الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«لا تقصص رؤياك».. القبض على جمر الأحلام

«لا تقصص رؤياك».. القبض على جمر الأحلام
24 مارس 2015 22:41
إبراهيم الملا (الشارقة) من عتمة الموت إلى إشراقه الميلاد، ومن لوثة النشوة، إلى انتباهة اليقظة، ومن جحيم الواقع، إلى فردوس اليوتوبيا، يقودنا العرض المسرحي «لا تقصص رؤياك» للكاتب إسماعيل عبدالله والمخرج محمد العامري، إلى مسار درامي شائك وملغّم بالطقوس والغيبيات، كما بالعنف الملموس والافتراضي معا، وكأن ثمة محاكمة علنية وصادمة هنا لكل ما حصدته السنوات الأربع الفائتة في أوطاننا العربية من هشيم وفتات، وأحالت فيه ربيع الرؤيا إلى دمارات وفوضى وذبول مقيم في الروح والأرض والجسد. «لا تقصص رؤياك» عرض صفق له جمهور أيام الشارقة المسرحية طويلا، بعد اختتام آخر مشاهده اللاهثة والمتدفقة، مثل سيل من كوابيس وهلاوس، لا يمكن للمشاهد سوى أن يقف أمامها مفتونا ومهموما أيضا بتفكيك مقاصدها، وملاحقة ثيماتها الجانحة للتأويل والقراءات المتعددة. احتكاك السيوف يفتتح العرض على مشهد استهلالي يموج بالأداء الحركي الجماعي والمتوتر على وقع الطبول والآهات الغامضة، واحتكاك السيوف ليختتم هذا الإيقاع الجسدي المحتدم بصوت طلقات نارية متلاحقة، يقع على إثرها الراقصون صرعى على الأرض، وتكفلت الإضاءة بتجسيد دمائهم المتدفقة، من خلال اللون الأحمر القاني المنساب على جنبات الخشبة. نتعرف بعدها على نوايا العرض وخباياه من خلال قصيدة تأتينا من خارج الكادر المسرحي وبصوت الفنان أحمد الجسمي، يقول في مطلعها: «بدثار الموت المتلبّد بالعار/ وبالعطش المرّ/ بصمت الثأر المنفيّ الجائع/ يرتاد الظلمة في الأسر/ بصحائف من حبر الجنة/ تصليها نار القبر/ بالصافنات من الأرواح تنازع/ معقود بنواصيها القهر». ومع الدخول التدريجي للإضاءة نرى (منار) ـ الممثل مروان عبدالله صالح ـ ممددا على عربة تجرها زوجته حنين ـ الممثلة بدور ـ وفي يدها طفلهما الرضيع، بينما تحوم بقربهما العرافة ـ الممثلة ملاك الخالدي ـ وهي تكمل المونولوج الشعري الطويل مرددة: «أقصص رؤياك، هنا الموعد والواعد والموعود/ هنا المقصد والقاصد والمقصود»، ويرافقها مجموعة من الأشخاص الهائمين والمنكسرين وهم يطوفون حول جسد النائم (منار)، وكأنهم يبحثون عن خلاص وملجأ ومهرب من عذاباتهم المقيمة، وبؤسهم الطويل، وهذا البحث المضني سيضطرهم للاحتيال على واقعهم، والقفز فوق أخطائهم، بانتظار المخلص أو الوعد المنتظر، والمتمثل هنا في (منار) طريد بؤسه الشخصي، والمزدحم بالرؤى في منامه الثقيل والمنهك هذا. ينسج العرض خيوطه الدرامية والاستعراضية بهدير من المؤثرات الصوتية والموسيقية التي أبدع الفنان إبراهيم الأميري في استحضار نبضها الغرائبي والأسطوري المنهمر في ثنايا النص وفي ديناميكية السينوغرافيا، بينما استطاع الفنان ياسر سيف في تصميم إضاءة قارئة لتفاصيل الرؤية الإخراجية للعامري، في كونها رؤية مشغولة بالتجريب المروّض، والحنكة البصرية المنحازة لشعرية التكوين المشهدي على الخشبة. نقلات مشهدية يرتحل بنا العرض أيضا إلى حالات وقصص وقضايا راهنة وصادمة تتعلق بتجار الدين، والدعاة الكذبة، ويأخذنا إلى حلقات المتصوفة، وجلسات الحشاشين، ونقاشات المثقفين، وحفلات السكارى، ودهاليز البؤساء والمهمّشين، وكل ذلك من خلال نقلات مشهدية تفاوتت بين الحدّة والتدرّج، وبين القطع والتشابك، وبين التجريد الهذياني ومحاكاة الواقع، ومع حضور طاغ للفنان المخضرم والعتيد إبراهيم سالم بسطوة أدائه، وقدرته على تنويع أدواره داخل إطار محتشد بشخصيات ذات ثقل وتأثير وإن كانت تعمل في زوايا وهوامش العرض مثل دور الملك، ودور المريد، ودور المتطرف الديني، ودور الحشاش. ينتهي العرض بمشهد مكثف يجمع كل الباحثين عن خلاصهم والمتحلّقين حول منار ـ صاحب الرؤيا ـ الذي لم يستطع في النهاية أن يبوح بها، لأنه كان أسيرا طوال الوقت لخديعة فارهة تشتت في مطارحها وانقاد لغوايتها دون أن ينتبه لرؤيا زوجته ولنضالها الحقيقي الذي بذل أهلها دماءهم وأرواحهم من أجل خلاص ملموس وقابل للتحقق والإنجواد، كما لم يتنبه منار لطفله الرضيع الذي يجسد الأمل لجيل سوف يخرج من رحم المأساة، ويجابه أزمته بنفسه، دون اتكاء على الآخر البعيد، وغير المعني أساسا بمصير الشعوب الأخرى، بل هو المستفيد على الدوام من تفككها وتمزقها واحترابها الداخلي. في لحظة الختام الجامحة هذه، سوف يمتطي كل القابضين على أحلامهم المفلسة عربة عالية وثقيلة، ويعبرون فوق جسد الزوجة ـ المخلّص الحقيقي ـ بينما ينسل من تحت جثتها الدامية، ذلك الطفل الرضيع الذي يذهب إلى المستقبل ببصيرة واثقة، وغير آبه بكل الخرافات والمعتقدات البالية والمتناقضة للساكنين في جرح الماضي ومتاهته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©