا جماليا بما هو جميل ومثير وقد تحوّل إلى فكرة؟. ربما. «نداء المآذن» حقا، إن دخول أي الفنان إلى أي مسابقة قد يكون شركا من نوع ما، وخصوصا في البدايات عندما يكون على بوّابة الاحتراف، إذا لم يكن هناك إدراك بأن أقلّ متطلبات أي فن من الفنون هي المقدرة على الإدهاش. من هنا ربما جاءت أغلب أعمال معرض «نداء المآذن» وبوصفه حصيلة لمسابقة «عماد الدين»، أي الصلاة، أعمالا عادية تماما بل جاءت أبعد من فن التصوير الفوتوغرافي، وأقرب إلى فن البوستر والملصق بمحموله الدعائي والإعلاني ربما لأنه بالأساس نتاج تقنية ومهارات تصويرية مكتسبة وليس نتاج مخيلة متأنية وتنتظر كي تبدع ولا تتعجّل في الحصول على النتائج المقنعة وفقا لمقاييس فنية وليس لمقاييس تقنية حتى لو كانت هذه التقنية هي أحدث ما توصل إليه الإبداع الصناعي. ومن هنا ندرة الأعمال التي تجدر بالفوز غالبا في كلّ الجوائز، لأن الإبداع أصلا نادر وليس بسهل المنال. تدور الصور في أغلبها حول المسجد بوصفه المقر الطبيعي والأنسب لصلاة المسلم، فإذا كان الأمر كذلك منذ أكثر من 1400 سنة أين هي المفارقة وأين ينبغي أن يبحث عنها المصوّر؟. تركزّت أغلب الأعمال في أمرين: الأول منهما، تصوير العمارة الإسلامية بما هي عليه فوقعت أغلب هذا النوع من الأعمال في المطب التوثيقي الذي ليس هو المطلوب للمنافسة، أما الأمر الأخير فتمثل في ظهور حشود المصلين سواء داخل المساجد أو على بواباتها، دون التقاط مفارقة ما، تظهر علاقة العابد بالمكان مثلا، أو صورة لطفل ظلّ ساجدا في ما المصلون نهضوا إلى بداية ركعة أخرى، وهذه تفاصيل يستدعي التقاطها الصبر والدأب وتكرار التجربة وعامل الزمن شديد الحساسية فيها، ولذلك فهي الأكثر صعوبة. أمّا الصور التي فازت بالجوائز الثلاث للمسابقة فكانت شيئاً آخر بالفعل. لقد ذهبت جميعاً إلى اقتراحات جمالية بعيدة المكان التقليدي الذي تقام فيه الصلاة، أي المسجد وسعت إلى التقاط جماليتها الخاصة من هذا الخروج عن المألوف. والتي حازت من بينها المركز الثالث للمصور غيلان علي سيف، فربما أنّ السبب في فوزها، فضلا عن ما تمّ ذكره هو الجانب الإنساني فيها، إذ تبرز رجلا من ذوي الاحتياجات الخاصة في العشرينات من عمره في ما يصلي في ظلٍّ لنخلة في حديقة عامة ربما. أما الصورتان الفائزتان بالجائزتين الأولى والثانية لعائشة جمعة الجنيبي وهدى أحمد صفر على التوالي، فهما صورتان مصنوعتان، أي أن المصورتين قد تقدمتا باقتراح جمالي من إبداعهما، علما أن الصورة المصنوعة هي تيار واسع في فن التصوير الفوتوغرافي وما زال اتجاها وله رواده الكثيرون في العالم وفنانوه البارزون في تاريخ هذا الفن. وهذه الصناعة أي الاقتراح الجمالي الإبداعي هو سبب فوزهما بالمركزين الأول والثاني على الأرجح، إذ هناك اشتغال ما للمخيلة وليس الاتكال على التقنيات والمهارات التصويرية وحدهما. وتبرز صورة عائشة الجنيبي براءة وشفافية عبر اختيار عفوي وأنيق فتركز في الصورة على شاهدين لامرأة عجوز وأخرى لطفلة بثياب الصلاة بحيث بدت شاهد الطفلة أشبه بنوع من المحاكاة العفوية، بدورها، تقوم بها شاهد الطفلة التي هي بطل الصورة بالفعل. أمّا هدى أما صفر فربما تكون أكثر جرأة بنزعة تجريبية واضحة فاختارت مكاناً مردوماً ولا سقف له وإلى الأسفل منه طفل يصلي، حيث بدت العلاقات بين العناصر المكوّنة لعملها هي البحث في الجدلية القائمة بين النور والظلال. «جوانيات» و»لقاءات» «جوانيات» و»لقاءات»، معرضان من جهتين متقابلتين، كي لا نقول نقيضتين. فبحسب التسمية أراد راشد النقبي أن يحفر في العمق الداخلي للفكرة ذاتها، في حين يبدو أن «لقاءات» هو طابع استكشافي قادم من مكان أخرى ذي مخيلة أخرى تماماً. أما معرض «جوانيات»، المعرض الشخصي الأول لصاحبه، فكما لو أن الصور قد جرى اختيارها بحيث تبرز مهارات التصوير ومقدرة المصور على التحكم بالنتيجة التي يريد الوصول إليها عبر عمله، وهذا المعرض بصوره التي نحت إلى التقاط التفاصيل في الفوانيس الرمضانية فقد بدا كما لو أنها احتفاء باللون، الذي هو أيضاً طابع خاص للشهر الفضيل، ربما في مسعى من قبل راشد النقبي للوصول إلى ما هو «جواني» في اللون بحد ذاته مثلما في نفْس الناظر إلى صوره. أما «لقاءات – محاولة لفهم الإسلام» للنمساوي لإميلو جانوت، فربما لا تصل رسالته بسهولة إلى المتلقي، فهل أراد المصور أنْ يظهر لنا ذلك الدور الروحاني في الحياة اليومية الذي يقوم به المسجد؟ الصور خارجية كلها وهي لمساجد تحيط بها الأبنية غالباً، أي صورة المسجد في وجوده العادي لكن الحميم في ما يمارس الناس حياتهم اليومية بوصفه جزءاً من المشهد العام لهذه الحياة. والمعرض بشريط الفيديو المرافق لصوره الخمس عشرة لها التي جاء التقاطها في أوقات متعددة، هي صور بدت لافتة فيها تلك العلاقة الحميمة بين النور والظل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©