الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فجأة بدت بريطانيا غير بريطانيا

4 يوليو 2016 23:37
أما وقد وقعت الواقعة، فقد كان مذهلاً كيف تعامل البريطانيون مع نتيجة الاستفتاء على البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي. انهال اللوم، قبل وبعد، على رئيس الوزراء، لأن قراراً كهذا ما كان يجب تعريضه للعبة السياسية، ولا عرضه على الجسم الانتخابي، أو على الأقل ليس بهذه الطريقة التي شابتها عشوائية غير معهودة في ديمقراطية عريقة تحسب فيها الخطوات بدقة. انتظر المعسكران «اليوم التالي» لاكتشاف الأخطاء وإدراك جسامة الخسائر والتغييرات الناجمة عن «الخروج» من أوروبا، فمهما بلغت أهمية الأهداف المتوخاة لا يمكن حتى دولة كبيرة وقوية تبرير اندفاعها إلى تأزيم أوضاعها الاقتصادية والمالية، فقط من أجل بضعة شعارات سيادية وشعبوية تبين واقعياً أن الحملة بالغت في تضخيمها. وقد استعار أحد الكتاب شعار الثورة الفرنسية «حرية مساواة إخاء»، مستبدلاً «الغباء» بـ«الإخاء» لاستخلاص العبرة مما حدث. بريطانيا «العظمى» لم تفقد أهميتها في فوضى «البريكست» والجدل الذي يثيره، فهي لا تزال القوة العسكرية الأهم في أوروبا، ولكنها في صدد أن تضعف، وخصوصاً أن الانفصال يأتي في لحظة حرجة بالنسبة إلى الشأن الدفاعي. فمن جهة اقترب الاتحاد الأوروبي من إقرار خطة «للتصرّف باستقلالية» (عن «الناتو») في مواجهة ازدياد التحديات الروسية أو أزمة الهجرة، أو انهيار الدول القريبة جغرافياً، وكان يفترض أن تتشارك ألمانيا وفرنسا مع بريطانيا في تمويل الخطة. ومن جهة أخرى يستعد الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي لتوقيع اتفاق هدفه التصدّي لتهديدات أهمها روسيا والإرهاب، ولكن حسابات الأطلسي بنيت على أساس أن بريطانيا باقية في الاتحاد الأوروبي. ولذلك راوح استقبال قرار «الخروج» بين ارتياح في موسكو وانزعاج في واشنطن. وبين عشية وضحاها صار بالإمكان رؤية بريطانيا كما لم تُعرف سابقاً، فقدت برودها وبراغماتيتها، وغدت انفعالية ومنزلقة إلى مختلف أنماط التطرّف، كما لو أنها أصيبت بمسٍّ «ربيع- عربيٍ» غير مفهوم فأفاضت بكل الغضب المعتمل داخلها، ضدّ «النظام» الأوروبي، وضدّ الطواقم الحاكمة أو الطامحة والمرشحة للحكم. ومن ثمَّ، نتيجة الغضب، جاء الانقسام على الحاضر والمستقبل. الشباب هم الأكثر غضباً، كانوا أول من استشعر خطر صعود التعصّب، وأول من استشفّ بأن التصويت لـ«الخروج» شكّل التحالف الأكثر غرابة بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء. ويقولون إن أهلهم خذلوهم، إذ ربّوهم كمواطنين عالميين يحلمون بمستقبلهم في أي مكان، والآن يريدون أن يغلقوا الأبواب وينعزلوا. وليس الشباب وحدهم من اعتقدوا أنهم كانوا ضحية مقلب مدبّر بل إن الجميع خُدعوا. كان مؤيدو «البقاء» مع أوروبا بالغي الثقة بأن الاستفتاء سيكون لمصلحتهم، وأخطأوا في المراهنة على غالبية تميل تقليدياً إلى عدم التغيير والمجازفة. ولعل خصومهم كانوا أول مَن عجبوا كيف انطلت أكاذيبهم وتلفيقاتهم على عموم الناس، إذ لم تمضِ أيام قليلة حتى بادروا هم أنفسهم إلى الاعتراف بأنهم لم يتحرّوا الدقة في عرض بعض الأرقام وتعهّد وضع حدٍّ للهجرة. وبسقوطهم في فخّ وعودهم، انكشفت حقيقة أنهم لا يملكون خطة للخروج الآمن والمفيد من الاتحاد الأوروبي. لا، هذه ليست بريطانيا المعروفة بكفاءة الإدارة ودقتها، وإلا فكيف يُفسَّر مثلاً طرح فكرة استفتاء ثانٍ حتى لو كانت محبّذة، أو تأجيل إبلاغ الاتحاد بقرار «الخروج» بغية كسب الوقت، أو حتى مجرّد التفكير في خروج جزئي ينتقي الفوائد ويرمي الواجبات. بل كيف يمكن فهم قول وزير الخارجية الأميركي إن خروج بريطانيا «قد لا يتحقّق أبداً»، ولما طولب بالتوضيح قال إن هناك «طرقاً عدة» لم يذكرها! ولما سئل أحد المعلّقين ما الذي يعنيه جون كيري أجاب مازحاً «أخشى أن يكون كلامه هذا مشابهاً لما قاله مراراً عن «الخطة ب» بالنسبة إلى سوريا»! لكنه أضاف أن الحكم البريطاني ألزم نفسه، «أحبّ أو كره»، بخيار طال النقاش حوله ثم حسمه الناخبون، وإذا حاولت أي حكومة تجاهل نتيجة الاستفتاء فإنها ستواجه ردود فعل يصعب توقّعها، بينها استشراء العنف والتطرّف. صحيح أن قوة القانون وطبائع الإنجليز كانت تحجب صعوداً بطيئاً لظواهر العنصرية، إلا أن الاستفتاء حفز بعض البيئات الشعبية على التعجّل بترجمة نتيجته على أرض الواقع. ومع أن بولنديين ومسلمين عرباً وآسيويين سمعوا مَن ينذرهم بـ«العودة إلى بلادهم» فإن هذه كانت أقلّ المضايقات شأناً بالمقارنة مع اعتداءات مباشرة على الأشخاص، وبالتأكيد أقل أذىً وإجراماً مما تعرّضت له النائبة العمالية «جو كوكس» إذ أطلق أحد مؤيدي «الخروج» النار عليها ثم هاجمها بسكينه للتأكد من مقتلها. كانت تلك إحدى أبشع «جرائم الكراهية» التي لم تعد تُنسب إلا لإرهابيين موصوفين. محلل سياسي - لندن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©