الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«من الأدب التركي المعاصر: مختارات من القصة القصيرة»

«من الأدب التركي المعاصر: مختارات من القصة القصيرة»
16 سبتمبر 2009 01:40
رغم وجود علاقة متشعبة الجذور بين منطقتنا العربية وبين الدولة التركية منذ فترات زمنية بعيدة، إلا أن هناك سياجاً مرتفعاً يحول بيننا وبين ما يدور داخل المجتمع التركي وكيفية الحياة بداخله، لاسيما بعد انهيار تركيا العثمانية، وظهور تركيا الحديثة على يد كمال أتاتورك في بدايات القرن المنصرم. ديوان الحياة يعد كتاب «من الأدب التركي المعاصر: مختارات من القصة القصيرة» بمثابة إطلالة على واقع المجتمع التركي المعاصر قام بها المترجم د. محمد عبداللطيف هريدي، من خلال انتقائه نماذج من القصة القصيرة علّها تُقدم صورة بانورامية للحياة الاجتماعية في تركيا المعاصرة، وذلك إيمانا من المترجم بأن القصة تعد ديوانا للحياة ونبضها. في البداية يعمد المترجم إلى تقديم لمحة سريعة عن نشأة القصة التركية القصيرة وتطورها محللاً المرحلة التاريخية والأدبية التي أفرزت القصص المختارة، سعيا منه إلى التعرف على مستوى النضج الفني الذي وصلت إليه القصة التركية المعاصرة من ناحية، وكذلك استشراف مدى قدرتها على التعبير عن المجتمع التركي المعاصر من ناحية أخرى. خصائص رومانسية يقول هريدي: «الأدب التركي كغيره من الآداب الشرقية دخل تحت تأثير الآداب الغربية مع مطلع القرن التاسع عشر، ونتيجة لهذا التأثير تسربت الأنواع الأدبية الجديدة إلى الأدب التركي، وكان فن القصة القصيرة في مقدمة هذه الأنواع الأدبية الوافدة». وقد تزامن فجر هذا الفن الجديد مع بداية مرحلة تاريخية جديدة في حياة المجتمع التركي؛ تلك المرحلة التي تعرّف فيها على الحضارة الأوروبية متأثراً بحالة من الانبهار بتفوقها التكنولوجي وبمبادئ ثورتها الفرنسية. وقد عُرفت هذه المرحلة بـ (عهد التنظيمات)، وفيها تبنى الروائيون الأوائل مبدأ «الفن في خدمة المجتمع»، وكانت القصة القصيرة، في مقدمة الأنواع التي سخرها الروائيون الأوائل لخدمة أهداف أخلاقية وتنويرية تنصب في الغالب على التعريف بالحضارة الغربية، أو التوفيق بينها والحضارة الإسلامية، أو التحذير من التقليد الأعمى للحضارة الغربية. وقد تميز الإنتاج القصصي لهذه المرحلة بخصائص المدرسة الرومانسية الفرنسية، وبرز في هذه المرحلة الكاتب أحمد مدحت أفندي (1844-1912) وكان له ريادة القصة بلا منازع لوفرة إنتاجه، وسهولة لغته وتقمصه روح التراث الشعبي. القومية التركية يضيف هريدي: «مع اقتراب أفول القرن التاسع عشر دخل الأدب التركي عموما وفي القصة خصوصا منعطفا جديدا حين بدأ الأدباء تحت ضغط السلطات الرقابية آنذاك يبتعدون عن تناول القضايا الاجتماعية مؤثرين التعبير عن مشاعرهم الذاتية وتخلوا عن مبدأ «الفن للمجتمع» وأصبح شعارهم «الفن للفن». وكان إنتاجهم الروائي في البداية يحمل بصمات الرومانسية التي ورثوها عن كتاب التنظيمات، ثم تطور ذلك الإنتاج ليبلغ النضج الفني مداه في أواخر هذه المرحلة. ومع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تبنت جماعة من الأدباء الفكر القومي بكل تجلياته الأدبية واللغوية، ومن هذه التجليات أن تكون أعمالهم الروائية في خدمة مبدأ القومية التركية الذي ظهر بقوة آنذاك، ومع قيام ثورة أتاتورك، استمر الأدباء القوميون على نهجهم وتناولوا نفس الموضوعات التي لم يجدوا فيها تناقضا مع مبادئ الثورة الكمالية. عبثية الحياة يتابع تحليله لواقع القصة التركية وتطورها منذ الثورة الكمالية وحتى أيامنا هذه، ثم يتناول عبداللطيف هريدي مجموعة من القصص التي وقع عليها اختياره لتكون معبرة عن واقع المجتمع التركي في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين. وأهم الموضوعات التي تناولتها تلك المجموعة (القضايا الإنسانية العامة، مثل قضية الحياة والموت، وعبثية الحياة، ومكابدة الإنسان خلال هذه الحياة، كما تناولت حياة الموظفين داخل المدن الكبرى وطموحاتهم الاجتماعية). ولم تخل بعض هذه القصص من توجيه النقد إلى الجهاز الإداري للدولة وجمود لوائحه، وسعي البعض إلى الكشف عن جشع أصحاب رأس المال، واستغلالهم للطبقة العاملة في المدن الصناعية الناشئة في الأناضول أما بعض القصص الأخرى، فانتقلت إلى شرقي الأناضول حيث يعيش الأكراد في بيئة جغرافية قاسية وفي ظروف اجتماعية واقتصادية أشد قسوة، ومن القضايا الأخرى العديدة التي تطرقت إليها القصص التركية المعاصرة قضايا الاغتراب والهجرة، والدعوة إلى إحياء التراث، وكذا دور المرأة المحوري في المجتمع التركي، وأيضا تصوير البيئة الساحلية التركية وحياة البحر التي أصبحت تقليداً راسخاً في القصة التركية بفضل الرواد الأوائل. قص ولصق يظهر بجلاء في أول القصص التي اختارها المترجم وهي بعنوان «قص ولصق» -تدور بالكامل داخل بيئة بحرية تخيلها بطل الرواية- عالما كاملا من الشخصيات الوهمية القائمة على قطع الورق الملونة في يديه، وهذا ما نكتشفه في نهاية القصة حين يخاطب البطل نفسه قائلا: «طويت البحر و(كرمشته) وكذا القوارب الثلاثة، والقارب ذا الشراع ونزعتهم من مكانهم وكرمشتهم مرة أخرى، ثم مزقتهم فألقى البحار بنفسه على الأرض، وأخذ يدق رأسه على الصخور ويبكي، ويتأوه بيد أنني لم أعره انتباها، وكان الطفل منزوع الرأس يبكي أيضا فنزعته من الناحية الأخرى، وكرمشت البحّار والطفل ومزقتهما، لكن لم يصدر عنهما أي صوت، لقد كانا صامتين. وهذا ما أغضبني جدا، كل ما كنت أفعله أنني مزقتهم جميعا مثل المجنون، ولكن ارتحت قليلا وسرت بداخل سكينة وكنت انتهيت توا من الإتيان بفعل مبهج». الواقع المسلم في قصة «المحجبات» لآفت ايلجاز، نجدها تعبر عن الواقع المسلم لتركيا رغم أنها تعيش في محيط أوروبي، وتدور أحداث القصة في شهر رمضان في حوار بين أم وابنتها التي يتنازعها اتجاهان أحدهما الميل إلى الدين والآخر الميل إلى الحياة العصرية، وسعيها إلى المزج بينهما بالشكل الذي لا يطغى في أحدهما على الآخر. ومن بين طيات القصة أيضا نستشف إعجاب المؤلفة وزهوها بالنزعة الدينية الإسلامية وهو ما نجده في وصفها لمجموعة من النسوة المحجبات، فتقول: «كون النسوة يرتدين هذه الطرحة ويدخلن غرفة «المقرأة» لينتثرن ما بين جلوس على المقاعد أو الأرائك أو يفترشن الأرض، تراهن في هذا الرداء يختلفن عما رأيتهن في الشارع، ولم تعجبك هيئتهن، هنا تبدو الواحدة منهن سيدة بكل معاني الكلمة التي تبدو ملاكا طاهرا». أحلام العودة من أعذب وأجمل القصص التي تتناول الاغتراب والهجرة، وهي مسألة شائعة في المجتمع التركي الذي ينتشر الملايين من أبنائه في هجرات دائمة وسفرات طويلة في البلدان الأوروبية المختلفة، اختار المترجم قصة «العودة» للمؤلف نديم جورسك الذي قضى القسم الأكبر من حياته في فرنسا حتى أنه فاز بوسام عام 2004. يخاطب بطل القصة أمه حين تواجهه أحلام العودة بعد مرور السنين، وذلك في حوار داخلي معها فيقول: يبدو أن الفرحة التي كانت تشع من نظراتك حين كنت تراقبين ابنك عبر النافذة قد غابت. ضاعت تلك النظرات التي كانت تشع دفئا وحنانا لأول مرة أراها جامدة بلا حياة، هلا ابتسمت قليلا حتى يعود إلى الجدران بياضها الناصع، وتعود دقات الساعة لتملأ أرجاء الصالة، وينداح التراب من على الكنبة وتسري المياه في عروق الشجر، ولكنك لا تبتسمين. - لقد انتظرتك طويلا وطال انتظاري أياما وليالي. - ولكن ها أنا قد جئت، أخيرا عدت. - نعم جئت ولكنك لست الرجل الذي كنت أنتظره. الطائر الأخير أما قصة «الطائر الأخير» للمؤلف بكير ييلديز، فتنقل صورة حية من داخل أحد البيوت التركية في مدينة ديار بكر التي ضربها الفقر، فنجد العم هاشم وقد طرد من عمله وأصبح وضعه المادي مترديا، لكن أخيه أرسل إليه ابنه ليتم تعليمه هناك في ضيافته، وبالطبع لم يكن بوسعه سوى قبول ابن أخيه ورعايته له رغم الأحوال الاقتصادية السيئة التي يعيشها لتعطله عن العمل. سعى المؤلف بطريقة غير مباشرة إلى الحديث عن الرأسمالية الجشعة وما تفعله ببسطاء الناس دونما تفكير في عواقب السعي المستمر لتحقيق الأرباح على حساب أقوات الناس وأرزاقهم، وهي قضية وإن خص بها المؤلف المجتمع التركي، إلا أنها قضية عامة تشغل بال كثير من المجتمعات، ويتبقى للأدب والأدباء تسليط الضوء عليها، علّ ذلك يؤكد أن أعمالهم الأدبية المختلفة ولاسيما في مجال القصة، تعد أفضل معبر عن الحياة الاجتماعية في كافة مظاهرها وأشكالها.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©