الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فطور وسحور واحتفالات في كتابات الرحالة

فطور وسحور واحتفالات في كتابات الرحالة
9 سبتمبر 2009 23:31
حافظ العرب على رحلة التجارة ورحلة الجهاد والسفارة، ضمن ما وصلهم من التركة الحضارية.. وقد حرص المسلمون في طلب الرحلة، ولكنهم أضافوا ثلاث حاجات جديدة إليها حتى تلبي أو تجاوب متطلبات الحياة المتنوعة، والتي تمثلت وعبرّت عن مبلغ تنشيط تلك الرحلة في: رحلة الحجّ ورحلة طلب العلم ورحلة التجول والطواف. مكة المكرمة.. جوهرة الإسلام وقبلة المسلمين برز في التراث الجغرافي العربي وعبر القرون الإسلامية المتعاقبة رحالة مسلمون جابوا الآفاق ودوَّنوا بقلمهم ما وصلوا إليه من مدن وبلدان وأصقاع تجاوز بعضهم فيها رقعة الخلافة، وسجلوا لنا تفاصيل عديدة عن عادات وتقاليد الحياة الاجتماعية لتلك الأقوام والمِلَل والنِحَل التي قصدوها، فكانت بحق سجلاً لأولئك الناس أحتفظ بها العرب في مُصنفاتهم الجغرافية ونهل منها الغربيون ما شاء أن ينهلوا وأعجبوا وأشادوا بكل فخر واعتزاز بتلك الرحلات العربية في مؤلفاتهم الصادرة لاحقاً. وقد دوّن الرحالة العرب الذين قصدوا جزيرة العرب ما شاهدوه من احتفالات تقام خاصة في استقبال الأشهر العربية، ورسموا في رحلاتهم صورة ناطقة حيّة عن احتفالات المسلمين بشهر رمضان المبارك في كلٍ من مكة المكرمة والمدينة المنورة، واخترنا رحالتين يُعدان من اشهر رحالة العرب هما: ابن جبير، وابن بطوطة اللذان وصفا لنا حياة الناس خلال الشهر الكريم بكل أمانة وصدق. ابن جُبير في مكة المكرمة ولد أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني، الشاطبي، البلنسي، في عام 540هـ، الموافق 1145م في مدينة بلنسية من أسرة عربية عريقة، وبدأ ابن جبير بعد أن تلقى علوم الدين والشريعة في شاطبة، وبرز كشاعر وكاتب لدى حاكم غرناطة بالأندلس، رحلته إلى الأراضي الحجازية مع صديقه أحمد بن حسّان، فزار مكة المكرمة وأقام فيها قُرابة نصف عام، ثم قصد المدينة في طريقه إلى الكوفة وبغداد وسامراء والموصل في العراق، بعدها زار حلب ودمشق في الشام. وقام ابن جبير في الرحلة الثانية التي استمرت عامين عند سماعه نبأ تحرير بيت المقدس على يد القائد صلاح الدين الأيوبي عام 583هـ / 1187م، وأما رحلته الثالثة والأخيرة فبدأها وعمره في الثالثة والسبعين ولم يعد إلى مسقط رأسه حتى توفاه تعالى في الإسكندرية عام 614هـ / 1217م. ووصف الرحالة ابن جبير في كتابه: «تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار» المعروف برحلة ابن جبير، شهر رمضان في مكة المكرمة والاحتفالات الخاصة بقدوم وإحياء لياليه المباركة لعاميّ 578 ـ 579 هجرية، فسجل مظاهر ختم القرآن الكريم فيها في كل وتر من الليالي العشر الأواخر في رمضان. فوصف في رحلته إلى مكة الأركان الأربعة للحرم، وبإزاء المقام الكريم منبر الخطيب، فقال: «وهو أيضاً على بكرات أربع.. فإذا كان يوم الجمعة، وقرب وقت الصلاة، ضمّ إلى صفحة الكعبة الذي يقابل المقام، وهو بين الركن الأسود والعراقي، فيسند إليه المنبر». وأشار ابن جبير بإسهاب إلى توجُّه الخطيب إلى باب النبي (صلّى الله عليه وسلّم) وهو يقابل في البلاط الآخذ من الشرق إلى الشمال، ويصف لنا ملابس الخطيب ولون عمامته السوداء والطيلسان الذي يرتديه، وإذا قرب الخطيب من المنبر يقول عنه ابن جبير: «فإذا قرب من المنبر عرّج إلى الحجر الأسود فقبلّه ودعا عنده، ثم سعى إلى المنبر، والمؤذن الزمزمي ـ رئيس المؤذنين بالحرم الشريف ـ ساعياً أمامه، لابساً السواد أيضاً». ويشير إلى جلوسه ومبادرة المؤذنين بإعلان الأذان بلسان واحد، ثم تلاوة الخطبة. كما عرفنا ابن جبير في رحلته عن الاحتفاء بالأهِلَة في مكة، وما يجرى فيها من احتفالات وكيف دخل أمير مكة مكثر المذكور داخل الحرم الشريف مع طلوع الشمس، والاحتفال بشهر رمضان فيها، فسجل الاهتمام الكبير بزيادة أحجام وأعداد وسائل الإضاءة منذ صلاة المغرب (الفطور) وحتى الفجر (السحور) وتجديد فُرُش الحرم الشريف من الحصير عند دخول غُرّة الشهر الكريم. ثم ذكر الرحالة إقامة صلاة التراويح في الحرم المكيّ في عدّة أماكن متفرقة، وكان لكل فرقة إمامها، وأن عدد ركعات التراويح بلغت أربعاً وعشرين ركعة خارجاً عن الشفع والوتر، مع تعدد مرات الطواف حول الكعبة المشرفة فيما بينها. وذكر ابن جبير عن السحور في مكة، الذي كان يتم من المئذنة التي توجد في الركن الشرقي للمسجد الحرام، وذلك بسبب قربها من دار شريف مكة، فيقوم الزمزمي بأعلاها وقت السحور داعياً ومُذكِراً ومُحرِّضاً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانهِ ويقاولانهِ. ونظراً لترامي الدُور بعيداً عن الحرم المكي حيث يصعب وصول صوت المؤذن كانت تنصب في أعلى المئذنة كما يقول ابن جبير: «خشبة طويلة في رأسها عمود كالذراع وفي طرفيه بَكْرَتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يُوقِدان مُدّة التسحير فإذا قَرُبَ تبيّن خطى الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرّة بعد مرّة حطَّ المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ وثُوب المؤذنين من كل ناحية بالأذان. وعندما يرى أهل مكة من سطوح منازلهم العالية القنديلين قد أُطفئا علموا أنّ الوقت قد انقطع». كذلك دوّن هذا الرحالة العربيّ في أثناء إقامته في مكة المكرمة لمظاهر ختم القرآن الكريم في كلّ وتر من الليالي العشر الأواخر في شهر رمضان، حيث كان أبناء مكة من الصبية يتنافسون في ختمه والاحتفال بذلك بإيقاد الشموع والثريات وتقديم الطعام. وأشار الرحالة إلى ابن إمام الحرم الذي ختم القران في ليلة خمس وعشرين وأعقب ذلك بخطبة بليغة نالت استحسان الحضور على الرغم من صغر سن الخطيب. ونقل حكاية أخرى عن غلام مكيّ من ذوي اليَسار دون الخامسة عشر احتفل أبوه به عند ختمه للقرآن العظيم في ليلة ثلاث وعشرين، حيث أعدّ له ثريا صُنِعت من الشمع وذات غصون علقت فيها أنواع الفواكه اليابسة والرطبة، وأعدّ لها والده شمعاً كثيراً، ووضع وسط الحرام شبيه المحراب المربع أقيم على قوائم أربعة تدلت منه قناديل مُسرجة أحاط دائرة المحراب المربع بمسامير مدببة الأطراف غرز فيها الشمع وأوقدت الثريا المغصّنة ذات الفواكه، ووضع الأب بمقربة من المحراب مِنْبَرا مُجللاً بكسوة مجزعة بمختلف الألوان، وحضر الإمام الطفل فصلى التراويح وختم وقد ملئ المسجد بالرجال والنساء وهو في محرابه وحوله الشمع المضاء. رمضان عند ابن بطوطة ولد الرحالة العربي أبو عبدالله محمد بن إبراهيم اللواتي، نسبة إلى لواته، المعروف بابن بطوطة، في مدينة طنجة بالمغرب، ومكث فيها إلى أن بلغ الثانية والعشرين، فاندفع بدافع التقوى إلى أداء فريضة الحج، وانساق بحبه الأسفار إلى التجوال في بلدان العالم المعروف في أيامه. ويُعدّ ابن بطوطة سيّد الرحالة العرب والمسلمين، وأمضى ما يقارب من نصف عُمره وهو يتجول بين البلدان، واستغرقت رحلات ابن بطوطة زهاء تسعٍ وعشرين سنة، أطولها الرحلة الأولى التي لم يترك ناحية من نواحي المغرب والمشرق إلاّ زارها. وقد خرج من طنجة وعمره اثنان وعشرين عاماً وعاد إليها وقد أشرف على الخمسين، وقُدِّر ما قطعه في رحلاته بما يربو على خمسة وسبعين ألف ميل، وشملت جولاته بلدان المغرب العربي، ومصر، وبلاد الشام، وشبه جزيرة العرب، والعراق، وجزءاً من الساحل الشرقي لأفريقية، والأندلس والهند وروسية الجنوبية، وغيرها. واختزن هذا الرحالة في ذاكرته المشاهد والصور والأخبار التي سردها، وإنّ قصة رحلاته من أطرف القصص وأجزلها نفعاً، لما فيها من وصف للعادات والأخلاق، ولما فيها من فوائد تاريخية وجغرافية، ومن ضبط لأسماء الرجال والنساء، والمدن والأماكن التي زارها وعاش فيها، وجاءت أوصافه بأسلوب فكهٍ، توخى فيه الأمانة، حتى لو كان الأمر لنفسه، وهذا ما جعل المستشرق دوزي يلقبه بالرحالة الأمين. وابن بطوطة شاهد عيان على حلول غرّة شهر الصوم المبارك في مكة المكرمة، فذكر لنا في رحلته تفاصيل عديدة عن عادات أهلها استهلال الشهور، ومنها شهرا رمضان وشوال، فقال عن عادات المكيين في استهلال الشهور قائلاً: «وعادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر، وقوّاده يحفلون به، وهو لابس البياض معمم، متقلدٌ سيفاً، وعليه السَكينة والوقار، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين ثم يقبل الحجر، ويشرع في طواف أسبوع، ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم، فعندما يكمل الأمير شوطاً واحداً ويقصد الحجر لتقبيله يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له والتهنئة بدخول الشهر رافعاً بذلك صوته ثم يذكر شعراً في مدحه ومدح سلفه الكريم، ويفعل به هكذا في سبعة أشواط، فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين ثم ركع خلف المقام أيضاً ركعتين ثم انصرف، ومثل هذا سواء يفعل إذا أراد سفراً وإذا قدم من سفر أيضاً». ثم عرض لنا عادة أهل مكة في شهر رمضان المُعظّم فقال: «وإذا أهلَّ هلال رمضان تضرب الطبول والدبادب عند أمير مكة، ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرم نوراً، ويسطع بهجة وإشراقا، وتتفرق الأئمة فرقاً... من القُرّاء يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلاّ وفيها قارئ يصلي بجماعته، فيرتج المسجد لأصوات القُرّاء، وترقّ النفوس وتحضر القلوب وتهمل الأعين. ومن الناس من يقتصر على الطواف والصلاة في الحجر منفردا، والشافعية أكثر الأئمة اجتهادا، وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة، وهي عشرون ركعة، يطوف إمامهم وجماعته، فإذا فرغ من الأسبوع ضربت الفرقعة التي ذكرنا أنها تكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة وكان ذلك إعلاما بالعودة إلى الصلاة، ثم يصلي ركعتين ثم يطوف أسبوعاً، هكذا إلى أن يتم عشرين ركعة أخرى، ثم يصلون الشفع والوتر، وينصرفون. وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئاً، وإذا كان وقت السحور يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم، فيقوم داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور، والمؤذنون في سائر الصوامع، فإذا تكلم أحد منهم أجابه صاحبه، وقد نصبت في أعلى كل صومعة خشبة على رأسها عود معترض قد علق فيه قنديلان من الزجاج كبيران موقدان، فإذا قرب الفجر، ووقع الأذان بالقطع مرة بعد مرة حطَّ القنديلان، وابتدأ المؤذنون بالأذان، وأجاب بعضهم بعضاً. ولديار مكة، شرّفها الله، سطوح فمن بَعُدَت داره بحيث لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحر حتى إذا لم يبصرهما أقلع عن الأكل. وفي ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن، ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء، ويكون الذي يختم بهم أحد أبناء كبراء أهل مكة، فإذا ختم نصب له منبر مزين بالحرير، وأُوقِدَ الشمع، وخطب، فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات». وعن الاحتفال بليلة القدر المباركة وختم القرآن الكريم قال ابن بطوطة: «وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر، وأعظم تلك الليالي عندهم ليلة سبع وعشرين، واحتفالهم لها أعظم من احتفالهم لسائر الليالي، ويختم بها القرآن العظيم خلف المقام الكريم، وتقام إزاء حطيم الشافعية خشب عظام توصل بالحطيم، وتعرض بينها ألواح طوال، وتجعل ثلاث طبقات، وعليها الشمع وقنديل الزجاج، فيكاد يُغَشِّي الأبصار شُعاع الأنوار، ويتقدم الإمام فيصلي فريضة العشاء الآخرة، ثم يبتدئ قراءة سورة القدر، وإليها يكون انتهاء قراءة الأئمة في الليلة التي قبلها، وفي تلك الساعة يمسك جميع الأئمة عن التراويح تعظيماً لختمة المقام، ويحضرونها متبركين، فيختم الإمام في تسليمتين ثم يقوم خطيباً مستقبلا المقام فإذا فرغ من ذلك عاد الأئمة إلى صلاتهم وانفض الجمع، ثم يكون الختم ليلة تسع وعشرين في المقام المالكي في منظر مختصر، وعن المباهاة مُنزّه موقر، فيختم ويخطب». هورنيكا وسحور مكة وصف الرحالة والمستشرق الهولندي سنوك هورنيكا سحور مكة المكرمة بقوله: «بعد منتصف الليل بحوالي نصف ساعة وطوال أيام السنة يعتلي المؤذنون منارات الحرم السبع ويقومون.. ولمدة ساعتين بالتذكير». والتسحير الذي تكون أجزاء منه بالشعر وأخرى بالنثر المسجوع ثم ينهون ذلك بالآذان الأول للصلاة.. وبعد نصف ساعة من هذا الآذان يلقون بنبرات رنانة بالإنذار الأخير.. حتى لا تفاجئ خيوط الفجر الأولى للصائمين.. وهنا تتردد في أسماعهم صيغ كثيرة منها قولهم: أيها النُوّام قوموا للفلاح… بعدها يسير المُسحرون في الشوارع وهم يقرعون طبولهم أمام كل منزل كبير حاثين ساكنيه بالصيغة التقليدية على الاستيقاظ من النوم: ويأتون في يوم العيد إلى أصحاب هذه المنازل كل على ظهر جحش ويتسلمون هدايا نقدية من بعضهم وعينية كبعض الحبوب من بعضهم الآخر. ويعطيهم الكثيرون هدية الإفطار ـ زكاة الفطر أو الفطرة ـ وهي كمية محدودة من وجبة مجهزة من دقيق القمح، وأضاف: إثر ذلك يمهد الترحيم لمدة عشر دقائق للأذان ويؤدي هذا الترحيم طوال أيام السنة وهو مثل التذكير، والتنبيه ـ الأذان الأول ـ علامة دقيقة والترحيم التضرع إلى رحمة الله: «الصلاة يا عباد الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد وله الملك يُحيي ويميت وهو حي لا يموت أبدا إليه المصير وهو على كل شيء قدير أفلحَ من يقول: لا إله إلا الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. ويمر في الوقت نفسه بعض المتطوعين في شوارع مكة الرئيسة ويقفون عند ركن كل شارع يحثُّون النائمين على الاستيقاظ، منشدين بصوت عالٍ: الصلاة يا عباد الله، ويكتفي بعضهم بذلك بينما يستمر آخرون في إنشاد صيغ أخرى». هورغرونيه ورمضان ثم أشار سنوك هورغرونيه للاحتفالات الخاصة بالشهر الكريم وعيد الفطر في المدينة المنورة ومكة المكرمة ذاكراً إحدى القصص الطريفة التي رواها على لسانه: «وهناك قصة طريفة تتكرر سنوياً للأطفال في حوالي العشرين من شعبان تقول: لقد بدأت قافلة شيخ رمضان من المدينة المنورة اليوم ـ ومعنى هذا أنّه لابدّ أن يكون في مكة في ظرف عشرة أيام ـ وفي كل يوم تال تسمى المرحلة التي يجب على شيخ رمضان قطعها في الطريق وفي النهاية يبقى غير مؤكد ما إذا كان سيصل في يوم أو يومين، لأنّ بداية الشهر تعتمد على رؤية الهلال في المساء الذي يلي التاسع والعشرين من شهر شعبان. ثم يذكر هورغرونيه عن استعدادات أهل مكة المكرمة لاستقبال شهر الصيام قائلاً: «يستعد المكيون للصيام بنظافة معداتهم. فيذهب كل واحد منهم إلى طبيب يسأله عن ـ شربة ـ ويجهزها الطبيب بطريقته الخاصة التي يعتبرها ككل وصفاته سرية جداً». ثم حدثنا عن مدفع الإفطار في مكة: «وينتظر الناس بتلهف صوت المدفع الذي يعلن بداية شهر الصوم. وبعد سماعه مباشرة تصبح شوارع السوق أكثر حيوية وينادي بائعو المأكولات في كل مكان عليها وهي مأكولات طيبة المذاق مُفضلة في رمضان. فيشتري منها من سيصومون وجبة كاملة يتسحرون بها قبل الفجر لتعينهم على الجوع وعلى ما هو أسوأ من ذلك وهو العطش في اليوم الأول للصيام». عادات أهل مكة وبعدها ذكر هورغرونيه سرداً لجوانب من حياة المكيين في أيام شهر رمضان خلال أربع وعشرين ساعة فوصف لنا ما يجري قبيل غروب الشمس وهو ـ الغروب ـ الحدّ الفاصل بين يومين. واصفاً المسجد الحرام، وتدفق المصلين أفواجاً أفواجاً وكلّ واحد منهم يحملُ في يده كيساً أو سلّة صغيرة مملوءة بالخبز أو التمر والزيتون أو التين، والعبيد يحملون على رؤوسهم الأطباق المعدنية المليئة بالطعام. وبعد أن يأخذ كل واحد منهم أماكنهم منتظرين اللحظة التي يُلَوِّح فيها الريّس ـ رئيس المؤذنين ـ بعَلَم وهو واقف على الطابق العلوي لمبنى بئر زمزم لجنود القلعة. عندها يضرب الجنود المدفع. ويضيف: «وبسماع المدفع تهمهم صفوف الموجودين شكراً لله. ويتبع ذلك الشراب أولاً، ثم الطعام. وبعد دقائق قليلة يرفع الأذان من المنارات السبع وتُصلّى صلاة المغرب». فقد قَرُبَ الصباح كذلك رصد في حديثه عن رمضان تكبيرات المصلين، وعودة النّاس إلى منازلهم حيث تنتظرهم أزواجهم وأطفالهم بوجبة كاملة. والإشارة إلى نوم الكسالى على حدّ قوله بعد الإفطار، وذهاب الغالبية إلى المسجد الحرام لصلاة العشاء، وتفرق المصلين إلى مجموعات لصلاة التراويح ذاكراً أعدادها وتفاصيل عن أدائها، وما يقرأ فيها من سور قرآنية، بعد ذلك ينقلنا ليوضح قيام المكيين لأداء العمرة الرمضانية. ثم ينتقل ليواصل وصفه للسحور المكي قائلاً: «بعد منتصف الليل بحوالي نصف ساعة وطِوال أيام السنة يعتلي المؤذنون منارات الحرم السبع ويقومون.. ولمدة ساعتين بالتذكير والتسحير الذي تكون أجزاء منه بالشِعر وأخرى بالنثر المسجوع.. حتى لا تفاجئ خيوط الفجر الأولى الصائمين فيتفلون ما في أفواههم من طعام أو شراب. والاسم الشعبي لهذا التحذير هو التتفية: أيّها النُّوام قوموا للفلاح واذكروا الله الذي أجرى الرياح إنّ جيش الليل قد ولّى وراح وتدانى عسكر الصبح ولاح اشربوا وعجِّلُوا فقد قَرُبَ الصباح ثم يروي ما يقوم به المسحراتية في الشوارع الذين يقرعون طبولهم أمام كل منزل كبير حاثين ساكنيه، ويأتون يوم العيد إلى أصحاب هذه المنازل ليتسلمون الهدايا النقدية والعينية كبعض الحبوب، ويعطيهم الكثيرون زكاة الفطر أو الفطرة. وبعد ذلك يعرض هورغرونيه بعد نصف ساعة من التتفية يمهد الترحيم لمدة عشر دقائق للأذان. والترحيم تضرع إلى الله: الصلاة يا عباد الله، لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الحمدُ وله المُلك يُحيي وهو لا يموت أبداً إليه المصير وهو على كل شيء قد أفلح مَنْ يقول: لا إله إلاّ الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ويمرّ بعض المتطوعين في شوارع مكة الرئيسة ويقفون عند ركن كل شارع يحثون النائمين على الاستيقاظ، مُنشدين بصوتٍ عالٍ: «الصلاة يا عباد الله» ويكتفي بعضهم بذلك بينما يستمر آخرون في إنشاد بقية الصيغة المعهودة. ويشير إلى أنّه بعد نصف ساعة يسمع الصائمون صوت الأذان، وعقب الصلاة يشرع الناس بالذهاب إلى السوق للتبضع وشراء اللحوم والحليب والخضر والخبز، لأنّ هذه المواد لا تتوفر وقت العصر، ويجلس التجار على دكات عريضة مظللة بأكياس الخيش ليعرضوا بضاعتهم عليها، ويطوف من لا عمل له قبل شروق الشمس حول الكعبة المشرفة، وتظل المحلات التجارية مفتوحة لبيع الأدوات المنزلية والزينات والأقمشة ولوازم الملابس، وتدبّ الحياة في السوق في أيام رمضان الأخيرة لشراء الحنطة لتقديمها لزكاة الفطر وشراء الملابس الجديدة، ويتعطل الحرفيون عن العمل في أيام الشهر المبارك ويضبط المكيون ساعاتهم عند أذان المغرب على الساعة الثانية عشر، حيث أنّهم يقسمون اليوم إلى خمس فترات حسب أوقات الفرائض، والليل مقسم إلى فترتي التذكير والترحيم. استقبال هلال العيد أما عن استقبال أهل مكة المكرمة لهلال عيد الفطر فيورد بأنّهم في شوق لظهور الهلال الجديد الذي يحدد نهاية الشهر الكريم وهم يجتمعون لمراقبته في المسجد يوم التاسع والعشرين ما إذا كان العيد غداً أم بعد غدٍ. ويقول هورغرونيه: «وعند رؤية الهلال الجديد تنتشر الأخبار في المدينة انتشار النار في الهشيم. ففي كل ناحية ينزل العبيد من المنازل إلى الشوارع ليخبطوا على السجاجيد الكبيرة، أو بالأحرى، يضعون اللمسات الأخيرة للنظافة الكبرى. ونرى في كل مكان ـ مشربيات ـ جديدة تحلّ مكان القديمة. ويمتلئ السوق بأُناس يتجولون هنا وهناك للشراء الذي أجل كالعادة حتى الليلة الأخيرة. ويستكمل كل واحد تقريباً ما نقص من ملابس العيد لأسرته وخدمه، ويشتري الحلويات والعطور التي سيقدمها لزواره، ويشتري أثاثاً جديداً، ويذهب إلى الحلاق ليقصّ شعره.. ويستمر الطبخ، والسلق، والخبز في المنزل. وتُزين غرفة الاستقبال بمناسبة العيد. وتُجهز غرفة ثانية واسعة لوجبة يتناولونها بعد صلاة العيد بساعات قليلة. ولأداء صلاة العيد يذهب المصلون إلى المسجد الحرام.. ويبقون بعد صلاة الصبح انتظاراً لصلاة العيد ومشاهدة دخول المواطنين المسجد في ملابس العيد». وقارن هورغرونيه بين العيد الصغير «الفطر» وعيد الأضحى لدى المكيين فيذكر أنّهم في العيد الكبير «الأضحى» مشغولون مع الحجيج ولذلك فهم لا يستمتعون به استمتاعهم بعيد رمضان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©