الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمد دياب: الأوراسيّة.. كاسحة الأيديولوجيات

محمد دياب: الأوراسيّة.. كاسحة الأيديولوجيات
18 ابريل 2018 20:51
الأوراسيّة عقيدة روسيّة ترغب بالتحوّل من جديد إلى تيار فكرو/‏‏‏ سياسي منظّم هدفه معارضة الهيمنة العالمية للغرب، واستعادة موسكو لتوازنها من جديد مع حلف الأطلسي وإقامة «الإمبراطورية الأوراسية» المعبّرة عن الروح القومية الروسيّة المتجدّدة، وبسط الهيمنة الجيوسياسية لهذه الإمبراطورية على المحاور البرية والبحرية المجاورة، والتي يشكّل عالمنا العربي والعالم الإسلامي أحد أحزمتها المركزية.. وكله بحسب ألكسندر دوغين، فيلسوف الأوراسيّة، وعقلها التنظيري المدبّر، والمؤلف لأكثر من 32 كتاباً، في طليعتها كتبه المختصّة بالهوية الروسية والتحديات المصيرية والاستراتيجية المفروضة على الدولة - الأم الروسية، خصوصاً كقطب عالمي يرفض الأحادية القطبية ويسعى إلى فرض التعددية القطبية بديلاً منها. والأوراسية كما يصفها دوغين في كتابه «النظرية السياسية الرابعة» ليست عقيدة جامدة أو نظاماً منجزاً، بل هي دعوة للإبداع السياسي على أن هذه الدعوة تظل أيضاً نداء حاراً لحضّ الشعب الروسي على استجماع قدراته وقواه بغية تأهيل بلاده لاستعادة مكانتها القطبية الدولية. هنا حوار بانورامي مطوّل مع البروفسور د. محمد دياب، الخبير اللبناني المتعمّق بالشؤون الروسية، يتناول المبادئ الأوراسيّة، والنظام العالمي الجديد على الطريقة الروسية، وغربة المثقف الروسي، ومشروع «جماعة الأرض» الروس، ومفاهيم الحداثة الروسية... إلخ. والبروفسور دياب دكتوراه في العلوم الاقتصادية، وباحث في الشؤون الجيوسياسية، وخبير باقتصاد المعرفة، ومطّلع واسع على الأدب الروسي بوجهيه الكلاسيكي والمحدث. له مؤلفات عديدة من أبرزها «نهاية العصر السعيد»، «أزمة النموذج النيو ليبرالي للرأسمالية»، «التجارة الدولية في عصر العولمة». كما قام بترجمة العديد من الكتب عن الروسية مباشرة؛ وهي اللغة المتضلع فيها على نحو يلفت الأدباء والباحثين الروس قبل غيرهم، بنيةً وثقافةً ومحمولات معرفية شتى. * ثمة من يتحدث في روسيا اليوم عن نظام عالمي جديد على الطريقة الروسية، فما معنى ذلك؟ وما فلسفته في ظلّ التحدّيات المصيرية التي تواجهها تلك البلاد؟ ** كثيرون في روسيا يرون أنها تواجه تحديات مصيرية، ناجمة عن لاعدالة النظام العالمي القائم على الأحادية القطبية والهيمنة الغربية على مقدّرات العالم. ويتجلّى ذلك في السيطرة الاقتصادية والسياسية، وفي العقوبات الاقتصادية التي تفرض على دول عديدة، وفي مقدمتها روسيا، والهادفة إلى تكريس التبعية الاقتصادية وما يسميه بعض الروس الاستعمار الاقتصادي لبلدهم، وفي النزاعات العسكرية، خصوصاً في المناطق المحاذية لروسيا (أوكرانيا، وقبلها جورجيا، وفي ما تسميه روسيا «الخارج القريب»، أي شمال القوقاز وحزام آسيا الوسطى). ويرى البعض أن ما نشهده إنما هو مؤشرات أو علائم حرب عالمية جديدة داهمة، تأخذ الآن شكل حرب هجينية – إقليمية، هي في الواقع عالمية ولكن بأدوات أخرى. هذه التحديات، في رأيهم تهدد أمن روسيا، لا بل وجودها كدولة. في مواجهة هذه التحديات تطرح ضرورة قيام نظام عالمي جديد نوعياً، يقوم على المبادئ التالية: = فلسفة هذا النظام تتمحور حول مسألة السيادة، بمعنى حق التحكّم بمصيرك يتجلى في أن تضع قواعدك وتسن قوانينك وتمارس سياستك الخاصة، من دون تدخل خارجي. = على المستوى الداخلي: تحقيق الانسجام بين العدالة والشرعية، وبالتالي بين المجتمع والدولة. فبالنسبة إلى المجتمع، العدالة هي العنصر الرئيس في هذا النظام. أما بالنسبة إلى الدولة، فالشرعية هي العنصر الرئيس فيه. وعندما تصطدم الدولة بالمجتمع، يقع الصدام بين الشرعية والعدالة، بما يؤدي إلى خلل داخلي في الدولة، يجعلها ضعيفة أمام الخارج. = على المستوى الدولي: يفترض النظام العالمي على الطريقة الروسية إزالة الأحادية القطبية، وفرض التعددية القطبية بديلاً منها. فإزاحة هيمنة قوى عظمى واحدة، من شأنها أن تخلق الظروف الموضوعية لضمان العدالة على المستوى الدولي. = على المستوى الأوراسي: ضمان أمن أوراسيا، فروسيا تعتبر نفسها قلب أوراسيا، وأوراسيا قلب العالم (وفق النظرية الجيوبوليتيكية الأوراسية). إذا استقرت أوراسيا، تستقر روسيا (والعكس صحيح)، وتصبح قادرة على الدور المنوط بها ضمن هذا النظام العالمي. إذا استطاعت روسيا تحقيق كل متطلبات إقامة هذا النظام العالمي: تطوير اقتصادها، تعزيز قدراتها العسكرية، تعزيز نفوذها على المستوى الدولي، وبالدرجة الأولى في أوراسيا وصولاً إلى الشرق الأوسط وحوض المتوسط (حلم روسيا الأبدي في المياه الدافئة)، فإن ذلك يوفر لها الشروط الضرورية لمواجهة التحديات الوجودية التي تتهددها. تبعيّة لا استعمار * برأي الباحث الروسي سيميون أورالوف تواجه روسيا اليوم استعماراً ثقافياً وليس اقتصادياً، قوامه انخراط البلد في النظام العالمي الإمبراطوري وبخاصة من خلال اندماج غالبية النخب الحاكمة فيه.. ما تعليقك؟ ** نعتقد أن الباحث محق جزئياً في ما يقوله، وإن كنا لا نوافق على استخدام مصطلح «استعمار». كما أننا لا نوافق بالمطلق على ما يسميه «استعماراً ثقافياً». فهو قد يكون محقاً بنسبة كبيرة في ما يخص ضعف الاقتصاد الروسي وتبعيته، ولاسيما في مجال القطاعات والفروع الطليعية والمتقدمة المرتبطة بالاقتصاد الحديث، اقتصاد المعرفة والمعلوماتية، وارتباط القطاع المالي والمصرفي الروسي بالاقتصاد المالي العالمي (الغربي في الواقع) من زاوية التبعية له والدوران في فلكه، ما يجعل روسيا أحياناً رهينة لقرارات وتدابير تتخذ في مراكز القرار الأميركية والغربية عموماً. وهذا ما نسميه تبعية. أما على المستوى الثقافي، فلا نرى تبعية، ولا «استعماراً» بالطبع. فالمجتمع الروسي يتسم بالغنى الثقافي، بتنوع الإنتاج الثقافي وغزارته. قد نجد في البيئة الثقافية من له هوى غربي، يتمثل بالغرب وقيمه الثقافية، ويرى مستقبل روسيا في التوجه غرباً. وهذا تيار ثقافي روسي كان قائماً دائماً ولا يزال. غير أن ما نراه سائداً في المجتمع الثقافي الروسي، هو في الغالب نتاجات ثقافية روسية تتسم بالأصالة قبل كل شيء. أما ما يقوله الباحث عن «اندماج غالبية النخب الحاكمة»، فهو صحيح إلى حد كبير. ولكن يمكن الحديث هنا عن «اندماج» بالمفهوم السياسي، لا الثقافي. فهذه النخب ليست هي الحاملة للقيم الثقافية الروسية. أوراسيا العظمى * ماذا تقول في طرح ألكسندر دوغين، وهو فيلسوف الحركة الأوراسية الجديدة، الداعي إلى إنشاء دولة أوراسية عظمى، تتكامل خلالها روسيا الحالية مع سائر الجمهوريات السوفياتية السابقة، في اتحاد روسي جديد؟ هل يشكّل مثل هذا الطرح حلاً لمأزق روسيا التي تواجه تحديات كبرى وخطيرة على المستوى الاستراتيجي الدولي قد تطيح بها كدولة عظمى متحدّية؟ ** تمثل الفكرة الأوراسية، أو «النزعة الأوراسية»، تياراً صاعداً تزداد قوته اليوم، خصوصاً في مواجهة التحديات الوجودية التي تواجهها روسيا. يرى دعاة التيار الأوراسي، وألكسندر دوغين أبرز ممثليهم اليوم، أن المشكلة الأساسية التي تواجهها روسيا، والتي أدت إلى فقدانها الكثير من عناصر قوتها كدولة عظمى ومراكز نفوذها ومصالحها الحيوية في العالم ووصولها في تسعينيات القرن الماضي إلى حافة الانهيار والتفكك، تكمن في تخليها (الطوعي أو القسري، وهذه مسألة تحتاج إلى نقاش) عن دورها الطبيعي الذي رسمه لها موقعها الجيوسياسي المحوري، والتحاقها الذيلي حينذاك بالسياسة الغربية الأطلسية. ينتمي أنصار هذا التيار إلى «النزعة الأوراسية» التي ظهرت في عشرينيات القرن الماضي على أيدي مفكرين روس من أمثال نيقولاي تربتسكي وبيوتر سافيتسكي وليف تموميليف وغيرهم. وتتلخص الفكرة المركزية للنزعة الأوراسية في اعتبار روسيا قارة بذاتها، هي «أوراسيا» المترامية على أجزاء واسعة من أوروبا وآسيا. وبالتالي، فإن روسيا هي في آن دولة أوروبية وآسيوية، يقع القسم الأكبر من أراضيها وثرواتها في آسيا، بل إن عمقها الاستراتيجي، الاقتصادي والعسكري، يمتد في رحاب هذه القارة. وهي لم تتحول دولة عظمى لها ثقلها ودورها الفاعل على الصعيد الدولي، إلا بعدما نجحت في القرون الماضية في الخروج من قوقعتها في جزئها الأوروبي، وتمددت جنوباً نحو القوقاز كخطوة على طريق تحقيقها حلمها الدائم في الوصول إلى المياه الدافئة، وشرقاً عبر سيبيريا، وصولاً إلى الشرق الأقصى وشواطئ المحيط الهادئ. تلتقي الاتجاهات المختلفة في التيار الأوراسي على تبني مقولة ماكيندر الذي يعتبر أن المساحة التي تغطيها روسيا من أوراسيا، هي قلب العالم (Heartland)، أو «المحور الجغرافي للتاريخ»، وأن من يسيطر على هذا المدى الجغرافي الواسع يسيطر على العالم. انطلاقاً من ذلك، رأى ماكيندر أن المهمة الرئيسية للجيوبوليتيك الأنغلوسكسوني هي الحيلولة دون قيام حلف قاري استراتيجي حول «المحور الجغرافي للتاريخ»، أي روسيا. وذلك من خلال اعتماد ما أسماه «استراتيجية الثعبان»، الرامية إلى الالتفاف حول روسيا واقتطاع أكبر جزء ممكن من الأراضي المحيطة بها لكبح توسعها الجيوسياسي. من هنا نفهم ما يعتبره الأوراسيّون، والروس عموماً، خطراً وجودياً يتهدد روسيا كدولة وكيان ومجتمع وحضارة. ومن هنا نفهم أيضاً الصراع الدائم مع الغرب، وأخطار الاجتياحات التي كانت تتهدد روسيا من الغرب (نتذكر غزوات نابليون ووصوله إلى موسكو، ثم اندحاره، والأحلاف الفرنسية النمساوية البريطانية ضدها في القرون الماضية، والاجتياح الألماني مرتين في القرن الماضي، والحرب الباردة و»حرب النجوم» والحروب الاقتصادية بقيادة الولايات المتحدة..إلخ). لذا يستنتج الأوراسيّون الروس أنّ المصالح الحيوية لروسيا، تفترض مواجهة هذه الاستراتيجية الأطلسية، باستراتيجية مضادة هدفها إقامة حلف أوراسي قاري (يطلق عليه دوغين اسم «الإمبراطورية الجديدة»)، ويضم الشعوب والدول الأوراسية المتضررة من السياسة الأطلسية. وهو حلف لا يقتصر على الجمهوريات السوفياتية السابقة، بل يتعداها. ويتبين من أطروحات الأوراسيّين على مختلف اتجاهاتهم، أن العالم العربي (أو جزءاً منه) والإسلامي يحتل موقعاً مهماً في الحلف العتيد. في رأينا أن ما يطرحه الأوراسيّون قد يمثل الطريق الذي يمكن أن تسلكه روسيا لمواجهة التحديات الخطيرة، وللحفاظ على كيانها وموقعها ودورها كقوة عظمى. فالغرب لن يقبلها أبداً كجزء مكون منه، وقد كانت دائماً تمثل بالنسبة إليه عالماً غريباً «متوحشاً»، وخطراً يخشاه باستمرار. والعودة إلى تاريخ علاقات الغرب بروسيا يؤكد ذلك. النظرية الرابعة * يتحدث ألكسندر دوغين عما يسمّيه «النظرية السياسيّة الرابعة»، فيرى أنها تستجيب لتحديات ما بعد الحداثة، وستحلّ في رأيه محلّ إيديولوجيات القرن العشرين المركزية: الليبرالية، الاشتراكية والفاشية.. فكيف تعاين مثل هذه النظرية والاستجابة لها، على الأقل في بلد محوري كروسيا.. وهل هذه النظرية بالتعريف، هي عقيدة أم تيار أم نظام أم مشروع مبلور... إلخ؟ ** «النظرية السياسية الرابعة»، التي يطرحها ألكسندر دوغين في كتابه الجديد بهذا العنوان، الصادر في العام 2017، هي محاولة للتأطير النظري لأفكاره ولأفكار التيار الأوراسي الذي يمثله. إنها، في رأينا، عقيدة، أو بالأحرى محاولة لبناء عقيدة ترغب بالتحوّل إلى تيار سياسي منظّم واسع، يؤدّي إلى إقامة أو تحقيق المشروع الأوراسي، أو ما سمّاه دوغين سابقاً «الإمبراطوريّة الأوراسيّة». إنها محاولة لصوغ الأساس النظري لهذا المشروع. وهي نظرية لا تزال في طور التشكّل. ودوغين نفسه يصفها في كتابه الآنف الذكر بأنها «ليست عقيدة جامدة، ليست نظاماً منجزاً، وليست مشروعاً جاهزاً. إنها دعوة للإبداع السياسي، وعرض للحدس والهواجس، وتحليل للظروف الجديدة ومحاولة لإعادة فهم الماضي». ومن المتوقع أن تكون هذه المحاولة الجديدة من هذا المفكّر الذي لا يعرف الهدوء، محور نقاشات واسعة في الأوساط الفكرية والسياسية الروسية، على غرار كل أطروحاته السابقة. فهو، إذ يطرحها كبديل للإيديولوجيات الثلاث التي سادت في القرن العشرين، والتي أعلن موتها أو فشلها، فمن البديهي أن تواجه «نظريته» الجديدة صدّاً ومناقشة اعتراضيّة من أنصار الأيديولوجيتين الاشتراكية والليبرالية، على وجه التحديد، باعتبار أن الفاشية لا أنصار لها عملياً، وفي حال كان هناك من يؤمن بها، فهو لا يجرؤ على إشهار ذلك. مبادئ الفلسفة الأوراسيّة * ثمة تعبير ملفت أطلقه ألكسندر دوغين أكثر من مرة يعتبر فيه الأوراسية «قصيدة سياسية».. ما الذي يعنيه لك مثل هذا التعبير؟ ** بالفعل، وخلافاً لكل كتاباته السابقة، التي حاول فيها دوغين شرح مشروعه الأوراسي وتعليله، والتي اتسمت دائماً بجفاف التحليل العلمي وصرامته، يحاول الباحث في عمله الجديد صوغ نظريته في قالب «شاعري»، «غنائي»، إذا صح التعبير، يضفي على بعض جوانب أطروحاته قدراً كبيراً من المثالية. وهذا ما قد يصبح محطّ انتقاد خصومه، الذين قد يجدون فيها مقاربة عاطفية أكثر منها علمية. يضع الباحث عنواناً للفصل الحادي عشر:»الأوراسية قصيدة سياسية». ويحاول فيه صوغ المبادئ الفلسفية التي تقوم عليها الأوراسية، من وجهة نظره (وهو هنا يدمج الأوراسية بالروسية، أي أن أوراسيا هي روسيا، وروسيا هي أوراسيا). المبدأ الأول للفلسفة الأوراسية يقول: «الشعب هو المحبة»، الشعب هو نتاج فعل الحب، والبشرية هي نتاج محبة الشعوب لنفسها وللشعوب الأخرى. محبة الوطن، محبة الأرض، اللغة... هي خلاصة هذا المبدأ. المبدأ الثاني، هو ما يسمّيه «روح الأرض»، الذي يتجسّد في «الفضاء الحي». والفضاء الأوراسي هنا يُدرك بوصفه حقيقة حيّة مطلقة. هذا الفضاء، هذه المساحة ليست شيئاً مجرداً، وإنما هي عالم حي ملموس. ويضيف: إن العنصر الثاني في الفلسفة الأوراسية يعني «روح الأرض، الإيمان بروح الأرض، احترام روح الأرض، الحوار مع روح الأرض، تقديس روح الأرض». المبدأ الثالث، يقول: «الأبدية بين راحتيك»، بمعنى أن الأبدية مقولة ثابتة. أما الزمن فنسبي. الزمن وهم؛ أما الأبدية فكينونة مطلقة. إنّ تجربة الأبدية هي الفحوى الرئيسي للوعي الأوراسي. ويضيف: «نحن أنصار المطلق، نحن خصوم النسبية» والأبدية مقولة مطلقة. ويخلص الباحث إلى أن المبادئ الثلاثة السابقة تتلخص في مبدأ رابع هو روسيا، روسيا الوطن المطلق، روسيا هي روح أوراسيا، هي حياتها وكيانها، فيها تتجسّد محبة الوطن، وروح الأرض الذي يتجسد في الفضاء الأوراسي، وروسيا الحقيقة المطلقة التي تتجسد في هذا الفضاء. هذا، باختصار، ما سمّاه الباحث «قصيدة سياسية». خشبة الخلاص * المفكرون المحافظون الروس، وفي طليعتهم ألكسندر بانارين، يرون أن على روسيا العودة إلى جذورها البيزنطية الأرثوذكسية، وإلى التقاليد الثقافية الروسية، وذلك لمواجهة إيديولوجيا العولمة الغربية، وتوسّع المشروع النيوليبرالي الغربي، بهدف طرح مشروعها الخاص للعولمة، والذي من شأنه أن يساعد في بناء المجتمع ما بعد الصناعي، سواء أكان في روسيا نفسها أم في العالم عموماً. من وجهة نظرك، هل من حظوظ لعناصر مثل هذه العودة؟ ** للإجابة عن هذا السؤال ينبغي التطرّق بإيجاز إلى ما يعنيه بانارين بالجذور البيزنطية الأرثوذكسية، ولماذا يعتقد بأن العودة إليها تمثل خشبة الخلاص لروسيا في مواجهة المشروع الغربي النيوليبرالي؟. يتحدث بانارين عن هوية روسيا الأرثوذكسية، فيقول إنّ هذه الهوية تشكّلت مع سقوط الإمبراطورية البيزنطية (أو روما الشرقية، كما يسمّيها)، وزوال النير التتري الذي كان يتحكّم بها (بروسيا). فسقوط «روما الشرقية» فرض إلحاحية قيام المملكة الأرثوذكسية في شمال أوروبا (روسيا). وهذا بحد ذاته، حتّم زوال الهيمنة التترية. وهنا يقول بانارين بأنّ «الهوية الروسيّة» تكوّنت وترسّخت في الدرجة الأولى بفضل المثل الأرثوذكسية للمملكة المقدسة، القائمة على الحقيقة العليا والتضحية في سبيل الدين الحق، وليس على أساس الشعور القبلي أو العزة الإمبراطورية، أي أنها هوية فوق قومية، فوق إثنية. وهكذا، يقول بانارين: = لقد نشأت روسيا بالأساس كدولة أرثوذكسية، كرسالة إلهية، تجسّدت فيها قيم الخلاص السامية (من هنا قدسية روسيا ككيان). = ثمة في الخصوصية الروسية تطابق بين الهويتين الإثنية والدينية: الروس كأرثوذكس، والأرثوذكس كروس (نلاحظ هنا تغييباً كاملاً لكل المكوّنات الأخرى القومية – الإثنية والدينية). = «الوحدة الصالحة (التقية) في عالم معادٍ»، أي أن موت بيزنطة أدى إلى بقاء روسيا الأرثوذكسية وحيدة في عالم معادٍ. من هنا، فإن روسيا، حسب رأي الفيلسوف، بحاجة إلى تكون لديها رسالة دينية مخلِّصة. هذه الرسالة بالذات، وليس الدولة الصارمة والقاسية، هي التي تؤمن وحدة المجتمع الروسي، وتمكّنه من توجيه طاقاته العظيمة في الاتجاه الصحيح. والوحدة التي تعيشها روسيا في عالم ما بعد سقوط بيزنطة، تمثل بحد ذاتها حدثاً مفصلياً. فقد حصلت روسيا بذلك على كينونة عليا، وإدراكها لفرادة رسالتها يجعلها تشعر بمغزى هذه الكينونة. إذا كان ألكسندر بانارين في أعماله الأولى يفترض بأنه يمكن تعلّم شيء ما من الحضارة الغربية (وتحديداً الليبرالية)، فإنه لاحقاً اعتبرها شراً وسبباً لمآسي العالم. وهو يؤكد بأن الحديث في العالم المعاصر ينبغي أن يدور حول النزاع بين الحداثة التي يفرضها الغرب، والإرث الثقافي للبشرية جمعاء، وليس عن صراع الحضارات. ويطرح الحضارة البيزنطية، بوصفها البديل لنموذج (باراديغم) الحداثة الغربية. (يؤكد في هذا السياق أن التنوير في روسيا اتسم بخصوصيّة روسية). في آخر كتاب له قبل وفاته «عدم الاستقرار الإستراتيجي» يعرض بانارين هذا البديل، المتمثل في إقامة دولة عالمية لفقراء العالم، في مقابل دولة الأغنياء العالمية. دولة تقوم على التقاليد والثقافة الروحيّة. ونراه هنا يضع في أساس هذه الدولة، إلى جانب الأرثوذكسية، الأدب الروسي ودوره في تكوين إنسان ما بعد الحداثة. وبذلك يربط الفيلسوف الإجابة عن تحديات المستقبل، بروسيا وثقافتها الروحية وأدبها. وكلها، حسب رأيه، مشبعة بالثقافة الأرثوذكسية. أثارت أطروحات بانارين انتقاد القوميين الروس، الذين اعتبروا أنها تنزع روسيا من جذورها القومية وتذوبها في مشروع كوني معولم، ورأوا بأن روسيا لا تحتاج إلى مشروع معولم، بل إلى ما يسمونه «شمولية محلية»، وأن على روسيا أن تدافع عن مواقعها الثقافية والجغرافية، بوصفها دولة قومية وأرثوذكسية في آن واحد. فمشروع بانارين، كما يعتقدون، يؤدي إلى ذوبان روسيا، والهوية القومية الروسية، في عالم متعدد الإثنيات تضيع فيه هذه الهوية. من جهتنا، نرى إن روسيا دولة متعددة القوميات والإثنيات، متعددة الأديان. والمشروع الأرثوذكسي الذي يتحدث عنه بانارين، يُغفل أو يتجاهل الملايين من غير الروس، وكذلك عشرات الملايين من المسلمين الذين يشكّلون جزءاً لا يتجزأ من شعوب روسيا. فهل الكل سيتحولون إلى روس بالمعنى القومي – الإثني، وهل الكل سيصبحون مسيحيين أرثوذكس بالمعنى الديني؟! هنا تكمن نقطة الضعف في المشروع المطروح، التي تجعله غير قابل للتحقق، لأن تحققه يعني تفكك روسيا، روسيا كدولة فيدرالية. ونحن نعتقد أن الخيار الأوراسي يأخذ هذه المسائل بعين الاعتبار، كونه يشمل كل القوميات والإثنيات والأديان التي تتكوّن منها روسيا ومحيطها (أوراسيا)، ضمن المشروع المستقبلي، الواسع والشامل. * وهل تعتقد أنت كخبير في الشأن الروسي إن الاندماج في العالم المتعولم بالنسبة إلى غالبية الروس يشكّل فعلاً مأساة كبيرة وفقداناً للهوية؟ ** علاقة الروس بالعولمة علاقة جدليّة ومعقدة. الإنسان الروسي بطبيعته محافظ، بمعنى أنه متمسّك إلى حد كبير بهويته، بخصوصيته، بوحدانية روسيا وفرادة الثقافة الروسية البالغة الثراء. ثمة قول روسي مأثور يردّده الروس كثيراً، في معرض التأكيد على «الفرادة الروسية»، يقول: «أن تكون روسياً، إنما هي حالة روحية». هذا القول يعبّر في الواقع عن الخصوصيّة الروسيّة وعن انتماء الإنسان الروسي وتمسّكه بهويّته المميزة. سواء أكان ذلك على مستوى الإنسان العادي، أم على مستوى المفكّرين والشعراء والأدباء. بدهي أن العولمة، بمستوياتها المختلفة: الاقتصادية، السياسية، الإعلامية، الثقافية، الحياتية اليومية، تترك آثارها وبصماتها على الإنسان الروسي، على سلوكه وعلاقاته الاجتماعية، وعلى المجتمع الروسي الذي يتحوّل إلى مجتمع استهلاكي على النمط الغربي. كل ذلك، يشكّل في نظر الكثيرين معضلة، بل ومأساة فعلية، قد تقود مع الوقت إلى ضياع الكثير من مكوّنات الشخصية الروسية المميزة، وتجعل المثل الآنف الذكر مجرد شعار أجوف. من يتواصل مع الجيل الشاب من الروس اليوم، جيل بدايات القرن الحادي والعشرين، الذين ولدوا وترعرعوا في الحقبة ما بعد السوفياتية، يعجب لمدى جهل هؤلاء لتاريخهم البعيد، وحتى القريب (وهذه ظاهرة غريبة على المجتمع الروسي/‏‏‏ السوفياتي، الشديد الاعتزاز بتاريخه)، وغربتهم عن الثقافة الروسية، عن التراث الأدبي الروسي الغني (عُرف عن الإنسان الروسي بأنه من أكثر الشعوب قراءة وتعلّقاً بالكتب، ويكاد هذا الأمر يصبح اليوم من الماضي). يشكّل هذا الأمر اليوم، قلقاً جدياً على الهوية الروسية في الأوساط الاجتماعية والثقافية والسياسية. وهو ما دفعها إلى الاستفاقة مؤخراً، والعمل على إحياء التقاليد التي تعزّز الهوية وكل ما كان يشكّل مكوّناتها الأساسية. هل ثمة خطر على الهوية؟ نعم، الخطر قائم. ثمة صراع بين آلة العولمة والتعلق بالهوية. ما هو مآل هذا الصراع؟ نترك الجواب للمستقبل. ثقافة المجتمعات الروسية * ماذا عن «جماعة الأرض» في روسيا، وهم تيار أدبي واتجاه في الفكر الاجتماعي والفلسفي انتشر في القرن التاسع عشر، وظهر له مؤيدون كثر في الآونة الأخيرة.. ما ثقل مشروع هؤلاء؟ وكيف هي علاقتهم بالثقافة الغربية بوجوهها المختلفة؟ ** «جماعة الأرض» (حرفياً، جماعة، أو أهل التربة) هم تيار أدبي واتجاه في الفكر الاجتماعي والفلسفي، انتشر في روسيا في ستينيات القرن التاسع عشر، وظهر له مؤيدون في الآونة الأخيرة. قال أصحابه بالرسالة الخاصة للشعب الروسي، المتمثلة في إنقاذ البشرية جمعاء، ونادوا بفكرة التقارب بين «المجتمع المتعلّم» والشعب، على أساس «التربة» الشعبية أو الوطنية والعرى الدينية – الأخلاقية. عارض ممثلو هذا التيار طبقة النبلاء الإقطاعيين والبيروقراطية، ودعوا إلى اندماج الإنتلجنسيا وممثليها مع الشعب، ورأوا في ذلك الضمانة لتقدّم روسيا في مواجهتها مع الغرب. دعوا إلى تطوير الصناعة والتجارة وحرية الفرد والصحافة. وهم، إذ تقبّلوا الثقافة الأوروبية، فإنهم عرّوا في الوقت نفسه «الغرب العفن» وبرجوازيته وماديته، ونبذوا الأفكار الثورية والاشتراكية والمادية، رافعين مقابلها راية المثل المسيحية. برزت ملامح هذا التيار في المؤلفات الفلسفية لنيقولاي دانيليفسكي وفي «مذكرات كاتب» لدوستويفسكي. صاغ دوستويفسكي المبادئ التي أشرنا إليها في مقالة نشرها في سبتمبر/‏‏‏ أيلول 1860، واعتبرت بمثابة «بيان جماعة الأرض»، وأعلن بأن هذه المبادئ تقوم على ما أسماه «الفكرة الروسية» التي تجسّد الإيمان بـ «الأصالة الروسية»، والتي تتلخص في «رسالة» الشعب الروسي تجاه البشرية جمعاء. ورغم قربهم الفكري من «التيار السلافي»، حاول دعاة هذا التيار سلوك خط وسطي، «محايد» إلى حد ما بين «التيار السلافي» الذي ينقض التوجّه الغربي بالكامل، و»»التيار الغربي» الذي لا يرى مستقبلاً لروسيا إلا في التصاقها بالغرب وبالثقافة الغربية. من أبرز ممثلي هذا التيار في القرن العشرين، الأدباء: ألكسندر سولجينيتسن، فالنتين راسبوتين، فاسيلي بيلوف، فاسيلي شوكشين وغيرهم. (الكاتب المعروف راسبوتين، مثلاً، عارض البيريستوريكا والتوجه الليبرالي الذي حكم روسيا في التسعينيات، واعتبر أن خلاص روسيا يمر عبر العلاج بالصدمة، فعبر آلام ولادة الجديد ستنهض روسيا الحديثة. ردّ عليهم راسبوتين بجملته الشهيرة: «أنتم تريدون هزات عظيمة، ونحن نريد بلداً عظيماً»). أحد أبرز ممثلي هذا التيار في القرن الحادي والعشرين الفيلسوف والشاعر فلاديمير ميكوشوفيتش، الذي يرى أن المَلكية هي أفضل نظام سياسي يصلح لروسيا، ويعبّر عن ذلك بشعار «إصلاح السفن القديمة»، بمعنى إعادة إنتاج نظام ملكي عصري. كما نرى، يختلط القومي، بالديني (المسيحي)، بالانتماء السلافي، مع ميل لعدم القطيعة مع الثقافة الأوروبية، في فكر «جماعة الأرض». ينحصر هذا التيار اليوم (كما في السابق) على المستوى الفكري، الأدبي والثقافي عموماً. وتعبّر عنه شخصيات ثقافية (أدباء، شعراء، فلاسفة، فنانون..) بارزة، تركت أفكارهم وتترك آثاراً عميقة في الوجدان الروسي، ولكنه غير مؤطر تنظيمياً أو سياسياً، ولا نرى له أيّ تأثير مباشر اليوم على رسم السياسات في روسيا المعاصرة. قصيدة الأوراسية تقوم قصيدة الأوراسية على أربعة مبادئ هي: 1- «الشعب هو المحبة»، والبشرية هي نتاج محبة الشعوب لنفسها وللشعوب الأخرى. 2- «روح الأرض»، ويعني الإيمان بروح الأرض، واحترامها والحوار معها وتقديسها. 3- «الأبدية بين راحتيك»، بمعنى أن الأبدية كينونة مطلقة، وتجربة الأبدية هي فحوى الوعي الأوراسي. 4- المبادئ الثلاثة السابقة تتلخص في مبدأ رابع هو روسيا، روسيا الوطن المطلق، روسيا هي روح أوراسيا، هي حياتها وكيانها. غربة المثقف * إذا أردت أن ترسم، ولو خطوطاً عريضة عامة، لغربة المثقف الروسي اليوم، فكيف ترسمها؟ ** إذا فهمنا السؤال بمعنى غربة المثقف الروسي عن المجتمع، فلا نعتقد أن هذا التوصيف دقيق. ثمة مثقفون، وهم ينتمون إلى تيارات فكرية، فلسفية، أدبية، فنية، سياسية، مختلفة ومتباينة. ونحن لا نرى، أن «المثقف الروسي»، إذا وافقنا على هذا التعبير، يعيش في برج عاجي. فالمثقفون الروس، إن لم يكونوا كلهم، فغالبيتهم منخرطون في الحياة الاجتماعية والسياسية، ويتفاعلون معها، كل حسب أهوائه وانتماءاته الفكرية والسياسية، والتي قد تكون متعارضة أو حتى متصارعة أحياناً. إن ما ميّز الحياة الثقافية في روسيا تاريخياً، هو أن رجال الثقافة، كانوا دائماً جزءاً فاعلاً ومؤثراً في الحياة الاجتماعية، وبعضهم لعب أدواراً مؤثرة وفاعلة. منهم على سبيل المثال، بوشكين، تولستوي، دوستويفسكي، غوغول... وفي العصر الحديث: ماياكوفسكي، غوركي، يسينين، أخماتوفا، شولوخوف، راسبوتين، سولجينتسين، بانارين، دوغين.. وغيرهم. الحلف العتيد مواجهة الاستراتيجية الأطلسية تتم باستراتيجية مضادة هدفها إقامة حلف أوراسي قاري (يطلق عليه دوغين اسم «الإمبراطورية الجديدة»)، ويضم الشعوب والدول الأوراسية المتضررة من السياسة الأطلسية. وهو حلف لا يقتصر على الجمهوريات السوفياتية السابقة، بل يتعداها. ويتبين من أطروحات الأوراسيّين على مختلف اتجاهاتهم، أن العالم العربي (أو جزءاً منه) والإسلامي يحتل موقعاً مهماً في الحلف العتيد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©