الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«أم الشهيد».. أجملهن

«أم الشهيد».. أجملهن
25 مارس 2015 21:10
غرستهم مثل بذور يانعة في سديم الأرض، فنبتوا في الصور. حملته بيديها كطفل تليق به الحياة، لكن الكفن قرر أن يتشح بجسده. هي (أم الشهيد)، كما رآها الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي في لوحته الفحيمة. عبر كثافة الطبقات السوداء المتزاحمة على مساحات اللون الأبيض الخفية والخجولة في ظهورها، تنفتح لوحة عبدلكي «أم الشهيد» على شلالات من الوجع الدفين الذي تحول الى شهقة صمت صارخة، تتسع معها حدقات العين على شلالات من القراءات التي تحاصرك بألمها وأنينها ووجعها الجنائزي المغزول بالألم والفقد والحزن. الحزن في عيون أم الشهيد المفتوحة على أقصاها، يتبدى عويلا يطلع من الصمت الصارخ، الصاعد على سلالم من قصص الموت والوجع المحتشد بكثافة لا ترحم من ينظر في عينيها الهادرة.. كأنها بصمتها، تريد أن تصفع بالعتب واللوم، من جعل منها ومن وليدها، أثاثاً للقبور. أم الشهيد، لا تكبر، ولا تشيخ، ولا تموت.. منذورة هي للفجيعة، تعيش في محرابها روحاً شقية، حتى وإن تمرد عليها الجسد. (أم الشهيد) لا تستسلم، لكنها تنزوي خلف عينيها وآلامها بانتظار قيامة جديدة لحزن جديد، مديد، يتناسل من بعضه، ومما يصب في معينه من جراح ودماء. سيّدة الحزن هي. تعرف كيف تغزله، أو تتماهى داخل قوقعته. سيّدة الانتظار، تعرف أن أحبتها الذين رحلوا سيبقون حيث هم أزهاراً ندية، بلا ملامح ربما، أو بلا أسماء على الأرجح، لكنهم يتوحدون معها وبها. هم كلهم لها. هي كلها بعض من صرختهم العاتية لحظة السقوط. لم تترك لهم الرصاصة أو القنبلة، متسعاً لدهشة، أو لتساؤل، غير تلك الصرخة أو الأنّة المفتوحة على ذلك التداخل الموحش بين البياض والسواد. لم تتسع حدقات أعينهم ببياضها اللزج حتى أقصاه، إلا لريشة تعبر بهم تلك المتاهة بين الموت والحياة، فدخلوا اللوحة بكل بهائهم، واستقروا صوراً على الحائط، أو بين أيدي أحبائهم. (أم الشهيد) في اللوحة هي (شاهد) يدين بصمته، بوجعه. شاهد يعد كل السفّاحين بأنه سيلاحقه بتلك النظرات المهولة. أليست تلك الطفلة التي تقف إلى جانب (أم الشهيد)، هي عدّة الإدانة في المستقبل؟ هل ستكون هي الأخرى (أم شهيد) آخر، تأكلها الفجيعة، ويسربلها الحزن؟ لماذا تستقي الطفلة ملامحها، وحواجبها المكسورة، من حزن الأم؟ لماذا تتسع عيناها على مدى الحرب؟ هل سيتسنى لها أن ترسل تلويحتها الأخيرة لمن سيفارقها؟.. فالأمهات ـ كل الأمهات ـ لا تبقى منهن إلا تلك التلويحة الأخيرة. الأمهات أجمل النساء، وهي (أم الشهيد) أجملهن. هي التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً، فبكت دمعتين ووردة. هكذا قال محمود درويش. وهكاذا صورها يوسف عبدلكي بريشته الفاحمة. بلغة الأسود والأبيض، بطبيعتها الصامتة وبلاغتها الصادمة، تلخص (أم الشهيد) حقيقة الواقع العربي المرير، الذي يرمي بثقله فوق صدورنا اليوم. لوحة يوسف عبدلكي تحذرنا من قادم الأيام عندما تموت لغة العيون تحت سوط الفقد، وضربات القسوة والغياب والضياع والموت. لوحة يوسف عبدلكي، ملحمة جنائزية، تضفر مسيرته الطويلة بالحداد القديم والمتوارث، هو الذي دخل في اختبارات لا متناهية من القهر والاعتقال والنفي. كل عام وأم الشهيد بخير.. أنت البلاد رغم أنف ريح الحقد والقتل والدم...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©